كتبت – أسماء حمدي
على ضفاف نهر النيل الخالد، وفي أقصى جنوب مصر، تقف مدينة “أسوان” الساحرة خالدة كأحد أهم المدن الأثرية في العالم، وعلى مر العصور كانت البوابة الجنوبية للبلاد، حيث ترتبط بمدينة “وادي حلفا “السودانية عبر معبر قسطل، ومن هنا اكتسبت أهمية استراتيجية تاريخيًّا، إلى جانب كونها مشتى عالمي يقصده ملايين الزائرين من حول العالم.
تقع “أسوان” أهم مدن النوبة على الضفة الشرقية لنهر النيل عند الشلال الأول، يصلها بالعاصمة المصرية “القاهرة” خط سكة حديد وطرق برية ومراكب نيلية، يحدها من الشمال محافظة الأقصر ومن الشرق محافظة البحر الأحمر، ومن الغرب محافظة الوادي الجديد، ومن الجنوب جمهورية السودان، وبهذا شكلت بوابة مصر على القارة السمراء.
“بلاد الدهب”
ارتبطت “بلاد الدهب” أو “سوونت” بعلاقات تاريخية مع القارة السمراء على مر العصور، ففي عصر الفراعنة، كانت مركزًا تنطلق منه القوافل التجارية وحملات اكتشاف لبلدان القارة وطرقها.
و”سوونت” كلمة تعني السوق، كما أطلق عليها اليونانيون اسم “سبيني”، وهي مدينة إيزيس وحتحور، ومنذ آلاف السنين شيدت على أرضها معابد كرست لعبادة الإلهة إيزيس وحتحور، كـ”معابد فيلة” التي تقع في جزيرة صغيرة في منتصف نهر النيل، وهي إحدى الحصون الأقوى على طول حدود مصر الجنوبية.
كانت أسوان بمثابة محجر كبير لأحجار الجرانيت، التي استخدمها قدماء المصريين في بناء المعابد والمسلات والتماثيل، كما اشتهرت بمقابرها الصخرية المنحوتة في الجبل الغربي، والتي شيدها حكام جزيرة الفنتين، وكبار كهنتها، وتضم تلك المقابر مقبرة لـ”مخو” الذي كان يخرج على رأس حملات ملكية لاكتشاف جنوب القارة السمراء وارتياد طرقها.
في الجبل الغربي للمدينة، تقع مجموعة مقابر بينها مقبرة رقم 36 والتي تحتفظ جدرانها بما عليها من نقوش وكتابات، وتزدان برسوم تصور صاحبها وخلفه كلاب الصيد والخدم، وصور أخرى وهو يصطاد كما ضمت صورًا حوله أفراد عائلته وحاشيته.
مقبرة “حرخوف”، وهي إحدى المقابر في الجبل الغربي، وتضم نقوشًا ورسومات تصور الحملات المتعددة لقدماء المصريين لاكتشاف الجنوب، وخاصة الحملة التي وصل فيها قدماء المصريين إلى دارفور في السودان عبر درب الأربعين، والتي كانت بداية للعلاقات بين مصر القديمة وأفريقيا.
وبحسب كتب المصريات، ارتبطت مصر بعلاقات اقتصادية تاريخية مع بلدان الجنوب ترجع لآلاف السنين، ويقول علماء المصريات: إن علاقة مصر بأفريقيا بدأت منذ عام 1503 قبل الميلاد، وتجسدت تلك العلاقات في رحلات قدماء المصريين إلى بلاد بونت الأفريقية، وأشاروا إلى وجود أدلة تاريخية على ارتباط مصر الفرعونية بعدد من القبائل في نيجيريا وغرب أفريقيا وبين القبائل النيلوتية في أعالي النيل وفي محور شمال أفريقيا.
