كتب – بنده يوسف

الباحث المتخصص في الشئون الإيرانية

بمجيء الحكومة الحالية في إيران، برئاسة إبراهيم رئيسي، دار الحديث عن توجهات جديدة للسياسة الخارجية الإيرانية، خاصة بعد انضمام إيران إلى “منظمة شنغهاي” في سبتمبر 2021، إلى جانب إعلان طهران سياسة خارجية جديدة تهتم بدول الجوار الإقليمي، لا سيما تجاه آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز والخليج العربي.

قادت هذه السياسة الجديدة إلى التساؤل حول مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية تجاه دول أفريقيا، لكن شواهد الأحداث تؤكد أن قارة أفريقيا ما زالت في دائرة السياسة الخارجية الإيرانية في إطار محاصرة أعدائها؛ فالتمدد الإيراني في أفريقيا هو جزء من تطويق إسرائيل، إلى جانب غايات اقتصادية وسياسية أخرى لإيران، مثلما نجد التمدد الإيراني في أمريكا اللاتينية في إطار تطويق الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب مآرب أخرى من هذه العلاقات.

تطويق إسرائيل

هناك جانب مهم في فهم السياسة الخارجية لإيران تجاه أفريقيا، وهو التمدد في فناء أعدائها؛ بما يعني أن إيران تمتلك البدائل للسلاح النووي، إذا ما خضعت طهران للاتفاق النووي وتعهدت بعدم امتلاك السلاح النووي، وهو ما يعني حاجتها لسلاح بديل رادع، وهو مليشيات إيران في الخارج، ومنها في دول أفريقيا. وهذا يفسر دوافع إيران لنشر التشيع هناك.

وإذا نظرنا للاتفاق المغربي الإسرائيلي -أي اتفاق التطبيع الذي جرى بين المملكة المغربية وإسرائيل في 10 ديسمبر 2020 بوساطة أمريكية- لتصبح المغرب سادس دولة عربية تطبع مع إسرائيل بعد مصر (1979) والأردن (1994) والإمارات (2020) والبحرين (2020) والسودان (2020)، فضلًا عن مساعي إسرائيل للانضمام للاتحاد الأفريقي، بصفة مراقب، نجد أن إيران على الجانب الآخر قد عززت من علاقاتها مع الجزائر البلد المعارض للسياسة المغربية، فخلال مشاركة رئيس المجلس الشعبي الوطني في الجزائر إبراهيم بوغالي في مؤتمر اتحاد مجالس الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي، في طهران، ديسمبر 2021، نجد أن رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف قد اهتم بمقابلة بوغالي، وتناول معه قضية التمدد الإسرائيلي في أفريقيا.

وتفهم إيران السياسة المتأزمة بين الجزائر والمغرب، وهو ما تستغله في إدارة سياستها نحو أفريقيا، ولذلك نجد أن من ثمار هذا التقارب إعلان رئيس المجلس الشعبي الوطني في الجزائر، إبراهيم بوغالي، تنصيب مجموعة الصداقة الجزائرية-الإيرانية، إلى جانب الدور الجزائري في إفشال انضمام إسرائيل للاتحاد الأفريقي بصفة مراقب، خاصة أن الجزائر عضو في اللجنة السباعية لمناقشة هذه المسألة، وبعدها عبّر السفير الإيراني في الجزائر، حسين مشعلجي ‌زاده، عن “تقديره للنجاح الذي حققته الدبلوماسية الجزائرية عندما تم تعليق قرار منح الكيان الصهيوني صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي”.

وفي إطار تشكيل محور إيراني مواجه لمحور التقارب مع إسرائيل دعا المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، في مطلع فبراير 2022، المسؤولين في المغرب إلى العودة إلى أحضان شعبهم الرافض للتطبيع بدل تتبع ما تفعله طهران، متهمًا الرباط بنشر التوتر في المنطقة، في إشارة إلى توقيع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، وهذه التصريحات تأتي ردًّا على اتهامات المغرب لإيران بانتهاج سياسة نشر التشيع في أفريقيا لتشكيل قاعدة روحية تكون بمثابة نقطة بداية لتكرار نماذج حزب الله اللبناني في دول أفريقيا، بما يهدد استقرار القارة السمراء، ولذلك قال ناصر بوريطة، وزير الخارجية المغربي: إن “الأمن الروحي” للمغاربة وللقارة الأفريقية يعتبر من بين الأولويات للتصدي لما أسماه “بأطماع إيران التي تحاول الدخول إلى غرب أفريقيا لنشر مذهبها هناك”.

