كتبت – أماني ربيع
“هناك في طيبة تلمع أكوام الذهب، طيبة ذات المئة باب، حيث يمر في خطوة عسكرية، 400 من الرجال بخيلهم ومركباتهم، من كل باب من أبوابها الضخمة”.
ظلت طيبة المدينة المترعة بالمعابد المهيبة ذات الأعمدة الممتدة إلى السماء، عاصمة لمصر حتى بداية الأسرة السادسة، حيث انتقلت العاصمة إلى مدينة منف في الشمال، ومر عليها أسماء كثيرة منها: مدينة المائة باب، ومدينة الشمس، ومدينة النور، ومدينة الصولجان، وأصبح اسمها الأقصر مع قدوم الفتح الإسلامي لمصر.
تبعد الأقصر 620 كم جنوباً، عن القاهرة، يشقها النيل بران شرقي حيث الحياة، وغربي حيث تغرب الشمس وتغرب الحياة إلى العالم الآخر، الذي تعلم المصري القديم أنه الغاية الحقيقية من حياته ومحطة الوصول النهائي.
واحتفاء بالحياة الآخرة، رصع المصريون القدماء البر الغربي للأقصر بمعابد للابتهال، ومقابر بديعة تذكرهم بمكان حياتهم الأولى، كان أهلها يعيشون مع المومياوات والتماثيل التي تلمع رؤوسها من وقت لآخر بين الرمال، حتى جاء هوارد كارتر وكشف النقاب في نوفمبر عام 1922 عن أهم كشف أثري على مر العصور، وضع الأقصر في الصدارة مجددا وسلط الأضواء على فرادتها وقيمتها التاريخية التي تتجاوز العقل، مقبرة الفرعون الصغير توت عنخ آمون.
أذهلت كنوز المقبرة أعين الغرب ومثلت فصلا جديدا في فصول إبهار الحضارة المصرية القديمة للعصر الجديد، حيث تعد أول مقبرة كاملة يتم العثور عليها، وتشمل مقتنياتها أكثر من 5000 قطعة من قطع الأثاث البديع المطلي بالذهب والتوابيت والصناديق المطعمة بالجواهر والعاج، والأواني المرمرية والحلي، والتماثيل وبالطبع قناة توت عنخ آمون الشهير.
وأصبح يوم اكتشاف المقبرة عيدا قوميا للأقصر التي تستحوذ على نحو 45% من إجمالي زائري مصر.
متحف مفتوح
في الأقصر سيحيطك جلال التاريخ من كل جانب، وفي كل مكان سيقابلك أثرا ناطقا بما كان في الماضي، ستندهش من كم الأماكن التي عليك زيارتها، ومنها: معبد الأقصر، ومعبد الكرنك، وحتشبسوت، والرمسيوم، وكذلك مقابر وادي الملوك ووادي الملكات، حيث مقبرة الملكة نفرتاري.
ولا ننسى آيات المصري القديم في النحت، ومنها تمثال ممنون، وحتى محبي سياحة المتاحف سيجدون ضالتهم في متحف الأقصر الكبير، ومتحف التحنيط، والمتحف الخاص بالتمساح، ذلك الحيوان البرمائي الذي سكن النيل واحتل مكانة في الحضارة المصرية القديمة.
وإذا كنت رتبت جولة لزيارة الأقصر فيفضل أن تذهب إليها في رحلة نيلية لتستمتع بمشاهدة النهر الخالد جوهر الحضارة لدى المصريين وباعث الحياة فيها، وعند وصولك ستقابلك الوجوه السمراء التي تبدو امتدادا للرسومات التي تصور المصريين القدماء على جدران المعابد، سيمنحك الأحفاد مفاتيح المدينة ويفكون طلاسم رموزها أمامك.
لا تنسى تجربة النزهة على الحنطور حيث أرجل الخيل تدق مختالة في مدينتها الجميلة وحيث تصطف المراكب النيلية مع النسمات المنعشة تدعوك للغوص في أحضان حضارة لا زالت رغم انتهاء عصرها حاضرة في الزمان والمكان.
ولتضع في قائمتك أولا زيارة مجمع معابد الكرنك الذي يضم:
الكرنك
يضم مجمع معابد الكرنك معابد الإله “آمون” وزوجته الآلهة “موت” وابنها الإله “خنسو” إله القمر، وعرف منذ الفتح العربي باسم الكرنك وتعني “الحصن”
تناوب على تشييده والإضافة إليه العديد من الملوك من سيتي الثاني ورمسيس الثاني والثالث ونختبو وحتشبسوت، تقربا إلى الآلهة، وطمعا في كسب محبة الشعب، يلف الظلام معبد آمون رع حيث قدس الأقداس، ومنه إلى فناء واسع يستلقي في ضوء الشمس، وصولا إلى صرح عظيم بين برجيه يقع المدخل، حيث بهو الأعمدة الذي يضم 134 عمودا.
