كتبت – أماني ربيع
يقولون:” لو لم يكن إبراهيم مالك سامبا لدى منظمة الصحة العالمية لاضطرت لاختراع واحد”.
إبراهيم مالك سامبا.. اسم ربما لم تسمعه من قبل أو سمعته ولم تلتفت إليه، هذا العملاق الأسمر الذي كرس ذاته لمحاربة المرض في قارة أفريقيا.
بين بيوت جامبيا الفقيرة وأسراب الذباب المحملة بالأوبئة، ولد سامبا في مجتمع يعيش على الكفاف ينتظره مستقبل مشابه للآلاف من أطفال بلاده، ربما يعمل لكسب قوته في الحقول، وبعض الأعمال الحقيرة التي توفر بالكاد ما يحتاجه، أو أن يكون مصيره الالتحاق ببعض المرتزقة، والتكسب عبر نهب الآخرين.
صدفة وتمرد
حملت الصدفة لسامبا كسرا في الذراع كان سببا في تغيير دفة حياته إلى الآبد، فعند دخول المستشفى لتجبير ذراعه تعرف المراهق سامبا على طبيب أسكتلندي جعله يقع في غرام الطب وينقذه من مستقبل مظلم.
بعد هذا اللقاء قرر سامبا التمرد على حياته، فالتحق بإحدى مدارس الإرساليات، أثبت أثناء سنين تعليمه موهبة وتفوق جعلته مؤهلا لاستكمال دراسة الطب في لندن لكن فقره كان كافيا بالكاد ليدرس في جامعة غانا، حيث اضطرت والدته لبيع ذهبها القليل لتأمين تكاليف دراسته.
بعد تخرجه عام 1953، سافر سامبا لاستكمال تعليمه في مستشفى بيرسكوت، ثم عاد إلى مسقط رأسه في جامبيا ليفتتح عيادة خاصة، ويصبح مديرا لمصلحة الخدمات الطبية هناك.
كل هذا جميل لكن القصة لم تبدأ بعد، فقصة سامبا الحقيقية بدأت مع حربه الضروس على وباء عمى الأنهار، واستطاعته بنزاهته وأمانته الشديدة أن يقف في وجه الفساد والبيروقراطية داخل أروقة الأجهزة الحكومية في أفريقيا.
وقد تحدث الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق عن إبراهيم مالك السامبا في روايته «العاشر».
رجل في مواجهة ذبابة
تخيل رجلا واحدا في مواجه ذبابة قاتلة تحصد أرواح الآلاف دون رحمة، هكذا كان الحال، لكن ما قصة هذه الذبابة؟
كانت دودة “أونكو سيركا فولفيولاس” قد غزت 36 بلدا حول العالم في العالم، لكن خطرها الحقيقي عرفت أفرقيا التي تواجدت فيها بنسبة 80%، تعيش هذه الدودة الخطرة قرب مجاري الأنهار السريعة، حيث تضع بيضها ولهذا سمي المرض الذي تحمله بـ “عمى الأنهار”.
تتسبب هذه الدودة في حكة شديدة بالجلد، وحرمان المريض من النوم، مما قد يدفعه للانتحار، ويزداد سمك الجلد ليشبه مظهر مرضى الجذام، وتتدلى العقد اللمفاوية من خن الفخد، ليس هذا فحسب فالخطر الحقيقي يبدأ عندما تصل إلى العين، حيث تلتهب القرنية وتغزوها الأوعية الدموية، فتلتهب القرنية ثم تهاجم الشبكية وعدسة العين تمهيدا لفقد النظر بشكل تام، لدرجة أنه كان شائعا أن ترى معظم شباب قرى غرب أفريقيا تحت العشرين وقد أصيبوا بالعمى.
شراسة الذبابة وسرعة انتقالها دفعت العلماء بتسميتها بـ “بلانكتون الهواء”، وهو ما صعب مهمة منظمة الصحة العالمية، التي قدرت أن المرض لن ينتهي إلا بوفاة الديدان الكبيرة بالشيخوخة في جسد العائل، وهو الأمر الذي يحتاج إلى 20 عاما، وبهذا يمنع إصابة أجيال جديدة من الإصابة بالعدوى.
في عام 1980 طلبت منظمة الصحة العالمية من سامبا أن يسافر إلى بوركينا فاسو لتولي إدارة مشروع مكافحة عمى ، الأنهار والمفاجأة كانت نجاح سامبا الساحق، بعد أن ظل المشروع يفشل منذ إطلاقه عام 1984.
