مركز فاروس – هيئة التحرير

تناولت رسالة دكتوراه للباحثة رشا إبراهيم غريب، التي نوقشت يوم 21/ 12/ 2021 في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة في موضوع “الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا: دراسة حالة منطقة القرن الأفريقي”.

وتهدف الدراسة إلى البحث في عناصر الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي، وذلك منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي مثلت نقطة تحول جذرية على مختلف الأصعدة في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة محل الدراسة، حيث تسعى الدراسة إلى محاولة تقديم رؤية تحليلية شاملة لأبعاد السياسة الخارجية الأمريكية في أفريقيا والقرن الأفريقي، وذلك من خلال تحليل الرؤى والاستراتيجيات والقضايا والسياسات وأدوات تنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة عن طريق إجراء مقارنة للسياسة الخارجية الأمريكية لكل من إدارات (بوش وأوباما وترامب) تجاه منطقة تعد من أهم المناطق الحيوية في العالم، والتي تمتلك أهمية استراتيجية واقتصادية وأمنية متصاعدة، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، الأمر الذي جعلها مركزًا للتنافس الدولي والإقليمي، والذي انعكس بدوره على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة.

إشكالية الدراسة:

سعت الدراسة للإجابة على تساؤل رئيسي هو:

ما أوجه الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة وذلك منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001؟   

وللإجابة على ذلك التساؤل الرئيسي سعت الدراسة لاستكشاف محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتوضيح الأهداف والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، وتراتبية هذه المصالح عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

أهمية الدراسة:

إن اختيار “منطقة القرن الأفريقي” جاء نتيجة ما تتمتع به هذه المنطقة من أهمية استراتيجية واقتصادية وأمنية في دائرة التنافس الدولي، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، وما تردد عن تسرب بعض الخلايا من القاعدة إلى الصومال، ومن هنا تبرز أهمية الدراسة لتلك المنطقة المتصاعدة الأهمية.

محاولة الوقوف على كافة أبعاد السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة وأدوات تنفيذ هذه السياسة كمحاولة للتغلغل الأمريكي فيها وتعظيم الاستفادة من ثرواتها.

دراسة التأثيرات الناتجة عن تنافس القوى الكبرى على منطقة القرن الأفريقي، على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة، وما إذا كان ذلك يتخذ شكلًا تعاونيًّا أم صراعيًّا بين الولايات المتحدة وتلك القوى المتنافسة معها على النفوذ والسيطرة في المنطقة.

محاولة وضع إطار يساعد في تحديد كيفية الاستفادة من هذا الوضع بالنسبة لشعوب أفريقيا والقرن الأفريقي، وذلك في ضوء المستجدات الدولية التي تندرج تحت موضوع الدراسة.

يأتي الإسهام الرئيسي لتلك الدراسة في توضيح التغير الحادث في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا والقرن الأفريقي وفقًا للتغيرات الدولية بالقياس على منهجية التغير في السياسة الخارجية تبعًا للمتغيرات الخارجية.

ويركز الإطار النظري على دراسة الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية تجاه منطقة القرن الأفريقي من خلال تتبع ظاهرة التغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة محل الدراسة، حيث تحاول الدراسة الإجابة على تساؤل رئيسي؛ ما هو الثابت والمتغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا وبصفة خاصة منطقة القرن الأفريقي، والوقوف على مؤشرات ذلك التغير، وهل هذا التغير طال التوجهات أو الأدوات أو كليهما، وذلك من خلال تأثير المتغيرات المختلفة على تلك السياسة، سواء النابعة من البيئة الدولية والإقليمية مثل الحرب على الإرهاب ومكافحة القرصنة، والتنافس الدولي بين القوى الكبرى على المنطقة، أم تلك النابعة من البيئة الداخلية للولايات المتحدة وإدراك صانع القرار السياسي الأمريكي للأولويات الأمريكية في أفريقيا مع التركيز على أهم المناطق الحيوية بها وهي منطقة القرن الأفريقي.

