كتبت – علياء عصام الدين
من رحم المعاناة يولد الأمل، ومن قلب الحصار تولد الحرية، ومن باطن الدمار يبدأ البناء، هكذا يكون التاريخ -تاريخ أي دولة- هو المحرك الأول للإبداع الذي يحفر بصماته على جدار الزمن وصفحات الكتب التي لا تنسى، ويغرس اختلافه ودلالاته في وجدان الشعوب.
كان لتاريخ جنوب أفريقيا والقارة السمراء عمومًا -ذلك التاريخ المدجج بالدماء والعنف والاستبداد والظلم والملبد بغيوم التمييز العنصري والاضطهاد والتهميش- دور في ظهور موهبة إبداعية فريدة من نوعها، كانت رسالتها الأولى في الأدب مناهضة الفكر العنصري بشكل مغاير باتباع مبدأ التمييز بمفهوم أكثر شمولية عن الذين سبقوه.
هو ” جون ماكسويل كوتزي”، الروائي والناقد والمترجم الجنوب أفريقي، وثاني روائي يحصل على نوبل في الآداب 2003 من جنوب أفريقيا، وهو الروائي الأفريقي الوحيد الحاصل على جائزة البوكر البريطانية مرتين.
تربع كوتزي باستحقاق على عرش روائيي العالم كواحد من أدباء القرنين العشرين والحادي والعشرين.
في عام 1940 ولد كوتزي لعائلة من المستوطنين الهولنديين الوافدين لجنوب أفريقيا، عمل والده محاميًا وكانت والدته مدرسة، وترعرع وسط أسرة تتحدث اللغة الإنجليزية، فنشأ يجيد الهولندية والإنجليزية بطلاقة كما كان يتحدث الأفريقية مع زملائه
درس الرياضيات والأدب في جامعة كيب تاون، ثم قصد لندن للعمل والاستقرار، في عام 1965 غادر لندن إلى الولايات المتحدة حيث حصل على الدكتوراه في علوم الكمبيوتر من جامعة تكساس في أوستن.
ومن عالم التقنية إلى الأدب، انتقل للدراسة في جامعة تكساس، ومنها إلى التدريس في جامعة نيويورك بوفالو، وحاز على لقب بروفيسور في الأدب الإنجليزي عام 1984، وفي عام 2002 هاجر أديبنا إلى أستراليا للعمل كأستاذ متفرغ في جامعة “أديليد”.
كتب أولى رواياته “بلاد الغسق” في عام 1974، وبعدها بعامين نشر روايته الثانية تحت عنوان “في قلب البلاد” والتي أثبت فيها براعته ككاتب في الكشف عن الوجه القبيح للاستعمار الغربي دون مواربة.
ومن أعماله أيضًا “حياة مايكل ك. وزمنه” التي صدرت عام 1983 والتي حصد بها جائزة البوكر، ورصد خلالها مستقبل جنوب أفريقيا في ضوء ويلات الحرب الأهلية.
في عام 2003 حصل كوتزي على جائزة نوبل للآداب، ويعتبر كوتزي أحد أكثر الكتاب كراهية للشهرة والأضواء، حيث لم يذهب لاستلام جائزتي البوكر التي حصل عليهما، كما لم يذهب لاستلام نوبل وناب عنه آخرون.
يقول في هذا: “إن الشيء الوحيد الذي استطعت الهروب منه بنجاح طوال حياتي هو الشهرة”.
تطغى أجواء ما بعد الحداثة على معظم روايات ماكسويل، حيث يغرقنا في أجواء سيريالية تأملية دون تكلف، يطرح عبرها أفكاره في بنيان روائي متماسك وأسلوب سردي متفرد وحوارات ثرية جديرة بالتأمل.
استطاع كوتزي عبر أعماله أن ينتقد بقوة عقلية الحضارة الغربية القاسية بكل شراسة، الأمر الذي جعله شخصية مثيرة للجدل، خاصة أنه كان من أصحاب البشرة البيضاء، كانت فكرة العنصرية هي التيمة الأساسية التي غلبت على أعمال كوتزي، بيد أنه تناولها بطريقة مميزة ومبتكرة اجتر فيها ذكرياته خلال فترة إقامته في وطنه بجنوب أفريقيا.
ورغم سنوات الغربة التي عاشها كوتزي لم يفلح في إغفال جنوب أفريقيا ومحوها من ضميره ومخيلته فكانت بمثابة القيد حول عنقه والجرح العميق النازف الذي ظل ملحًا تنكؤه الوحدة في ليالي الحنين التي تضرب روحه بعنف.