في عهد الملكة حتشبسوت، التي حكمت مصر من عام 1503 إلى 1482 قبل الميلاد، بدأ أول تبادل تجاري بين مصر القديمة وبلدان القارة الأفريقية، حيث أرسلت في العام السادس أو السابع من حكمها 5 سفن ضخمة إلى بلاد بونت أرض البخور؛ لإحضار منتجات تلك البلاد تحت قيادة القائد نحسي، وانطلقت الرحلة من أحد موانئ البحر الأحمر قرب وادي الجاسوس بالصحراء الشرقية.
الجارة الأقرب
وعلى مدار تاريخها تمتعت العلاقات المصرية بالقارة الأفريقية، بالخصوصية والتفهم بين الجانبين وخاصة علاقة مصر بالسودان؛ إذ نسجت اعتبارات الجغرافيا والتاريخ علاقة خاصة بين البلدين على نحو لم يتوفر لشعبين آخرين في القارة.
وباستقراء الماضي نجد إرثًا تاريخيًّا يمتد على ضفاف النيل، حيث ازدهرت العلاقات الثقافية بين البلدين خلال حكم محمد علي باشا، حيث عمل على نشر المؤسسات التعليمية والثقافية في السودان، وأسس مجموعة من مدارس القرآن، وفتح عددًا من المدارس الأولية للأولاد.
وفي عام ١٨٦٣ فتح خمس مدارس أولية في الخرطوم وبربر ودنقلا وكردفان وكسلا، وبعد سنوات فُتحت مدرستان أخريان فى سواكن وسنار، وتطلبت عملية إدارة السودان والتوسع فى زراعته خدمات سودانيين متعلمين لتسيير بعض الأعمال الكتابية والفنية البسيطة، فقام بتعيين خريجي المدارس الدينية قضاة شرعيين، وعين آخرين في مكاتب الحكومة.
وأشرفت وزارة المعارف المصرية على جميع المدارس هناك، وكانت تتبع نظام التعليم المصري، كما بدأت الإرساليات التبشيرية في الدخول إلى البلاد، وفي عام ١٨٤٦م، فتحت أول مدرسة كاثوليكية في الخرطوم، نظرًا لنشر مصر ثقافة احترام الديانات وتقديسهم أصول دينهم، وفي سبعينيات القرن التاسع عشر فتحت مدارس كنسية أخرى، سميت مدارس كمبوني، على اسم مؤسسها القسيس الإيطالي كمبوني، ولا تزال هذه المدرسة موجودة إلى الآن.
مع تطور العلاقات وتبادل الثقافات، أرسل محمد علي نخبة من علماء الدين، مع حملته العسكرية لفتح السودان، وهم القاضي محمد الأسيوطي الحنفي، والسيد أحمد البقلي الشافعي، والشيخ أحمد السلاوي المالكي، حرصًا على عقائد السودانيين ومذاهبهم.
وعملت الثقافة المصرية على الأخذ بيد المؤسسات التعليمية؛ مثل المساجد والخلوات بتنظيم الرواتب للفقهاء والمشتغلين بالمعاهد الدينية، وكذلك للعلماء المقررين لتعليم القرآن والعلوم في جهات الخرطوم وسنار وغيرها من المدن السودانية، كما تم إعفاؤهم من أموال الأطيان التي يزرعونها ما داموا منقطعين للعلم.
ولعب “الأزهر الشريف”، دورًا هامًّا في العلاقات بين البلدين؛ حيث فتح أبوابه لعدد كبير من السودانيين في عهد الإدارة المصرية ساعد على ذلك تشجيع محمد علي لعلماء مصر بالذهاب إلى السودان، وتشجيع أبناء الطرق الصوفية المصرية على الذهاب إلى هناك، ومنها الطريقة السعدية والبدوية والدسوقية، وتم إنشاء رواق خاص للسودانيين بالأزهر عام ١٨٣٦ عرف باسم رواق السنارية.