تقسيم الدراسة:

اقتضت طبيعة الدراسة تقسيمها إلى خمسة فصول بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة وقائمة المراجع، ويتضح ذلك كما يلي:

يتناول الفصل الأول الإطار النظري التحليلي للدراسة، ويتمثل في دراسة الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية، من خلال تعريف المفهومين، وتحديد العوامل المؤثرة في كل منهما، بالإضافة إلى المدارس والاتجاهات النظرية التي تناولت كلا المفهومين. كما عرضت الدراسة لتطور دراسة التغير في أدبيات السياسة الخارجية، وأنماط ومجالات التغير في السياسة الخارجية، ودراسة التغير في نظريات العلاقات الدولية، وأخيرًا النماذج الجديدة لدراسة ظاهرة التغير في السياسة الخارجية وتقييمها.

وفي الفصل الثاني تتناول الدراسة محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القرن الأفريقي، وذلك من خلال مبحثين: الأول يناقش المحددات الداخلية من خلال تحديد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، والتي تنعكس بدورها على الترتيبات الأمريكية في القرن الأفريقي، أيضًا اهتمت الدراسة في هذا الجزء بتوضيح دور جماعات الضغط والمصالح المهتمة بأفريقيا. أما المبحث الثاني، فيتمثل في دراسة المحددات الخارجية للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة، وأبرزها الموقع الاستراتيجي والثروات الطبيعية ووفرة مصادر الطاقة التي أثرت على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة، كما مثلت الحرب العالمية ضد الإرهاب، والتنافس الدولي والإقليمي على المنطقة أهم المحددات الخارجية للتأثير على المصالح الأمريكية في المنطقة، فضلًا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المتردية في القرن الأفريقي، والتي ظلت تقود إلى المزيد من عدم الاستقرار وانتشار الفكر المتطرف.

أما الفصل الثالث؛ فيتناول السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أهم قضايا القرن الأفريقي، حيث احتلت قضية مكافحة الإرهاب الأولوية في السياسة الأمريكية في منطقة القرن الأفريقي، وذلك بحكم انتشار وتركز وتشابك الجماعات المتطرفة فيها، وأهمها حركة شباب المجاهدين الصوماليين. وتأتي قضية القرصنة أيضًا على سلم أولويات الولايات المتحدة في المنطقة، حيث تعتبر من أهم التهديدات الإقليمية قبالة السواحل الصومالية. وتزداد خطورة التهديدات البحرية حدة نتيجة وجود علاقات ارتباطية فيما بينهما، خاصة مع سعي الجماعات المتطرفة للبحث عن ساحات جديدة لعملياتها بعد التضييق الشديد عليها في البر.

وفي الفصل الرابع تناولت الدراسة أدوات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة القرن الأفريقي، فالولايات المتحدة في سعيها لتحقيق مصالحها في المنطقة لجأت إلى مجموعة من الأدوات التي تنوعت بدورها تبعًا لتنوع المصالح، حيث انطلقت في سياستها الخارجية تجاه المنطقة معتمدة على مرتكزين أساسيين؛ هما استخدام القوة الصلبة، أو القدرات العسكرية، واستخدام القوة الناعمة التي تعتمد على القوة الاقتصادية وعلى فكرة القدرة الإقناعية والجاذبية الثقافية. وعلى صعيد الأدوات السياسية، فقد اعتمدت على القوة الناعمة في مواجهة الفكر الذي يبرر العنف والتطرف وكسر الروابط بين الجماعات الإرهابية والجماهير المستهدفة، وذلك من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية لتحسين الصورة القومية للولايات المتحدة، كما تبنت الولايات المتحدة حزمة من البرامج والمبادرات التي تراوحت بين الترغيب والترهيب، من خلال ربط تنفيذ الإصلاحات السياسية ونشر الديمقراطية في معظم دول المنطقة بالمنح والاستثمارات، فضلًا عن توفير فرص الهجرة والإقامة بالولايات المتحدة.

أما على الصعيد الاقتصادي، تبنت الولايات المتحدة عدة برامج ومبادرات اقتصادية في علاقاتها التجارية تجاه الدول الأفريقية بصفة عامة، ومنطقة القرن الأفريقي بصفة خاصة. حيث سعت لتقديم العديد من التسهيلات والمساعدات والمنح لتنشيط التبادل التجاري على صعيد العلاقات الثنائية، والإقليمية مستعينة بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية .USAID

وتشتمل الأدوات الأمنية والعسكرية للولايات المتحدة في المنطقة على عنصرين:

التواجد العسكري المباشر وذلك للتدريب وتوفير المساعدات الاستخباراتية واللوجستية.