وتعد رواية “خزي/ عار” والتي نال عليها جائزة “البوكر” للمرة الثانية أحد رواياته العظيمة، وفيها كشف عن سياسات الفصل العنصري البغيضة داخل المجتمع، حيث تدور أحداث الرواية حول أستاذ جامعي أبيض يقيم علاقات مع طالباته السوداوات ويحاول الهروب من سلوكه المنحرف إلا أن القدر لم يمهله كثيرًا، وكنوع من العقاب الإلهي لاستهانته بهوية العرق الأسود يشهد بأم عينيه حادث اغتصاب ابنته البيضاء على يد السود.
من أهم أعماله على الإطلاق رواية “في انتظار البرابرة”، وهي روايته الثالثة التي سنفرد لها السطور القادمة هي ورواية “المسلخ الزجاجي”.
في انتظار البرابرة
هي إحدى الروايات التي تضعك وجهًا لوجه في صدام مع العالم الغربي وأفكاره، فتكاد تشعر أنك تسافر وسط قصيدة أو لوحة مصورة تدين الحضارة الغربية بصورة واقعية قد تكون أكثر فظاظة من غيرها من الروايات.
ويبدو أن هذه الجرأة جاءت من كون كوتزي لم يكن ينتمي عرقيًّا للأفارقة السود بالرغم من أنه جنوب أفريقي غير أنه رجل أبيض في المقام الأول، نجح في حشد كل طاقاته وشحذ جميع أسلحته لمواجهة ومحاربة “البرابرة” الحقيقيين.
ففي رواية “في انتظار البرابرة”، خلُص كوتزي إلى أن البربري هو حقًّا من يعتقد بوجود البرابرة فنزع بشرية أي إنسان يفقد الفاعل أي قيمة أخلاقية وإنسانية.
وبخليط من مشاعر الحب والأسطورة والمبادئ عجن كوتزي روايته التي تعتبر أحد أهم الأعمال الأدبية التي تناولت فكرة طغيان الغرب والعرق الأبيض، ومحاولتهم تفكيك الثقافات المختلفة عنهم وتهميشها والحط من قيمتها.
وتصور الرواية -المشحونة بمجموعة من الصور المزدحمة والتي تحتوي أساليب متنوعة في السرد والنقلات والعلاقات المتشابكة وصولًا إلى الحبكة- عالمًا يشعر فيه القارئ بالصراع بين الأحلام والأفكار والرؤى التي تحكي عن معانٍ كبرى كمفهوم العدل الضائع وقدرة الإنسان على التلون، وادعاء المدنية والتحضر بينما هو في الحقيقة مجرم يرتكب أبشع المجازر وأقساها في حق الآخر الذي يقصيه باستخدام حجج بلهاء لا أصل لها من الصحة، ويقيم علاقته مع الآخر على أساس امتصاص الدماء والاستغلال حتى النخاع.
ويتنقل كوتزي بعبقرية في طيات روايته ليصور الحروب الوهمية المصطنعة التي تختفي خلفها كل الذرائع والمبررات الحقيقية التي توضح النوايا وتفضح زيف الشعارات التي يتشدق بها الغرب وحكوماته في سبيل إيجاد مبررات لممارسة الإرهاب والتنكيل بحق الشعوب وإسكاتهم وإخضاعهم وقمعهم وإغراقهم في الحروب المزيفة حتى يظلوا تحت وطأة الخوف المزيف من الفوضى والجوع، وبالتالي يمكثون تحت سلطة الغرب وفي أحضان جناته الكاذبة.
ويطرح كوتزي أسئلته الوجودية وأفكاره الفلسفية بين سطور روايته؛ فيتحدث عن كيفية هدم حياة سعيدة باسم الوطن ويتناول الظلم والحقد والطغيان ومشاعر احتقار الآخر المختلف عنا.
ويتضح أن قصة البرابرة هي قصة كل زمان ومكان، هي تلك القصة المستمرة التي حدثت في إحدى المدن الصغيرة الواقعة في بقعة صحراوية على مشارف امبراطورية عظمى لا اسم لها، وفي حقبة زمنية بعيدة عن المدنية والحداثة والحضارة.
وتدور أحداث القصة حول العقيد “جول” الذي ذهب إلى المدينة للتحقيق في تعديات البرابرة ومؤامراتهم ضد الإمبراطورية فيقوم بإعلان حالة الطوارئ على الحدود، وشن حملة اعتقالات عسكرية شملت مزارعين بسطاء، حيث ينتزع منهم اعترافات بأخطار وهمية ومؤامرات ضد الإمبراطورية تحت تهديد السلاح والتعذيب، بينما يرى القاضي في البلدة أن الحديث عن خطر البرابرة هو محض ادعاء ومجرد صدى لم يعرفوه ولم يسمعوا به إلا من العقيد “جول”.
