أماني ربيع

في السودان كل شيء يحلو في وجود الجماعة حتى اللقمة، لذا لا تستغرب كثيرا إذا ما سرت في شوارع السودان وشاهدت موائد الطعام لإفطار الصائمين منتشرة في كل مكان، لن تحمل هم أين وكيف ستكسر صيامك فـ “العيش والملح” حاضر دومًا لدى أصحاب الابتسامة البيضاء.

موائد الكرم

يخرج رب الأسرة من بينه حاملًا صينية عليها طعام أكثر من حاجته يجلس أمام المنزل ينتظر من يشارك وجبة الإفطار، لا تنقطع هذه العادة في كل ربوع السودان، أمام المنازل وداخل الحواري وعلى الطرقات وحتى في طرق السفر، سيقابلك الكرم السوداني الجماعي قبل موعد الإفطار، والسفرة دائمًا عامرة، ولن تستطيع الهروب من الدعوة بأي حجة، فإكرام الناس أمر لا يمكن النقاش فيه لدى السودانيين، الذين يوقفون سيارات وحافلات السفر، ويقومون بإنزال المسافرين منها لتناول طعام الإفطار.

يتم وضع العمامة السودانية في منتصف الطريق، فتتوقف ويتم الترحيب بركاب الحافلة مهما بلغ عددهم، تدخل النساء منهم لتناول الطعام، ويتناول الرجال إفطارهم في الشارع، ويعتبرون هذا التقليد شرفا كبيرا، وأحيانا مع يتحول التنافس على الكرم في إفطار الصائمين إلى مشاجرات.

وتناول طعام الإفطار في جماعة من التقاليد السودانية القديمة، وهي تشجيع من الأجداد على مشاركة الموجود مع الآخرين مهما كان قليلًا، فما كان قليلًا مع الصحبة الحلوة يكثُر، يجلسون على الأبسطة من زعف النخيل الذي يطلقون عليه “سباتة” أو “برش”، ويجعلون الحي مائدة كبيرة لأهل الحي وعابري السبيل.

وفي المدن، وبخاصة داخل الأحياء الشعبية، تخرج الأسر إلى الشوارع، وذلك لضمان وصول عابري السبيل والبعيدين على منازلهم والعزاب الذين لا يجيدون صنع الطعام، يتجمعون في حلقات لتناول طعام الإفطار مع آذان المغرب، وبعد تناول القهوة والشاي، يتسامرون بعض الوقت، ثم يذهبون إلى المساجد من أجل صلاة العشاء والتراويح.

في الأرياف وحتى في المدن الحضرية، تحرص بعض الأسر على تبادل صينية الطعام عبر أسوار منازلهم المتجاورة، تحريضًا على الأنس بالآخرين ونشر المودة، كما تجتمع النساء من الشارع أو الحي الواحد لإعداد عجينة المشروب الرمضاني الشهير “الحلو مر”، قبل شهر أو شهرين من قدوم الشهر الكريم.

“موية رمضان”

يبدأ السودانيون استعداداتهم لقدوم الشهر الكريم، مع حلول شهر شعبان الذي يطلقون عليه “قصير” باللغة الدارجة، في إشارة منهم لقصر الوقت واقتراب رمضان.

وتبدأ الأسر في شراء “موية رمضان” وتعني الخزين والتموين الخاص بالشهر من أطعمة ولحوم، وأطقم أطباق العصيدة والشوربة وأكواب العصير، والبهارات، وغيرها من المشروبات التقليدية الرمضانية، وأحيانا ما تقوم الأسرة التي لديها عريس بتقديم “موية رمضان” لأهل العريس كنوع من الهدية التي تتفاوت قيمتها بحسب المستوى المادي للأسرة.

يلتمس بعض السودانيين رؤية الهلال بالطريقة الشرعية، لكن الأغلب يعتمدون على وسائل الإعلام الرسمية، وبعد ثبوت الرؤية، تنظم مسيرة تجول في الشوارع تشبه موكبا أو “زفة” بالموسيقى والإنشاد الشعبي احتفالا بحلول رمضان.

يستقبل أهل السودان شهر الخير بطلاء منازلهم، وتزيينها وترتيبها، وتبدأ النساء في شراء ما يتطلبه المنزل من أواني وأطعمة، وتضاء المساجد التي يتعاون الموسرين من أهل الحي على إعمارها وتجهيزها، بالمصابيح التي تضفي البهجة على الشوارع في رمضان.

رمضان في السودان فرصة للقاء الأحبة، لذا مع ثبوت رؤية الهلال، تحرص الأسر على تبادل الزيارات وصلة الرحم، والتهنئة بقدوم الشهر الكريم مع عبارات شهيرة ومتداولة لديهم، مثل: “رمضان كريم عليكم” أو “الشهر مبارك عليكم”، أو “تصوموا وتفطروا على خير”، كما أنهم يرون أن رمضان شهرا للخير، لذا لا تجوز فيه استمرار العداوات أو المشكلات، وهكذا يزور الجيران بعضهم لطلب السماح حتى يحل الشهر الكريم فيجد النفوس خالية من كل حقد وضغينة.

ويتجول البعض لضرب مدافع تنطلق مع أذان كل مغرب في رمضان لإعلان حلول الإفطار، وكذلك قبل الفجر لتنبيه الناس لموعد الإمساك.

تشترك النساء مع الرجال في حبهن للصلاة بالمسجد، وبخاصة صلاة التراويح لمزيد من الخشوع مع الإمام، ويحرص السودانيون بالعاصمة الخرطوم على الصلاة في مسجد سيدة سنهوري ومسجد النور بكافوري.

ويقصد البعض مساجد معينة للصلاة، حبا في صوت الإمام وبخاصة في صلاة التهجد بالعشر الأواخر من رمضان، حيث يعتبرون صوت الإمام مساعدا في تدبر القرآن واستحضار معانيه.