الاعتماد على بعض دول الأركان الإقليمية كوكلاء لها، حيث تمثل إثيوبيا الذراع العسكري للولايات المتحدة في القرن الأفريقي.

وفي إطار ذلك أبرمت الولايات المتحدة العديد من البرامج والمبادرات للتصدي لظاهرة الإرهاب في المنطقة من أجل تحقيق هدفها الرئيسي لحماية مصالحها، هذا إلى جانب القواعد العسكرية التي تزخر بها دول القرن الأفريقي، حيث تتنافس الدول التي تمتلك قوات بحرية في المنطقة من أجل إنشاء قواعد عسكرية تعمل كمراكز دعم لوجستي، ونقطة انطلاق لعملياتها الحربية في المنطقة، ضمن عمليات مكافحة الإرهاب والتصدي لعمليات القرصنة.

وفي الفصل الخامس والأخير تقوم الدراسة بتقييم مدى التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية تجاه أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي من أجل الإجابة على التساؤل الرئيسي للدراسة، حيث تسعى الدراسة لتوضيح ذلك من خلال عقد المقارنة بين الإدارات الأمريكية الثلاثة بدءًا من إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، وسلفه الرئيس باراك أوباما ويليه الرئيس دونالد ترامب، وذلك على مستويات عدة تبدأ برؤية كل منهم للقرن الأفريقي وأهميته بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها الوطنية، يليها استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي فيما بعد أحداث سبتمبر 2001، ورصد وتحليل أوجه التحول الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه المنطقة منذ تلك الأحداث، حيث أضحى هدف مكافحة الإرهاب على قمة سلم الأولويات بالنسبة للولايات المتحدة، وكيف يتجلى ذلك في خطابات الرؤساء الثلاثة، مع توضيح الأدوات التي اعتمد عليها كل منهم لتحقيق سياسته تجاه المنطقة وانعكاسات تلك السياسات على الحكومات والشعوب الأفريقية.

نتائج الدراسة:

إن أي تقييم للسياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه أفريقيا والقرن الأفريقي يتمثل في عدة اعتبارات منها ما هو ثابت، وما هو متغير؛ أما عناصر الثبات فتتمثل في الأهمية الجيواستراتيجية للمنطقة بالنسبة للمصلحة الوطنية الأمريكية، والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة وأهمها النفط الأفريقي، والثروات الطبيعية التي تزخر بها دول القارة، بينما تتضمن عناصر التغير مجموع التحولات السياسية والجيواستراتيجية الدولية والمحلية، وسائر المستجدات التي تؤثر سلبًا أو إيجابًا على المصالح والتوجهات الأمريكية تجاه دول المنطقة.

وقد حاولت الدراسة إظهار ذلك بالنظر لسلوك الولايات المتحدة في التدخل لفرض القوة الصلبة أو الناعمة في بعض الأحيان، أو الإحجام عن التدخل خوفًا من التورط فيما يمثل ضررًا لمصلحتها في أحيان أخرى، أو الاكتفاء بوسطاء ووكلاء لها في المنطقة في بعض الحالات. حيث تحولت نظرتها للمنطقة من منطق المواجهة السائد خلال الحرب الباردة إلى منطق الشراكة، والذي ظهر في وثيقة الأمن القومي لعام 2002، وتلاها وثيقة عام 2006، وما تلاها كما أوضحت الدراسة. فقد تحول الاهتمام بالقارة إلى مواقع متقدمة في الاستراتيجية الأمريكية بالنظر لتأكيد تلك الاستراتيجيات على الحاجة الملحة لأمن الولايات المتحدة من جهة، وخطورة تبعيتها للنفط، والحاجة لتنويع مصادر الطاقة. ومن ثم تتأكد حقيقة أن السياسة الأمريكية تجاه القارة تعبر عن الاستمرارية لتوجه أمريكي تاريخي نحو المنطقة، وإن اختلفت الدوافع باختلاف الأزمنة والتطورات الدولية المحيطة. وتبين الدراسة أيضًا حقيقة مفادها أن نشاط الدولة على المستوى الخارجي لا يعتمد فقط على قوتها، أو طبيعة مصالحها، أو تعدد تلك المصالح وانتشارها في العالم، بل أيضًا يتأثر بعامل الاستمرارية في تحقيق أهدافها.

