كتبت – أماني ربيع
في صحراء كالاهاري القاحلة أو كما يطلق عليها “الأرض الغاضبة”؛ حيث لا مكان للون الأخضر؛ فالأشجار جافة ملقاة كجثث محنطة، والشمس حارقة لا تهادن، يمشون لا مبالين، فهم يعرفون جيدًا كيف يجتازون دروب الصحراء، كما لو كانت محفورة على أيديهم.
إنهم “البوشمن” أو رجال الأدغال، أو “سان”، وتعني “الذين لا يملكون”، كلها مسميات لقبيلة واحدة تستوطن “كالاهاري”، ليسوا محاربين كالماساي والزولو، هم صيادون يعيشون على الجمع والالتقاط كما كان يفعل الإنسان البدائي في أول ظهوره على الأرض، إذا أردت معرفة أسرارهم فعليك أن تتبعهم وهم يعبرون من سيادة دولة لأخرى، فنداء الطبيعة لديهم أقوى من الحدود الجغرافية.
عبر آلاف السنين تعلم البوشمن كيف ينجون في بيئة قاسية، باستخدام خبراتهم القديمة، ومعرفتهم الواسعة بالنباتات وسلوك الحيوانات ومهارات البقاء، مثل اصطياد المياه من قلب البطيخ الصحراوي.
البوشمن قبائل معروفة بصلتها العميقة بأرضها، ومعرفتها الوثيقة بالصحراء التي مكنتها من حفظ التوازن والعيش في وئام مع البيئة، التي استقروا فيها منذ أكثر من 20 ألف سنة.
السكان الأصليون
هم السكان الأصليون لجنوب أفريقيا، ولم يتبق منهم الآن سوى 100 ألف شخص يتوزعون في بوتسوانا وناميبيا وجنوب أفريقيا وزامبيا، يعيشون حياة بدائية عن طريق صيد الحيوانات البرية وجمع الفواكه وبذور المكسرات.
يتشارك شعب “السان” في الروابط التاريخية واللغوية، وهناك مسميات عديدة لهم مثل “Bushman” و”San” و”Basarwa” في بوتسوانا.
جاءت تسمية “bushman” من المصطلح الهولندي “bossiesman”، الذي يعني “قطاع الطرق” أو “الخارج عن القانون”، وسموا بذلك بسبب معركتهم الطويلة ضد المستعمرين، ويعتبرها “السان” إشارة وفخرًا بتاريخ قتالهم الشجاع من أجل التحرر من سيطرة الاستعمار.
يتحدث “البوشمن” لهجات عديدة لمجموعة من اللغات المعروفة باسم “النقرات” المميزة التي يمكن سماعها عند النطق، والتي يتم تمثيلها في الكتابة برموز مثل! أو /.
وتتألف مجتمعاتهم من مجموعات صغيرة متنقلة، وتضم حوالي 25 رجلاً وامرأة وطفلًا. في أوقات معينة من العام، تنضم المجموعات لتبادل الأخبار والهدايا، وترتيبات الزواج والمناسبات الاجتماعية.
لم يعرف البوشمن تدجين الحيوانات أو الزراعة، على الرغم من معرفتهم الواسعة بالنباتات والحيوانات، حيث صنفوا آلاف النباتات واستخداماتها من الغذائية إلى الطبية إلى المميتة، ويتمتع رجال “البوشمن” بسمعة هائلة كمتعقبين للآثار وصيادين، يتتبع رجل البوشمن مسارات الحيوانات عبر أي نوع من السطح، وفي أي تضاريس، ويعرفون كيف يميزون بين أثر الحيوان المصاب وبقية القطيع، من جفاف وصلابة الروث يعرف “المتتبع” متى مر الحيوان، وعن طريق ملاحظة أعشاش النمل الأبيض التي هدمها أثناء سيره، ويعرف البوشمن جيدًا كم من الوقت يستغرق النمل في بناء الأعشاش من جديد، وبالخبرة يعرف متى يستعيد العشب شكله بعد مرور الحيوان فوقه، ومتى يعاود العنكبوت نسج شباكه.