كان سامبا أشبه بآلة بشرية جبارة، وضعت منظمة الصحة العالمية بين يديه أكثر من 30 مليون دولار، وهو مبلغ يصلح بوابة للفساد والتكسب غير المشروع، لكن سامبا يختلف عن أي رجل وهو يعرف جيدا كيف يوظف كل مليم يديه من أجل حربه.
من عمل مع سامبا يقول إن هذه النقود لو لم توضع في يد رجل صارم مستقيم مثله لاختفت الأموال دون أن يعرف أحد أين ذهبت كما يحدث عادة، حيث كانت تنتهي في جيوب المرتشين من موظفي الحكومات والمسئولين بينما يموت آلاف الفقراء في صمت.
يقول أستاذ الحشرات الأسكتلندي “دوجلاس مار” : مع إبراهيم سامبا يمكن لمنظمة الصحة العالمية أن تطمئن على نقودها كأنما أودعتها في مصرف”.
لم تكن أمانة سامبا هي العامل الوحيد في نجاح المشروع فهناك أيضا تعامله السلس مع القرويين، الذين لا يخافونه أو يتشككون فيه فهو يشبههم وينتمي إلى ثقافتهم.
ومع هذا بدأت مرحلة جديدة من الحرب وهي العثور على دواء فعال ضد الدودة المسببة لهذا المرض الخطير، بحيث تكون مادته الفعالة أقوى من الأدوية القديمة التي لم يكن دورها أكثر من الإسراع بالمريض إلى حتفه.
وبالفعل نجحت شركة أمريكية اسمها “ميرك شارب أند دوم” التي توصلت إلى عقار إيفرمكتين الذي استطاع القضاء على الدودة في 3 أيام فحسب، لكن هذا جعل سامبا يدخل في حالة اكتئاب فبعد بحوث تكلفت الملايين على أفريقيا أن تدفع الثمن وهو ما تعجز عنه جيوب المرضى الذي كان أغلبهم من الفقراء، لكن صاحب الشركة “روي فاجلوس” فاجأ سامبا بقراره إنتاج الشركة للعقار مجانا وإعطاؤه لكل من يحتاج إليه.
وبالفعل بدء العقار في الإتيان بمفعوله بنجاح وعولج الآلاف من المرضى وعاد الأمل من جديد.
العدو الحقيقي
ويعود الطبيب الأفريقي محملا بالأمل إلى القارة السوداء ، ليخبر قومه بما توصل إليه، و من يومها بدأ إعطاء العقار للأفارقة، و تم علاج الآلاف منهم على حساب الشركة، و دبت الحياة في قرى بأكملها، و أمكن توطين 17 مليون من الفلاحين في قراهم ، كما تم إستصلاح نحو 16 مليونا من الفدادين .. و من جديد بدأ المكفوفون يبصرون قليلا ، و هذا كاف جدا بالنسبة لهم.
وبعد حصد نجاحه في هذه الحرب وقف سامبا أمام منظمة الصحة العالمية عام 1989، ليقول كلمته كشهادة من قلب رجل كان في الميدان:
“يختلف مفهوم العمى من بلد لآخر، ففي الغرب يصبح المرء أعمى إذا لم يستطع القراءة، أما في أفريقيا فالأعمى حقا هو من لا يستطيع رؤية بقرته”.
ومنحته إيطاليا جائزة” Balzan” تكريما لجهوده، وتسلمها من رئيس الجمهورية الإيطالي وقتها أوسكار لويجي سكالفارو.
لم يعتبر سامبا –الذي أصبح المدير الإقليمي لمنظة الصحة العالمية في أفريقيا فيما بعد- القضاء على عمى الأنهار نهاية طموحه، فقد أراد أن تشمل حربه كل ما من شأنه توفير الحد الأدنى من الأمان الصحي لأهالي افريقيا الذين يدورون في “حلقة مفرغة من المرض والفقر والتخلف”.
يعتبر سامبا أن العدو الحقيقي لنهضة افريقيا هو الجهل والفساد، في وضع يسيطر فيه المسؤولون على الجزء الأكبر من الثروات في الوقت الذي يعيش فيه الأغلبية في فقر مضني، وأوضاع بائسة، كل هذا مع سوء الإدارة ونقص التمويل، شكل بيئة خصبة لنتشار الأمراض التي يسببها الفقر مثل الملاريا والسل والكوليرا والحمى النزفية، وعودة أمراض قديمة للظهور مثل الحمى الصفراء، ولا ننسى الإيدز.