تسببت “الحرب على الإرهاب “في إحداث تحول جذري في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث أصبحت الجهود الدولية لمكافحة انتشار الإسلام المتطرف والقضايا العابرة للحدود مصلحة استراتيجية مهمة. ويتجلى ذلك بوضوح في منطقة القرن الأفريقي، فإن علاقات الولايات المتحدة مع العديد من الدول الأفريقية معقدة وصعبة، بينما تظل قضايا الإسلام الراديكالي ومكافحة التمرد والقرصنة ملحة كما كانت دائمًا.

تمثل أفريقيا مكانة هامة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي للولايات المتحدة نظرًا لوفرة الموارد الطبيعية خاصة النفط، حيث أجمعت الإدارات الأمريكية على أهمية ومكانة القارة، وخاصة منطقة القرن الأفريقي، وإن اختلفت أدوات كلًا منهما لتحقيق المصالح الأمريكية بين القوة الصلبة والقوة الناعمة أو الجمع بينهما “القوة الصلدة”؛ فقد تم إقرار قانون التنمية والفرص في أفريقيا (أغوا)، برنامج بوش الطارئ للإغاثة من الإيدز (بيبفار)، وإنشاء مؤسسة تحدي الألفية(MCC) . وفي عهد أوباما تم تمرير قانون الطاقة أفريقيا، وقانون الأمن الغذائي، وتمديد قانون النمو والفرص، ولكن سرعان ما تغيرت هذه الأوضاع بوصول ترامب للسلطة، والذي غلب اللهجة العنصرية ضد الأفارقة والمسلمون، حيث أعتمد القوة الصلبة العسكرية في تعامله مع القارة بشكل عنيف، خاصة فيما يتعلق بتقليل المساعدات الاقتصادية والإنسانية، مما كان له أثار سلبية خطيرة على البلدان الأفريقية، وإن لم يخرج عن الإطار العام الذي يحقق المصلحة الوطنية الأمريكية في الخارج.

لا يوجد اختلاف واضح بين التيارات السياسية الأمريكية حول الأهداف المنشودة في القارة، ولكن ذلك لا يمنع وجود فروق بسيطة في ترتيب الأولويات تجاه أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي. ومن ثم يصبح الانتماء الحزبي غير مسيطر مقابل عنصر القيادة والسمات الشخصية كأحد محددات السياسة الخارجية التي تؤثر في التوجهات الحاكمة تجاه المنطقة.

وُصِفت السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا على أنها نتيجة للتزايد البيروقراطي، فمنذ أحداث سبتمبر 2001، تشارك جماعات الضغط تأثيرًا متزايدًا في صنع السياسات مع مجموعات الضغط المسيحية الإنجيلية، فقد تميزت رئاستا جورج دبليو بوش وباراك أوباما بالمشاركة النشطة لتلك الجماعات والمنظمات الدينية، وهذا ما يفسر السياسة الأمريكية النشطة بشكل ملحوظ تجاه السودان والعديد من النزاعات المسلحة في البلاد.

أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى القارة على أنها منطقة متجانسة بالنسبة لمصالحها، الأمر الذي يفسر إحجامها عن التدخل في مناطق تحتل أهمية قليلة بالنسبة لمصالحها القومية، واندفاعها بقوة في مناطق حتى وإن كانت متهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان، ومع ذلك يدعم الرأي القائل بأن الولايات المتحدة تقسم المنطقة إلى مناطق “نافعة” وأخرى “غير نافعة” وفقًا لمصالحها.

يمثل خطر الإرهاب الدولي والإسلام المتطرف عاملين خارجيين مترابطين للسياسة الأمريكية تجاه أفريقيا في القرن الحالي، هذا إلى جانب الصعود الصيني في أفريقيا الذي مثل عاملًا محددًا على الرغم من كونه أقل أهمية نظرًا لقلة التناقضات فيما بينهما تجاه القضايا الحيوية في المنطقة.

تتركز المصلحة الأمريكية من “الحرب على الإرهاب” في تأكيد هيمنتها العالمية، في حين أن مصالح الدول الأفريقية من حربها على الإرهاب تتحدد في تحديث أجهزتها الأمنية بما يتلاءم مع متطلبات العصر، ومواجهة الجماعات المتطرفة. ومن ثم أصبحت مكافحة الإرهاب سلاحًا ذو حدين؛ فهو يحفز ويدعم عمليات السلام من جانب، ويقوض الديمقراطية والاستقرار في الدول الأضعف على الجانب الآخر. ومن ثم فإن أهم الانتقادات التي وجهت للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب هو التركيز على الإرهاب في حد ذاته بدلًا من الظروف التي ساعدت على توليده ومحاولة تقديم حلول لمعالجات جذرية للقضاء على انتشار تلك الحركات المتطرفة، فالاستراتيجيات العسكرية الحالية لمكافحة الإرهاب قد طغت على الحاجة إلى خيارات “ناعمة”، بما في ذلك تدابير قوية للقضاء على الفقر لإحباط انتشار الأفكار المتطرفة.