في مجتمع البوشمن لا يوجد رئيس أو حاكم، إنهم يحكمون أنفسهم كمجموعة بالتوافق، يتم حل النزاعات عبر النقاشات المطولة، والجميع لديه الفرصة لمشاركة أفكاره حتى يتم التوصل لاتفاق، وقد يتولى بعض الأفراد القيادة في مجالات معينة يتفوقون فيها مثل الصيد، لكن لا أحد يحقق منصبًا أو يصبح ذا نفوذ أو قوة، والأرض مِلْك المجموعة، والمجتمع قائم على المساواة، هذا النظام أربك المستعمر الأوروبي عندما حاول إبرام معاهدات معهم.
يأكل البوشمن اللحوم والخضروات، يأتون باللحوم من صيد الظباء والحمير الوحشية والأرانب البرية والزراف والأسماك والخشرات والثعابين والعسل البري، لا يضيعون أي جزء من جسد الحيوان؛ فالجلود تتحول لبطانيات، والعظام يتم تفريغها لتصبح أوعية، وبسبب صعوبة الحصول على المياه، يلجأون في موسم الجفاف للضغط على جذور النباتات لاستخراج المياه منها، ويحفرون ثقوبا في الرمال للعثور على المياه، ويحملونها في قشور بيض النعام.
يصطادون حيواناتهم بالقوس والسهم، والسهم لا يقتل الحيوان على الفور، ويتكفل السم بذلك، تصنع النساء الأسهم، يمسحن العود في الرماد ويلطخن نهايته بالقار الذي يضعنه في وعاء فخاري ويغلفنه بلحاء الشجر ويضعن في نهايته ثلمًا يسمح بمرور وتر القوس وفي الطرف الآخر يغرسن قطعا مدببة من عظام الزراف ويلطخن قطعة العظام بالسم المحفوظ في قرن وعل بري، والسم يصيب الأعصاب ولا ينتشر في جسد الحيوان كله، يتعقب الصيادون الحيوان لعدة أيام قرب الأنهار الكبيرة بانتظار أن يأتي للشرب، يحفرون في مساره حفرة توضع فيها أوتاد حادة ما إن يعبر فوقها الحيوان يسقط.
يعرفون اتجاه الريح وقوتها، عبر إلقاء حفنة من الغبار في الهواء، يحملون حقيبة جلدية على كتفٍ واحدٍ تحتوي ممتلكاتهم الشخصية، أدوية وسهام، ولديهم عصاة طويلة يستخدمونها في الاستكشاف واستخراج الأرانب من جحورها.
الصيد جهد جماعي، والرجل الذي رشق الحيوان بسهمه يحق له توزيع اللحوم على أفراد القبيلة والزوار، ويتم الترحيب بهم للمشاركة في الوجبة، على أن يردوا الوليمة في وقت لاحق، لكن الأطعمة النباتية التي تجمعها النساء، لا يتم تقاسمها وتتناولها الأسرة المباشرة للمرأة.
فن وروحانيات
ورغم الحياة البدائية للبوشمن إلا أنها لم تكن خالية من الفن، فكانوا يرسمون على الصخور رسومات، رأى كثير من علماء الأنثروبولوجيا أنها تحمل معاني دينية وروحانية، وليست مجرد تصويرًا للحياة اليومية.
رسموا حيوان “الإيلاند” -وهو نوع من الظباء- على الصخور، وهو حيوان مقدس لديه أهمية رمزية ودينية عندهم، ويعتبرون أن وضع الطلاء على الصخور يفتح بوابات إلى عالم الروح، كما تم العثور على لوحات صخرية للبوشمن في المناطق الصخرية من مقاطعات كوازولو ناتال والكاب الشرقية والكاب الغربية، يستخدمون اللون الأحمر بشكل أساسي في رسوماتهم، ثم البرتقالي فالبني والأبيض والأسود والأصفر، لم يستخدموا الأزرق والأخضر قط، يستخرجون اللون الأحمر من حجر الهمياتيت أو “المغرة الحمراء”، والأصفر من الليمونيت أو “المغرة الصفراء”.