جلسات الآبريه

يرتبط رمضان في السودان بالرائحة المميزة لـ “الحلو مر” أو “الآبريه”، ويشمها الجميع خلال تحضيره الذي يعتبر أيضًا مناسبة يفرح بها النساء والأطفال، تتناوب النساء على صنعه واحدة بعد الأخرى، حيثت يتطلب إعداده أياما قد تصل إلى أسبوع، ولا تخلو أوقات صناعته من السمر والثرثرة النسائية المحببة عن كل ما يهمهن من قضايا، ويبدأن في التفكير لمبادرات خيرية يطلقنها بحلول الشهر الكريم لمساعدة الآخرين، أو لمساعدة بعضهن البعض فيما يشبه صندوق تكافلي.

يصنع  “الآبريه” من دقيق الذرة مع مجموعة من التوابل منها: الكزبرة، والقرفة، والهيل، والعرق الأحمر، والتمر هندي، والكركديه، والكمون، يتم خلط هذه المكونات في عجين سائل تصنع منه رقائق، لتأتي بعد ذلك مرحلة “عواسة الآبريه” وتعني طريقة صنع رقائق المشروب الرمضاني، الذي تتم في مراحل عديدة وتختلف مقاديره من سيدة لأخرى

ويعتبر يوم “عواسة الآبريه” يومًا مشهودًا لدى الأسرة السودانية، تبدأ الجارات في الحي الواحد في الاجتماع حول قطعة كبيرة من الصاج يضعنها فوق حطب أو فحم، ثم يقومون بسكب السائل على الصاج الساخن فتتشكل منه رقاقات خفيفة.

و”عواسة الآبريه”، جلسة بطعم نسائي تجول فيها أكواب الشاي الأحمر على الحاضرات مع اللقيمات، كما يفرح الأطفال بتذوق الرقاقات الساخنة من على الصاج، ويشعر الجميع ببركة رمضان في الأجواء مع الرائحة الذكية ليعرف الجميع أن هذا المنزل عليه الدور في “عواسة الآبريه” اليوم.

وإلى اليوم لا تخلو قرية سودانية من جلسة كهذه، لكنها تقل في المدن حيث تمسل الأسر لشرائه جاهزا من السوبر مارمت، أو جلب سيدة لصناعته في المنزل، لكن رائحة “الآبريه” تفضح سره وتحمل معها بشارة رمضان.

ويتم توزيع بعض من كمية المشروب المعد على الفقراء والمحتاجين داخل الحي أو القرية، وأحيانًا تقوم النساء بإرسال بعض من المشروب اللذيذ لأبنائهم المغتربين والمهاجرين، باعتبار أنه مشروب وطني يستعيدون معه ذكرياتهم السعيدة مع الأهل والأصحاب في قراهم ومدنهم قبل الاغتراب بعيدا.

عصيدة ورحمنات

وينافس الآبريه على معدة السودانيين: البليلة السمراء، والتمر والمشروبات الرمضانية الأخر ومنها التمر هندي والتبلدي، وحتى مع شهرة مشروبات عربية أخرى ودخولها السودان فرمضان يحلو بالطعم المحلي الذي معه تعود الذكريات.

والمائدة الرمضانية في السودان تحترم التقاليد، لذا لا يخلو بيت من طبق العصيدة الشهير المكون من خليط الذرة المخمر بالماء يتم وضعه علي نار هادئة ثم يوضع في قالب على شكل قبة، ثم يوضع عليها ما يعرف بملاح التقلية أو الروب.

يبدأ السودانيون وجبة الإفطار بتناول التمر ثم تناول البليلة السمراء المكونة من الحمص المسلوق مع التمر، ثم يتناولون الشوربة وعصير الليمون، ومن الأطباق الرمضانية المميزة لديهم الويكة والعصيدة وملاح الروب والقرَّاصة.

ومن العادات الرمضانية السودانية أيضًا، “الرحمنات”، وهي وليمة تقام في رمضان تكريمًا للموتى، وهي عادة قديمة موجودة بشكل أكبر في القرى منها بالمدن، وعادة ما تقام وليمة “الرحمنات” في الجمعة الأخيرة من رمضان، حيث يقدم الطعام صدقة على أرواح الأموات، وتتكون تلك الوليمة غالبا من فتة الأرز مع اللحم، ويتغنى الأطفال الذين يتناولون من الوليمة بعض الأناشيد مصحوبة بإيقاع من  العلب المعدنية الصغيرة التي يضعون بها الحصى الصغير أو نوى التمر.

ويحرص الأهالي على تعليم الأطفال الصيام في سن صغيرة، ويشجعونهم على ذلك عبر الاحتفاء وتقديم الهدايا في آخر النهار عند الإفطار، ويقدم طعام الإفطار للأطفال قبل الكبار وحتى الضيوف، كنوع من التكريم لهم على نجاحهم في الصيام، وهو ما يجعل الأطفال يقبلون على الصيام ويتنافسون على إتمام صوم الشهر كله.

وحبًّا في هذه العادات الجميلة التي تميز السودان، يفضل المغتربون من السودانيين العودة إلى البلاد لقضاء شهر رمضان في أحضان التقاليد الجميلة ومع لمة الأهل والأقارب والأطباق الشهية ورؤية فرحة الأطفال مع صوت المسحراتية، الذي يختتم ليالي رمضان ويقوم بدوره شباب الحي الذين يجوبون الشوارع متطوعين بحكم أنهم يسهرون طوال الليل، يقرعون الصفيح أو الطبول الصغيرة مرددين الأناشيد الشهيرة، وأحيانا ما يذكرون اسم صاحب الدار الذين يمرون به في غنائهم.