وأمام المعبد، الذي أخذت إحدى مسلتيه إلى ميدان الكونكورد في باريس، سترى طريقا مهيبا حيث صفان من التماثيل التي أقيمت في عهد رمسيس الثاني على هيئة أبو الهول، جسم أسد ورأس كبش، وترمز لقوة الخصب والنماء، ويعرف باسم طريق الكباش الشهير الذي أعادت الدولة المصرية افتتاحه في احتفال مهيب مؤخرا.
ولا ننسى البحيرة المقدسة خارج البهو الرئيسي للمعبد، حيث تمثال الجعران الضخم، الذي تدور حوله أسطورة تقول أن من يدور حوله 7 مرات تتحقق أمنيته، وكانت مياه البحيرة المقدسة تستخدم قديما للاغتسال والتطهر.
ودقم المعبد ليلا بانوراما من الصوت والضوء تروي على وقع أصوات مهيبة قصة بناؤه في مزيج رائع بين الضوء والكلمة والموسيقى وهو عرض يقدم مرتين يوميا، ويمكن مشاهدته عبر مدرجات مخصصة لهذا الغرض بعدة لغات منها: العربية والإنجليزية والفرنسية، والألمانية .
معبد الأقصر
شيد هذا المعبد للإله “أمون رع” الذي كان يحتفل بعيد زواجه من “موت” سنويا فينتقل موكب الإله من معبد الكرنك عبر النيل إلى معبد الأقصر، وشيد هذا المعبد بين عهدي أمنحتب الثالث ورمسيس الثاني.
ويوجد دخل معبد الأقصر مسجد أبي الحجاج الأقصري، تجاوره الكنيسة القبطية.
تمثالا ممنون
هما تمثالان شيدا لتخليد الملك أمنتحتب الثالث، وأطلق عليهما اسم ممنون بسبب أسطورة إغريقية، فعند تصدع أحد التمثالين، كانت تصدر منه أصوات تشبه الصفير صباحا، وهو أمر طبيعي نتيجة مرور الهواء بين شقوقه، لكن اليونانيون اعتقدوا أن روح قائدهم أجا ممنون الذي قتل في حرب طروادة سكنت هذا التمثال وهو ينادي أمه “أيوس” إلهة الفجر كل صباح، والأم كانت تبكي ابنها فتنزل الدموع ندى على التمثال صباحا، ويصل ارتفاع التمثال الواحد نحو 19.20 متر.
مقابر وادي الملوك والملكات
تضم هذه المقابر رفات ملوك وملكات الدولة الحديثة، والتي حفرت بالصخر في بطن الوادي لتكون بعيدة عن أيدي اللصوص، ويتم الوصول إليها عبر سراديب رسمت بأجمل النقوش، وصولا إلى حجرة الدفن حيث التابوت والأثاث الجنائزي الذي يصطحبه المتوفي إلى الحياة الآخرة.
وأهم مقابر وادي الملوك: مقبرة توت عنخ أمون، مقبرة رمسيس الثالث، مقبرة سيتي الأول، مقبرة رمسيس السادس، مقبرة أمنحتب الثانى مقبرة حورمحب، مقبرة تحتمس الثالث .
أما أهم مقابر وادي الملكات: مقبرة الملكة نفرتاري زوجة رمسيس الثاني .
الدير البحري
ولن ننسى معبد الدير البحري الذي شيد لتخليد ذكرى الملكة حتشبسوت، وأطلق عليه هذا الاسم في القرن السابع الميلادي حيث استخدمه الأقباط كدير، ويتكون من ثلاثة مدرجات يقسمها طريق صاعد .
الرمسيوم
ومعبد الرمسيوم الذي شيد لتخليد ذكرى الملك رمسيس الثاني وسجلت على جدرانه وقائع معركة قادش
معبد هابو
شُيد لتخليد ذكرى الملك رمسيس الثالث، ورسمت على جدرانه مشاهد دينية وحربية، وهو من المعابد التي لا تزال تحتفظ بألوانها الزاهية ونقوشها البديعة حتى الآن.
معبد دندرة
يقع على البر الغربي لمدينة قنا ويبعد تحو 60 كم شمال الأقصر وهو من المعابد اليونانية الرومانية، وبدأ بناءه الملك بطليموس الثالث وأضاف إليه كثير من البطالمة والأباطرة الرومان وبه منظر شهير يمثل الملكة كليوباترة وابنها سيزاريون يوليوس قيصر وتشتهر سقوفه بالمناظر الفلكية العديدة التي تضم الأبراج السماوية.
طريق الكباش واستدعاء الماضي
أعيد تسليط الضوء على الأقصر مجددا وارتدت ثوبا بهيجا في حفل افتتاح طريق الكباش، بعد ترميمه والذي أثار إعجاب العالم أكبر، وجعل الأقصر تتصدر الوجهات السياحية المرغوب في زيارتها.
ونجحت مصر في الترويج للحدث عالميا بصورة احترافية رغم انتشار جائحة كورونا.