واستخدموا أيضا أكسيد المنجنيز والفحم الأسود، كم استخرجوا الألوان من فضلات الطيور والكاولين، ودماء الحيوانات، ورسوماتهم تتسم بالبساطة؛ فالأشكال البشرية مبسطة، ومعظم اللوحات تحمل موضوعًا روحيًّا أساسيًّا، ويعتقد أنها تمثل الاحتفالات والطقوس الدينية.
يعتقد “البوشمن” في إله واحد قوي، وبعضهم يبجل أرواح الأسلاف، وآخرون يبجلون القمر، بينما البوشمن الجنوبيون يجلون كائنًا روحيًّا يدعى “Kaggen”، يمكن أن يتحول إلى ظبي عملاق أو أرنب أو ثعبان أو نسر، وعندما لا يتخذ شكل حيوان يعيش حياة رجل بوشمن عادي.
كما قلنا: إن “إيلاند” هو الحيوان الأكثر روحية ويظهر في طقوس مثل سن البلوغ والزواج، ورقصة الشفاء أو الغيبوبة.
أهم طقس هو طقس البلوغ؛ حيث يتم تعليم الصبي كيفية تتبع الإيلاند وإسقاطه بالسهم، ويصبح الولد بالغًا عندما يقتل أول ظبي كبير.
أما بالنسبة للبنات، فيتم عزل الفتاة في كوخها عندما يزورها الحيض الأول، وتؤدي النساء رقصة Eland Bull اللاتي يقلدن فيها سلوك التزاوج بين الإيلاند، ويلعب الرجل دور الثور واضعًا القرون على رأسه، ويعتبرون أن إتمام هذه الطقوس يمنع عن الفتاة الجوع والعطش ويحفظها.
أما في طقوس الزواج يعطي الرجل دهونًا من قلب الإيلاند إلى والدي الفتاة، بعدها يتم مسح وجه الفتاة بالدهن في رقصة الغيبوبة.
يمتلك البوشمن تقاليد شفهية واسعة وثرية، وتتضمن حكاياتهم قصصًا عن الآلهة، وهي قصص تعبر عن أخلاقيات شعبهم وتراثهم.
من أهم الأولويات لدى البوشمن رقصة الشفاء الطقسية، التي يشارك فيها جميع أفراد المجموعة؛ النساء يجلسن حول النار موقدة في المنتصف، ويصفقن بأيديهن، ثم يرقص الرجال حول النساء في اتجاه عقارب الساعة ثم العكس، ومع ازدياد حدة الرقصة يصل الراقصون إلى حالة تشبه الغيبوبة، ويجولون في عالم الروح، حيث يناشدون الإله المتسبب في المرض بشفاء المرضى، وصورت رقصة الشفاء على اللوحات الصخري التي تركها البوشمن.
تاريخ مؤسف
وللبوشمن” تاريخ مؤسف من الفقر والرفض الاجتماعي، وانحدار الهوية الثقافية، والتمييز ضدهم كمجموعة، رغم أنه مصدر لاهتمام علماء الأنثروبولوجيا وصناع الأفلام الوثائقية بسبب مهاراتهم في البقاء على قيد الحياة، وخبرتهم الثرية بالنباتات والحيوانات في المنطقة التي يعيشون بها، بالإضافة إلى تراثهم الثقافي الغني.
وعندما وصل المستعمر الأبيض في منتصف القرن السابع عشر كانت البلاد تسكنها 3 مجموعات مختلفة، “الصيادون الجامعون” من البوشمن، والرعاة “الخويخوي”، والمزارعون من البانتو، و “نجوني”، وهم مجموعة من متحدثي لغة البانتو التي تضم، “الزولو والخوزا والسوازي والنديبيلي”، وتزاوجوا معهم، وأدمجوا بعض لهجاتهم مع لهجات البوشمن، لكن طبيعة الصياد داخل البوشمن لا تستطيع الحياة بجانب مجتمع مستقر.