اعتمدت الولايات المتحدة لحماية مصالحها في المنطقة على التعاون الأمني كأداة “للحرب عن بعد”، وخاصة في عمليات مكافحة الإرهاب والقرصنة في القرن الأفريقي، حيث يتضح أن هناك منطقًا أمنيًّا استراتيجيًّا مزدوجًا لاستخدامه؛ فهو يعمل على بناء قدرة قوات الأمن الأجنبية على حرمان المنظمات الإرهابية العابرة للحدود من الملاذات الآمنة داخل حدودها أو منطقتها، ومن ناحية أخرى يوفر وسيلة لتمكين عملاء الأمن الأجانب الآخرين من المشاركة في عمليات التحالف جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية، وتكثيف الشراكات السياسية مع الحكومات الخارجية وخلق أنماط جديدة من التعاون والتأثير والنفوذ. وهو بذلك من الناحية النظرية على الأقل، يمكن أن يقلل من حاجة القوات الأمريكية للقيام بالقتال من خلال تحسين قدرة الحلفاء على القيام بذلك بأنفسهم.

كان لتقديم المساعدات العسكرية الأمريكية لمنطقة القرن الأفريقي منطقًا أمنيًّا واستراتيجيًّا؛ كان القصد منه المساعدة في الحفاظ على الوصول إلى المرافق البحرية والجوية في الصومال وإثيوبيا فيما بعد، الدفاع عن الاستقرار الداخلي للحكومات الشريكة، وضمان انفتاح ممر باب المندب المائي الذي يعد الشريان الرئيسي للتجارة العالمية.

إن الجوانب الأمنية هي أكثر اهتمامات الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة القرن الأفريقي؛ خاصة ظاهرتي القرصنة البحرية والإرهاب البحري. فأي ظاهرة عابرة للحدود كالإرهاب والقرصنة والجريمة المنظمة تمس أي منطقة يكون لها انعكاساتها الإقليمية والدولية، كما يصعب مواجهتها بصورة منفردة، مما يفرض على الدول ضرورة التعاون للتصدي لأخطر أنواع الجرائم العابرة للحدود. وما يزيد من خطورة أعمال القرصنة البحرية الحديثة أنها تطرح إمكانية الترابط والتداخل مع الأعمال الإرهابية لبعض الجماعات والتنظيمات، بعد أن كانت في الماضي مجرد عمليات تقوم بها عصابات الجريمة المنظمة، الأمر الذي دفع الدول الكبرى والمؤسسات الدولية إلى التدخل للتعاطي مع هذه الظاهرة خاصة في ظل العولمة وتكنولوجيا الاتصالات وتطور وسائل الإعلام والتسلح بأنواعه. ومن ثم فإن مشكلة القرصنة لا يمكن قمعها بشكل كافٍ بالاعتماد على التكتيكات البحرية فحسب، بل أنها مرتبطة باستقرار البلاد، الأمر الذي يزداد صعوبة بالنظر لحقيقة أن الصومال كدولة تستمر في الانحراف نحو مزيد من الفشل.

إن سياسة الصين تجاه أفريقيا تختلف عن نظيرتها في الولايات المتحدة، حيث تسعى لترسيخ أقدامها في القارة اعتمادًا على القوة الناعمة الصينية، بينما تركز السياسة الأمريكية على مجابهة الصين مباشرة حفاظًا على هيمنتها العالمية. وفي إطار ذلك اتخذت الولايات المتحدة هدف مكافحة الإرهاب في المنطقة كوسيلة لدعم سياستها العالمية، والهيمنة للاستفادة من الظروف الدولية الراهنة، ولذلك تبدي الولايات المتحدة تخوفًا واضحًا من النفوذ الصيني في كامل القارة الأفريقية جراء زيادة حجم الاستثمارات الصينية أينما تتمركز المصالح الأمريكية.