وأشادت العديد من الصحف ووسائل الإعلام العالمية بالحفل، وتحدثت صحيفة الديلي ميل البريطانية عن الحدث، ووصفت الطريق بـ “الطريق المقدس”، حيث كان يستخدم كطريق لموكب الآلهة قبل 3000 عام، وتم استخدام المسار المرصوف بالحجر الرملي، لمهرجان “أوبت” سنويا، والذي كان يقام في الشهر الثاني من مواسم فيضان النيل، حيث حمل الكهنة ثلاثة قوارب إلهية على أكتافهم، ونقلوا تماثيل ثالوث طيبة ” الآلهة آمون رع ، وزوجته موت وابنهما خنسو.
وقالت صحيفة “لابانجورديا” الإسبانية إن افتتاح طريق الكباش سيحول الأقصر إلى أكبر متحف مفتوح في العالم، وسيؤدي إلى إنعاش السياحة المصرية بصورة كبيرة.
وأعاد حفل افتتاح طريق الكباش تقليد احتفال عيد الأوبت الذي غاب عن الأقصر منذ 2000 عام، فبدأ مكان الحفل بعروض الضوء المبهرة والأزياء المستوحاة من العصر الفرعوني بمثابة عودة الروح لمصر القديمة في الحاضر، وأزاحت الرمال عن أكثر من 1050 تمثالًا للكباش التي ظلت مدفونة لقرون حتى خرجت لنور الشمس مجددا.
وصورت جدران البهو الكبير في معبد الأقصر، المنقوشة في عهد توت عنخ آمون (1336-1327 ق.م)، هذا الموكب حيث سار جنود من الجيش بأسلحتهم، على أنغام الموسيقى، ونفخت الأبواق وقرعت الطبول، بينما تمايل الراقصون على أنغام الموسيقى، وأمامهم الثيران المسمنة المقدمة كأضاحي، وركب النبلاء مركباتهم ليشاهدوا الموكب بينما كان الكهنة والكاهنات يهتفون.
وظل الاحتفال بعيد الأوبت موجودا حتى العصر الروماني، وحتى الآن يحتفل المصريون في الأقصر بعيدين مع اختلاف الديانة هما عيد أبوالحجاج حيث مسجده في معبد الأقصر وهو خاص بالمسلمين، وعيد سان جورج، حيث الكنيسة القبطية المجاورة للمسجد في قلب معبد الأقصر.
ويعد طريق الكباش أقدم طريق أثري في العالم، يمتد على مسافة 2.7 كيلومترًا بمحاذاة نهر النيل، بداية من معبد الأقصر ووصولًا إلى مجمّع معبد الكرنك، وبدأ بناؤه على يد الملك أمنحتب الثالث، الذي بدأ تشييد معبد الأقصر، لكن النصيب الأكبر من التنفيذ يرجع إلى الملك نختنبو الأول، مؤسس الأسرة الثلاثين.
وبدأت ملامح طريق الكباش في الظهور مع الكشف عن أول تمثال عام 1949، وتتابع اكتشاف باقي التماثيل، ويتكون الطريق من مسار يحيطه 1000 تمثال نحتت في الحجر الرملي وتشكل هيكلًا واحدًا بجسد أسد ورأس كبش.
وبدأت عملية ترميم طريق الكباش في عام 2005، ثم توقفت في 2011، ثم عادت مجددا في سبتمبر 2017 وخلال أعمال الحفائر، تم الكشف عن عدد كبير من تماثيل الكباش ذات جسم الأسد، بالإضافة إلى عدد من المباني السكنية والإدارية والخدمية ترجع للعصور اليونانية الرومانية وأفران لصناعة الفخار والتمائم ومبني من الطوب اللبن من عصر الملك منخبرع من الأسرة 21 وشاهد قبر من القرن 10 الميلادي.
وكان الهدف من التطوير تحويل الطريق إلى متحف مفتوح ومعرض للصور النادرة من القرن ١٩ تروي تاريخ معابد الكرنك والأقصر وطريق المواكب الذي يربط بين المعابد وأهم الاكتشافات الأثرية، وصور ومناظر للأعياد والاحتفالات التي كانت تقام في العصور القديمة، وصور الملوك الذين ساهموا في بناء هذا الطريق، مع تطوير نظام الإضاءة بالطريق لإبراز جماله.
يبلغ طول الطريق 2750 مترا، وعرض 700 متر، ويصطف على جانبيه حوالي 1200 تمثال، نُحت كل منها من كتلة واحدة من الحجر الرملي، وأقيمت على هيئتين: الأولى تتخذ شكل جسم الأسد ورأس الإنسان، باعتبار الأسد أحد رموز إله الشمس، أما الهيئة الثانية فكانت على شكل جسم ورأس كبش، وهو رمز من رموز الإله خنوم، إله الخصوبة في الديانة المصرية القديمة، الذي قدسوه باعتباره الإله الخالق للبشرية كلها.