تناقص عدد البوشمن كثيرا خلال حربهم مع المستعمر الأوروبي، ولم تستطع مهارات البقاء لديهم مجاراة طلقات الرصاص، لكنهم ظلوا يقاتلون حتى الموت، حيث فضلوا الموت بشرف عن الإجبار على حياة الرق.
وكان صيد البوشمن نشاطًا رياضيًّا مسموحًا به، وفي عام 1870 انقرض آخر أفراد البوشمن في منطقة الكيب بسبب كثرة الصيد، وآخر رخصة تسمح بصيد البوشمن أصدرتها ناميبيا عام 1936.
دمر الاستعمار طريقة حياة البوشمن التي تعتمد على الهجرة المستمرة، حيث صيدت قطعان الماشية التي استقدموها، وأتلفت الثمار التي كانت تشكل الإمدادت الرئيسية لطعام البوشمن، وردمت الآبار، وكانت أحيانا تحدث إبادة جماعية لمجموعات بأكملها، ومن تحول منهم إلى مزارعين فقد هويته الاجتماعية والثقافية للأبد.
حرب قضائية
عاش الآلاف من البوشمن في مساحات شاسعة من صحراء كالاهاري منذ زمن بعيد، لكن اليوم تم نقل معظمهم، رغم رفضهم، وتم إجبارهم على ترك مكانهم بالقوة إلى معسكرات إعادة التوطين التي أقامتها الحكومة بعيدًا عن موطنهم الأصلي.
يعيشون بلا حقوق في ظروف معادية لطبيعتهم، ولسنوات ظلوا في خلاف مع حكومة بوتسوانا ودخلوا في معارك قانونية حول حقهم في العيش داخل المحمية في قلب الصحراء، ومواصلة أسلوب حياتهم التقليدي كصيادين، فهم يرفضون نمط الحياة الجديد الذي يُفقدهم حواسهم المرهفة وخبراتهم بالصحراء، لكن الحكومة كانت صارمة في هذا الشأن، ومن رفض ترك الديار، حرموه من الحصول على المياه داخل المحمية، فكانوا يردمون الآبار، ويمنعونهم من الحفر بحثًا عن آبار جديدة.
تم إخلاء آخرهم من محمية كالاهاري في أبريل 2002، ورفعوا قضايا على الحكومة؛ لأن طردهم غير قانوني، ولم يتم البدء في الاستماع للأدلة حتى عام 2004.
وقام 239 شخصًا بالغًا من البوشمن برفع قضية باسمهم، وطلب 135 شخصًا آخر إضافتهم مع أطفالهم، ومن أصل 239 من البوشمن ، مات 12٪ منهم في انتظار العدالة.
وخلال المداولة في القضية، حاول العديد من البوشمن العودة إلى وطنهم في المحمية، لكن تم إجلاؤهم مجددًا، حتى ألغت الحكومة رسميا القانون الذي يحمي حقوق البوشمن في دستور بوتسوانا.
في 13 ديسمبر 2006 حقق البوشمن انتصارًا تاريخيًّا، حيث قضت المحكمة أن إخلاءهم كان غير دستوري، وأن من حقهم العيش داخل المحمية على أرض أجدادهم، والصيد والجمع في المحمية، ويجب ألا يضطروا إلى التقدم بطلب للحصول على تصاريح لدخولها، لكن الحكومة بذلت كل ما في وسعها لعرقلة ذلك الحكم، وسمحت لعدد قليل ممن ظهرت أسماؤهم في أوراق المحكمة بالعودة، لكن الأمر لم يكن جيدًا جدًّا، كما يقول أحد هؤلاء الذين حكمت لهم المحكمة بالعودة، روي سيسانا، “لم أشعر بالنصر، فأنا أعيش بين المحمية وبين معسكر إعادة التوطين لأكون قريبا من عائلتي وشعبي، لقد انفصلنا عن أطفالنا وزوجاتنا، ما نوع هذه الحياة؟! لم نفعل شيئا يستحق كل هذا!”.
يقول سيسانا: “لقد اعتدنا على إطعام أنفسنا، الآن نعتمد على المساعدات الحكومية ، لقد أصبحنا كسولين وأغبياء”.