في المقابل لا يقبل القاضي هذه الأوهام التي يطرحها العقيد الذي حول المدينة إلى معتقل تعذيب يمارس فيه إرهابه ضد الضعفاء لإبراز قوة الإمبراطورية وفرض سلطتها على المدينة وأهلها البسطاء.
بعد انتهاء الحملة العسكرية يترك المحقق “جول” المدينة ويعود أدراجه إلى العاصمة، لكنه يتركها بعد أن أصبحت مدينة أشباح يسكنها الخراب والدمار.
تظهر المدينة وقد غادرها أهلها من صيادين وفلاحين بعد إطلاق سراح أولئك “البسطاء” الذين حولهم “جول” إلى برابرة ينطلقوا فيها مشردين متسولين بعد أن شُوهت نفوسهم تحت وطأة الظلم والتعذيب وانتهاك الحقوق.
ويعبر كوتزي عن هذه الحالة بقوله: “شيئًا فشيئًا قامت الأعمال العدوانية بتفريغ المدينة من قواها الحية، مدينة نهبها الجنود، وأصبحت قاحلة، تنتظر بهلع هجوم البرابرة الأخير”.
ابتعد كوتزي في عمله الأدبي العظيم عن الإغراق في المثالية، فهو لا يصور عالمًا جميلًا رومانسيًّا فيه تنتهي القصص نهايات سعيدة؛ فالكاتب يزج بنا في عالم مليء بالوحشية والألم والحيرة والعذاب، ويلفت انتباهنا إلى تاريخ الشعوب والحضارات الذي يُمحى ويشوه ولا ينقل على حقيقته.
يقول: “الألم هو الحقيقة، وما سواه يخضع للشك”.
تحكي الرواية عن محاولات تزييف الوعي للناس من الشعوب الفقيرة، وتحويل أيديولوجية المستعمر إلى بشرية نبيلة، يقدمها الأغنياء للفقراء ويجود بها المستريحون للمأزومين.
إنها قصة صناعة “الوحش” صناعة “الغول” صناعة “الإرهاب”، القصة القديمة الحديثة التي تمارسها الحكومات وما تزال، إنها تلك الحروب الخفية التي تُصنع؛ تبدأ وتنتهي دون إطلاق رصاصة واحدة.
“في انتظار البرابرة” رواية إبداعية تحكي قصة القوة الغاشمة التي يمكن إسقاطها على كل استعمار وكل إمبراطورية جُلُّ همها التوسع وإخضاع الناس في كل الأزمنة والعصور؛ فالبرابرة الحقيقيون ليسوا برابرة إلا في نظر الحكومات التي اختلقتهم من وحي الخيال لتتحول الحكومات والإمبراطوريات القمعية نفسها إلى برابرة.
المسلخ الزجاجي
في هذا العمل السردي ينقلنا كوتزي لمعايشة التحولات النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي يواجهها الإنسان في خريف العمر عندما تداهمه غارات الشيخوخة.
يقول كوتزي: “كما يعتبر الربيع موسم المستقبل، فالخريف هو الموسم الذي ينظر فيه إلى الوراء. الرغبات التي تتصورها ذاكرة خريفية هي رغبات خريفية، وحنين مكدس في الذاكرة. لم تعد لديها حرارة الصيف حتى عندما تكون متوهجة؛ لأن وهجها شديد التعقيد ومتعددة الأوجه، فهو يتطلع دومًا إلى الماضي بدل أن يتطلع إلى المستقبل”.
من خلال شخصية الكاتبة الأسترالية “إليزابيث كوستيللو” استطاع الكاتب أن يوظف موضوع الشيخوخة ليعبر عن فئة اجتماعية عريضة حاضرة بقوة، وتكابد وحدها إحدى أصعب المراحل العمرية على الإطلاق، حيث يصبح المرء فجأة بعد سنوات التألق واللمعان في طي النسيان وحبيس الظل.
تكتشف بطلة القصة “كوستيللو” والتي كانت مبدعة ومتوهجة تلاشِي قدراتها الذهنية شيئًا فشيئًا، فتستسلم للعزلة وتقرر مواجهة حتمية الموت التي تزج بها في أسئلة وجودية تتعلق بالجوهر ومفهوم الحياة ومعنى الوجود الإنساني.
ويمكن وصف إحساس كوستيللو في مواجهتها لخريف العمر بأنه ذلك الإحساس الذي ينتابك عندما تسير بشكل بطيء وبكل ألم وراء جنازة في يوم غائم.