ومنذ خمسينات القرن الماضي، ونتيجة للتقارب الجغرافي والحضاري بين مصر والسودان، احتضنت مصر رموزًا سودانيًّا خاصة الأدبية والفنية؛ أمثال الفنان إبراهيم خان، والمخرج سعيد حامد، وجاء التاريخ الأدبي حافلاً بإفراز عدد من الأدباء من بينهم الطيب صالح، ومحمد الفيتوري، والكاتب عباس علام، وآخرهم الروائي الشاب حمور زيادة.
في الوقت نفسه قضى عدد من الكتاب المصريين فترة في السودان “الجارة الأقرب”، وكتبوا عنها منهم شاعر النيل حافظ إبراهيم، وما زال منزله موجودا على تلة في منطقة الروصيرص بولاية النيل الأزرق، كما عاش فيها الأديب الكبير عباس محمود العقاد في الأربعينيات، وعاش فيها محمد نجيب أول رئيس جمهورية مصري، فترة طويلة وألف كتاب “رسائل من السودان”.
كما سجّلت الأغاني حكاية وحدة النيل، وتغنى الفنانون بمصر والسودان من أشهرها أغنية شادية “عاشت مصر والسودان” عام 1953، كما غنت الفنانة شادية أيضا أغنية “يا جاي من السودان”، تقول فيها: “ياجاي من السودان لحد عندنا بتمر من أسوان والقلة من قنا.. يا نعمة من السودان بعثها ربنا.. ومن عمر الزمان وانت ف قلبنا.. بتسقي البرتقال وتنور قطننا.. سودانّا ومصرنا أبونا وأمنا وطنا وأهلنا – ياجاي م السودان لحد عندنا”.
عاصمة الشباب الأفريقي
ونظرًا للأهمية التاريخية لأسوان، فقد اختارها الرئيس عبدالفتاح السيسي عاصمة للشباب الأفريقي لعام 2019، واستقبلت المدينة شبابًا من 67 دولة عربية وأفريقية بمنتدى الشباب العربي الأفريقي لمناقشة قضايا متعلقة بواقع ومستقبل المنطقة العربية والقارة الأفريقية.
وخلال المنتدى خصصت جلسة لنموذج محاكاة القمة العربية الأفريقية؛ لتُتيح للشباب فرصة تمثيل بلادهم وتسليط الضوء على إمكانياتها؛ وتفعيل التعاون بين العرب والأفارقة، والتعرُّف على شباب من جميع الدول العربية والأفريقية، لتبادل الرؤى والأفكار من أجل صناعة مستقبل أفضل للوطن العربي والقارة السمراء.
ومع إعلان الرئيس السيسي أسوان عاصمة الشباب الأفريقي، استضافت المدينة ختام سباق مصر الدولي رقم 47 تحت شعار (TOUR D EGYPTE) في مرحلته الخامسة والأخيرة، وذلك وسط مشاركة واسعة لـ95 لاعبًا من 11 دولة أفريقية وعربية وأوروبية، كما شهدت المدينة ختام بطولة الكروس فيت للجامعات الأفريقية بمشاركة 78 لاعبًا ولاعبة من 19 دولة أفريقية.
وشهدت المدينة العام الماضي، “ماراثون أفريقيا الأول” للشباب فوق سن 18 عامًا، والذي شارك فيه 750 شابًّا وفتاة منهم 150 من شباب الدول الأفريقية وأبناء الجاليات المقيمين بمصر، بجانب 300 طالب وطالبة من كلية التربية الرياضية بجامعة أسوان، بالإضافة إلى 250 شابًّا وفتاة من مراكز الشباب والأندية بالمدينة.
وفي سبتمبر 2019، استضافت المدينة فعاليات الملتقى الأفريقي الرياضي الأول، والذي أقيم تحت شعار ” أفريقيا تجمعنا” على مدار 5 أيام بمشاركة 200 شاب وفتاة من 26 دولة أفريقية، بالإضافة إلى فعاليات مهرجان “الفنون التعبيرية والتراثية للشباب الأفريقي”، وبمشاركة عدد كبير من الشباب الذين يمثلون 5 دول أفريقية وبعض الجامعات المصرية.