ويضيف: “نحن الآن نعامل كالكلاب، الكلب هو الشيء الوحيد الذي لا يستطيع إحضار طعامه إلى المنزل، عليه انتظار مالكه ليقدم له بعض الطعام”.
في عام 2010، أخذ البوشمن الحكومة إلى المحكمة مرة أخرى في محاولة للوصول إلى المياه داخل المحمية، رفض القاضي قضيتهم، لكن في يناير 2011، ألغت محكمة الاستئناف في بوتسوانا القرار، وأدانت “المعاملة المهينة” من قبل الحكومة للبوشمن.
وصفت محكمة الاستئناف في بوتسوانا، في حكم صدر عام 2011 حول الأزمة، محنة البوشمن بأنها “قصة مروعة للمعاناة واليأس الإنسانيين”، وحكمت بالسماح لهم بالحصول على المياه، وهي أوامر تجاهلها المسؤولون بأكثر من حجة، حيث يقولون: إن نقلهم يهدف للحفاظ على الحياة البرية والنظم الإيكولوجية للمحمية الشاسعة التي تتجاوز مساحتها دولة الدنمارك.
قضيتان ناجحتان في المحكمة لم تردع محاولات الحكومة لاقتلاع البوشمن من أراضيهم، ففي عام 2013 عاد رجال البوشمن مرة أخرى إلى المحكمة للمطالبة بحرية الوصول إلى الماء، ومنع محامي البوشمن جوردون بينيت من دخول بوتسوانا، ورفضت قضيتهم بعد ذلك، ليبقوا دون ممثل قانوني لهم في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
مع الوقت، أدركت جماعات حقوق الإنسان والبوشمن أنفسهم أن هناك سببا آخر خبيثا وراء هذا التعسف، حيث يعتبر التعدين من الصناعات الرئيسية في بوتسوانا، وتقع أراضي أجداد البوشمن في وسط أغنى حقل ألماس في العالم، لذا فنقلهم يفسح المجال لمشاريع تعدين سوف تدر ملايين الدولارات.
وفي مايو 2007 ، باعت De Beers ودائعها في Gope داخل كالاهاري إلى Gem Diamonds، مقابل 34 مليون دولار، بسبب النزاعات مع البوشمن.
وذكرت شركة Gem Diamonds أن منجم Gope، الذي تم تسميته الآن باسم “Ghaghoo”، يحتوي مخزون ألماس بقيمة 4 مليارات دولار تقريبًا، وتم افتتاح المنجم رسميا في سبتمبر 2014، بعد موافقة الحكومة البوتسوانية على التعدين فيه، ومنع البوشمن من الوصول إلى المياه في المنطقة.
لكن الحكومة أنكرت وجود أي صلات بين عمليات الترحيل والبحث عن الماس الذي اكتشف لأول مرة في الثمانينيات، قدمت الحكومة في معسكرات إعادة التوطين، العيادات والمدارس والمنازل الخرسانية لدمج البوشمن في الحياة الحديثة، لكن الحياة الحديثة لا تناسب الجميع، لقد بنى “البوشمن” أكواخًا في أفنية منازلهم لتذكرهم بالأوقات السعيدة وحياتهم التقليدية البسيطة.
أعيدونا إلى أرض الأجداد
في “New Xade” أحد معسكرات إعادة التوطين على بعد ساعة من مدينة “خانزي” غرب بوتسوانا، حيث يتم توطين “البوشمن” أول سكان جنوب أفريقيا في مكانهم الجديد، لكنهم غير سعداء بهذا الشرف.
تمتلئ عيون شباب البوشمن في المعسكر بالغضب عندما يتحدثون عن حياتهم الجديدة، إنهم يحنون إلى موطنهم الأصلي الذي أصبح الآن جزءا من محمية كالاهاري.
تركع الأختين بويتوميلو لوبيلو، 25 عامًا، وجويوتسون لوبيلو، 21 عامًا، أمام حوض من المياه القذرة، تغسلان ملابس أطفالهما.