وبالكثير من العمق الأدبي والفلسفي يتناول كوتزي بمهارته وأناقته اللغوية المعتادة تحليل الجوانب الإنسانية المعتمة ومشاعر الذنب والمعاناة والشيخوخة من خلال شخصية “كوستيللو” التي تسير نحو الأفول للنهاية الحتمية تدريجيًا، فتظهر على “كوستيللو” علامات الشيخوخة فتتدهور صحتها ويحاول أبنائها مساعدتها للخروج مما تعانيه، وهنا تكمن عبقرية الكاتب في التعبير عن تعقيدات العلاقة الأسرية.
بينما يرغب أبناؤها في إقناعها بالتخلي عن وحدتها والدخول إلى دار العجزة ترفض كوستيللو أن تساق إلى المسلخ كما يفعل مع الخيول المتقاعدة، فهي تفضل أن تبقى حرة غريبة الأطوار في عُزلتها.
تقول: “ربما يتعلق الأمر بحكاية ستنتهي، دون أن نعرف إلى أين سنذهب“.
يتنقل كوتزي ببراعة بين تيمات الموت والشيخوخة، ويرتبط ذلك بشعوره الشخصي بهذه الفترات، فيقوم من خلال سيدة خياله -وهي الكاتبة “إليزابيث كوستيللو”، أفرد لها رواية كاملة من قبل- بعرض تفاصيل مشاعره عن مراحل العمر المختلفة، لاسيما المرحلة الأخيرة والتي تبدأ فيها رحلة الشك بالذكريات والرغبات، وتبدأ فيها بطرح الأسئلة.
يتناول كوتزي ثلاثة مشاعر، يرصد تجلياتها العميقة في حياة الشخصيات من خلال الكلمات والأفكار، فيعبر عن الخوف والرغبة ثم التلاشي بعد التقدم في العمر، والذي يعد جوهر وحبكة الحكاية، وهذا الصراع بين الأبناء والآباء واتساع الفجوة والحقوق والواجبات وانقلاب الأدوار.
ليس”المسلخ الزجاجي” سردًا وجوديًّا وحقلًا تجريبيًّا لتدوين حياة الشيخوخة بآلامها وآمالها وأحلامها فحسب، بل ميدانًا لعرض وجهات نظر اجتماعية وأخلاقية متناقضة، حيث يحاول الأبناء إخراج آبائهم من دائرة الضرر الذي قد يُلحقوه بأنفسهم، لنشهد معركة حقيقية بين الواجب وشرط الحرية.
يواصل المؤلف سبره العميق الاجتماعي والأخلاقي من خلال عرضه صعوبة التحدث عن الحقيقة في موضوعات تتعلق بالمحظورات.
ويطرح كوتزي السؤال: هل بإمكاننا العيش بطريقة مختلفة عن الصورة التي يريدها منا أهالينا؟ وكيف من الممكن أن تتكشف حقيقتنا داخل الأسرة، ويطرح فكرة التصالح مع الذات كسبيل للعيش في سلام وسكينة مع النفس ومع الآخرين دون صراعات خلف أبواب الزيف والخداع والأنانية التي نلجأ لها في كثير من الأحيان للهروب من المواجهة.
ويتطرق كوتزي -في المسلخ الزجاجي- إلى الحديث عن الضمير الإنساني من خلال التساؤل الذي تطرحه إليزابيث حول تعامل الإنسان الوحشي مع الحيوان لكي يحصل على طعامه ويلبي احتياجاته الجامحة، وكيف تساق الحيوانات -رفقاؤنا على هذه الأرض- بوحشية نحو المسلخ لإنهاء حياتها، ويقوم كوتزي بإسقاط هذه الصورة في التعامل مع الحيوانات ويستخدمها كاستعارة للتعبير عن الطريقة التي يعامل بها كبار السن في خريف العمر، عندما يتم تجريدهم من إنسانيتهم وحرمانهم من التعبير عن مشاعرهم.
مزج كوتزي في رواياته بين الأدب والسيرة الذاتية، وتمكن -عبر هذا المزج- من الوصول لذروة التأثير؛ حيث تفتح نصوصه مساحات شاسعة توحي بأن كاتبها رجل بلا جذور ويتخطى حدود الانتماء.
في زمن يصبو إلى اليقين ويتعطش للحقيقة، عاش كوتزي الناقد والكاتب والإنسان لتكون كتاباته شاهدًا على تاريخ بلاده المدجج بالألم خلال فترة التمييز ورحلتها في التخلص من العنصرية.