أن ذلك يفرض العديد من التحديات على الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس “جو بايدن”، وأهمها ملف مكافحة الإرهاب بأفريقيا، خاصة في ظل الانقسامات المجتمعية التي تعانيها الولايات المتحدة بالداخل، ومواجهة جائحة كورونا التي أسهمت في تقويض حجم القوة الاقتصادية الأمريكية، الأمر الذي سيخلف تبعات ملموسة على معظم دول العالم خاصة الدول الأفريقية التي تعتمد على الدعم الأمريكي في العديد من الملفات، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب. وبالتالي فمن المرجح أن تتراجع قدرة الولايات المتحدة على توفير الدعم العسكري والأمني للدول الأخرى، وتراجع قدرتها على تمويل أنظمة تسلح. ويزيد من خطورة الأمر قرار ترامب سحب القوات الأمريكية من الصومال، والذي سيعزز من تنامي أنشطة حركة الشباب في المنطقة، وذلك بالتزامن مع تصاعد الهجمات الداعشية في أقاليم القارة المختلفة، ما يعني أن العمليات الإرهابية في تصاعد مستمر، الأمر الذي يفرض تحديًا ثقيلًا بالنسبة للإدارة الجديدة في مكافحة الإرهاب بالقارة.

توصيات الدراسة:

الحاجة إلى التنسيق بين المبادرات الوطنية والإقليمية والدولية لمكافحة الإرهاب، وذلك لضمان ألا تؤدي تلك المبادرات إلى تقويض الوضع الأمني الضعيف في القرن الأفريقي.

يجب على الحكومات الامتناع عن الاعتماد على حجة الإرهاب لمكافحته بطرق تقوض عمليات السلام، ويجب على المؤسسات الأفريقية، خاصة الاتحاد الأفريقي السعي بثبات إلى مكافحة الإرهاب بالعمل مع شركاء دوليين لتعزيز القدرات الإقليمية للتعامل بفعالية مع التهديدات الأمنية التي يشكلها الإرهاب.

الحاجة إلى تبني استراتيجيات أكثر هدوءا ودقة وواقعية لمواجهة التهديد المعقد للإرهاب بشكل فعال، ولعل المقاربات الأمنية الصارمة التي تتم في إطار السياسات الأمريكية تجاه المنطقة تؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن، وتعريض الديمقراطيات الضعيفة في أفريقيا للخطر، الأمر الذي يقود لانعدام الأمن الإقليمي في القرن الأفريقي. ولذلك علينا اتباع سياسة شاملة ومنسقة جيدًا لمكافحة الإرهاب تربط بين القضاء على الفقر، وحل النزاعات المتضاربة، واستراتيجيات بناء السلام في القرن الأفريقي.

يجب على الولايات المتحدة الانتقال بشكل متضافر إلى نهج أقل ارتكازًا على القوة العسكرية وأكثر تركيزًا على بناء القدرات المدنية، فرغم نجاحها في منع الهجمات الكارثية على أرضها، إلا أن أداءها في استباق الخصوم استراتيجيًا ومنع الإرهابيين من دفع الناس نحو التطرف كان سيئًا.

على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تتعلم من دروس الماضي؛ حيث تظل الحاجة ملحة لإعادة هيكلة الاستراتيجية العسكرية والأمنية للولايات المتحدة تجاه القارة، ومحاولة إيجاد نهج سياسي جديد يقضي على جذور التطرف، وذلك من خلال الجمع بين القوتين الصلبة والناعمة، ودمج الدول الأفريقية الأكثر تأثرًا بالعمليات الإرهابية في تلك الاستراتيجية، من خلال إنشاء مراكز عمليات مشتركة تعتمد على تبادل المعلومات الاستخباراتية. وفي هذا الصدد يمكن اتباع نهج أقل عسكرة على الصعيد الخارجي من أجل مواجهة التطرف، أو إعادة تفعيل ما يعرف بـ”استراتيجية مكافحة الإرهاب الزائد Counterterrorism Plus”.

تبنى النهج الاستباقي لمواجهة الإرهاب، وذلك من خلال تفعيل الإمكانيات والموارد المحلية ومساهمة كافة الجهات الفاعلة محليًّا وإقليميًّا، بدلًا من الاعتماد على المساعدات الأجنبية سواء على مستوى التخطيط والمنهجية أو التنفيذ، والذي خلف وراءه العديد من المراكز والقواعد العسكرية.