تقول جويوتسيون: “أفتقد منزلي، وطريقة عيشنا، كانت الحياة سهلة، وكان هناك الكثير من الفاكهة والحيوانات ولم تكن هناك حانات ولا بيرة، والآن لم يعد لدينا شيء”.
سمحت لهم الحكومة بزيارة موطنهم الأصلي عدة مرات، لكن لم يعد يسمح لهم بالبقاء، جاء الأختان لوبيلو إلى المعسكر مع والديهما في عمري التاسعة والخامسة، وعندما تتحدثان عن حياتهما القديمة تلمح في عيونهما نظرة إعزاز، كانتا تستيقظان كل صباح للانضمام لنساء القرية في جمع التوت والجوز والثمار لتناول الطعام.
كما تتذكران الأيام السعيدة، تتذكران أيضا اليوم الذي أجبروا فيه على المغادرة.
وفي حوار مع “بي بي سي” البريطانية، تقول جويوتسيون: “جاءت الشرطة ودمرت منازلنا، وألقتنا في الشاحنات بأمتعتنا، وأتت بنا إلى هنا، ألقوا بنا هنا كما لو أننا لا شيء”.
تمثل الفتاتان الجيل الجديد من “البوشمن”، تذهبن إلى المدرسة لتعلم اللغة الإنجليزية، واللغة البوتسوانية وهي اللغات الأكثر انتشارًا في البلاد، لكنهما ساخطات على نمط الحياة باهظ الثمن.
تقول بويتوميلو: “هنا عرفنا الإيدز وغيره من الأمراض التي لم نكن ندري بها، الشباب يشربون الخمر، والفتيات الصغيرات ينجبن أطفالا، كل شيء خاطئ هنا”.
لطالما كان البوشمن صيادين، ولم يتعلموا أبدًا المهارات اللازمة لتربية الماشية، ومعدل البطالة لدى مجتمعهم الجديد مرتفعة؛ لأنهم يفتقرون لأي خبرة تمكنهم من العيش في المجتمعات الحديثة، لذا ترى الحانات مزدحمة بالشباب، رغم أن كل عائلة أعطيت خمسا من الماشية أو الماعز لتشجيعهم على أن يصبحوا مزارعين؛ لكنهم يقولون: إن دفع شخصٍ ما للحياة وفق نمطٍ معين لا يعرفه يجعله يواجه كثيرًا من الصعوبات.
يقول أحد مزارعي “البوشمن”، جوماندا جاليكيبوني: “لا يعرف شعبنا كيفية الاعتناء بالأبقار عندما تمرض، ولا نعرف شيئًا عن أمراض الماشية مثل مرض الحمى القلاعية”.
يريدون العودة إلى موطنهم، هذه رغبة جماعية، فالحياة الحديثة لا تناسبهم، ولا زال الكثير منهم يهرب إلى المحمية، لكن يتم القبض عليهم ومعاقبتهم؛ لذا يبدو أنه لا خيار لديهم سوى التغيير والتكيف، لكن تخيل كيف تجر رجلًا من العصر الحجري جرًّا إلى القرن الحادي والعشرين.
تطالب جماعات حقوق الإنسان الدولية بمقاطعة صناعة السياحة في بوتسوانا، وهي ثاني أكبر مصدر للدخل حتى تتوقف الحكومة عن اضطهاد أول سكان البلاد.
وإذا كانت الحكومة تضطهدهم بحجة أن الحياة البرية في تراجع، فقد عاش البوشمن آلاف السنين في هذه الأرض في وئام مع البيئة، وطرقهم في الصيد والحياة مستدامة من الناحية البيئية، وهو ما يؤكد أن الحياة البيئية ليست وراء إجلائهم من أرض الأجداد.
حتى الآن، يحاول البوشمن الاحتفاظ ببعض ممارساتهم القديمة، لكنهم مضطرون أيضًا للتنازل للحياة العصرية، لكن يبدو أنهم سيتعرضون للانقراض، ولن نراهم إلا في المتاحف الوطنية، ولن نسمع عن ثقافتهم وتقاليدهم إلا في المجلات التاريخية.