لا يحب سامبا التنظير كثيرا، لذا يقول إنه لا يوجد نظام صحي مثالي في العالم، ولاسيما أفريقيا، لكن يمكن تحسين الوضع، وتوفير الموارد المحلية لدعم وتحسين الخدمات الصحية، ويضرب مثالا حيا على ذلك بنضاله خلال الفترة من 1980 إلى 1990 ضد عام الأنهار، حيث تفاوض مع عدد من شركات الأدوية على توفير الدواء مجانا، وقام بتعليم الأميين من الفنيين غير الطبيين كيفية تقديم هذه العقاقير في حملة ناجحة ليتحول مرض عمى الأنهار من وباء مستوطن إلى مشكلة صحية ثانوية.
وينوه إلى أن مشكلة عمى انهار تعد مشكلة ضئيلة مقارنة بالإيدز وهو العدو الأول للقارة حاليا ومعركتها الكبرى، فهو مرض أكثر تعقيدا وانتشارا كذلك، فلم يتم العثور على أي علاج له، ولموجهته لابد من تجهيز المستفيات والعيادات ومعامل الأبحاث والأطباء والممرضين.
معركة الإيدز
حمل سامبا الجهات المانحة مسئولية الضرر الكبير الذي يعصف بالبنية الصحية في افريقيا، فبرامج التكيف الهيكلي التي يفرضها البنك الدولي تؤدي إلى تخفيض تعيينات الموظفين المؤهلين، وتجميد رواتبهم ورفع الدعم عن الأدوية الأساسية، وهو ما ساهم في تدمير نظام الخدمات الصحية، ويعتقد أنه ربما حان دورهم لمساعدة الفارقة في بناء ما دمروه.
الفقر أيضا عاملا كبيرا في انتشار الإيدز والكثير من الأمراض، فالكوليرا مثلا ترتبط بشكل وثيق بالمجتمعات الفقيرة، لأنها تفتقد إلى المياه الصالحة للشرب، والمراحيض ، والجهل بسبب تدني التعليم والمعرفة بأبسط أنواع الممارسات الصحية الأساسية.
وبرغم أن الإيدز ليس حكرا على الفقراء، فهناك أطباء ومحامون ومدرسون يصابون ه، لكن ليس من قبيل الصدفة أن تكون افريقيا تمتلك أعلى معدلات فقر في العالم، وتستحوذ على النصيب الأكبر من معدلات الإصابة بالإيدز، وهو ما يؤكد العلاقة الوثيقة بين الفقر والمرض.
يوضح سامبا أن المرأة هي الأكثر عرضة للإصابة بالمرض ونقله بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، فتضطر نساء كثيرات للعمل بالدعارة من أجل إعالة أسرهن، لكنهن يصبن بالمرض ويموتون، وفي أفرقيا الآن أكثر من 12 مليون يتيم بسبب وفاة أمهاتهن التي كانت تمثل مصدر الإعالة، وهو ما قد يتسبب في أثار اجتماعية مخيفة فيما بعد.
ويوضح سامبا أنه لمواجهة هذه المرض يجب:
أولا: تحسين وضع المرأة ومنحها المزيد من التعليم.
ثانيا: تشجيع المشاريع الاقتصادية الصغيرة لتمكين المرأة لتصبح مستقلة اقتصاديا بما فيه الكفاية، لتقول ” لا لممارسة الجنس مقابل المال”.
يقول سامبا:”ربما ليس هذا الوضع كليا من صنع الأفارقة، لكن من الخطير جدا أن نستسلم له ونتقبله وكأنه قدرنا”.
ويوضح : “ما يعقد مهمتنا كعاملين في المجال الصحي، هو تدني مستوى المعيشة في معظم البلدان الأفريقية، التي تعاني من ويلات الكوارث الطبيعية كالجفاف والتصحر، وتلك التي من صنع الإنسان والمتمثلة في الصراعات والحروب الأهلية”.
ويعلنها سامبا صراحة، أن تفاقم مشكلات القارة، جعل الجهات المناحة تشعر بالملل، خاصة مع ضعف النتائج، وهو ما يدعو لضرورة أن يكف الأفارقة عن استجداء العطف وبدء تشغيل الرعاية الصحية الوطنية.
ويتساءل ل”ماذا لا تعمل وسائل الرعاية الأولية في بلداننا، أين الوحدات الصحية، وأطباء الحكومات، لماذا يرحل المؤهلون؟”
وفي النهاية أكد سامبا أن الحل بسيط، وأنه يمكن تدبر الأمر بإمكانيات محدودة، لكن يجب استغلال طاقات القارة الكامنة وتوجهيها بشكل سليم يساهم في تقدم القارة على كل المستويات.