قاعدة مليشيات

لقد نجحت إيران في الاستفادة من المليشيات الشيعية الموالية لها في العراق ولبنان، وتحويلها إلى قاعدة عسكرية لتأمين وإدارة مصالحها، وتتعزز هذه الاستفادة في مرحلة انفتاح بعض دول القارة السمراء على إسرائيل، إلى جانب حاجة إيران للمحافظة على امتلاك سلاح بديل للسلاح النووي.

وعلى غرار سياسة إيران مع دول أمريكا اللاتينية، تعتبر الشعارات الإيرانية حول نصرة المستضعفين في مواجهة القوى الاستكبارية، كما تسميها إيران، من الأدوات الناجعة في إيجاد أرضية للنفوذ الإيراني داخل أفريقيا.

وتهتم سياسة الرئيس الإيراني المحافظ، إبراهيم رئيسي، بتكرار تجربة حكومة الرئيس نجاد، التي وضعت أفريقيا في أولوية سياستها الخارجية. ولذلك قال رئيسي -خلال لقائه مع وزير خارجية دولة توجو (غرب أفريقيا)، “رابرت دوسي”، في 24 يناير 2022- “إن الدول الأفريقية تزخر بالمصادر الطبيعية والمناجم و الموارد البشرية، وإن طهران ترغب في تمتين العلاقات مع هذه الدول في شتى المجالات خدمة للمصالح المشتركة، وإن الدول الغربية لديها نزعة استعمارية على مر التاريخ، وكانت تحاول استغلال الدول الأفريقية، واليوم تسعى وراء تحقيق مصالحها في هذه الدول لذلك فإن مساعي الشعوب الأفريقية لنيل الاستقلال قيمة، وإن نجاحهم يتوقف على التأكيد على الهوية الوطنية والثقافية ومواجهة تلك المطامع”.

وإن كانت مثل هذه التصريحات تعبر عن مناصرة إيران لدول القارة السمراء؛ لكنها تكشف عن أهداف إيران من هذا التواجد داخل أفريقيا؛ التي تنصب نفسها بديلًا للقوى الغربية؛ والحالة النيجيرية شاهد على ذلك، فقد سعت طهران إلى استنساخ حزب الله اللبناني هناك، من خلال الشيعة هناك. فلم تكن تعرف نيجيريا شيئًا عن التشيع حتى عام 1980 بعد انتصار ثورة إيران، وتحول الشاب إبراهيم الزكزاكي الحاصل على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة أحمدو بيلو في نيجيريا إلى المذهب الشيعي، وبدأ في نشره داخل البلاد بدعم مالي ولوجستي ودعائي كامل من قبل إيران، ولم ينجح في تحقيق تقدم ملحوظ حتى عام 1995. واليوم تعيش أقلية شيعية في نيجيريا تستقر بشكل خاص في مدينة زاريا بولاية كادونا تقدر بعشرات الآلاف، تنظمهم وتقودهم “المنظمة الإسلامية” التي يتزعمها “إبراهيم زكزاكي” الذي يعتبر المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي مرجعًا دينيًّا له، وبالمقابل تدعي مصادر إيرانية أن عدد الشيعة يبلغ حوالي 4 إلى 10 ملايين نسمة تحولوا إلى المذهب الشيعي نتيجة لدعم إيران لإبراهيم زكزاكي إلا أن التقارير الميدانية لا تؤكد هذا العدد المبالغ فيه، حيث لا يتجاوز عدد الشيعة عشرات الآلاف.

وتؤكد التقارير قيام الزكزاكي بتكوين ميلشيا عسكرية يقوم أعضاؤها طوال الوقت بالتدريب على القتال، وهو ما كشفه المحلل السياسي النيجيري محمد كبير عيسى في مقال له، لافتًا إلى أن الحركة الشيعية باتت “دولة داخل الدولة”، وأنها تقوم بإجراء تدريبات عسكرية لأعضائها؛ مما يكشف عن تدبير الشيعة لعمل ما في المستقبل.

وقد صدر تقرير عن معهد الشرق الأوسط في 2018 اعتبر أن إيران وجّهت “حزب الله” لزيادة تدريبه للنيجيريين لأملها في استخدام نيجيريا كقاعدة عمليات لشن هجمات وإحباط الطموحات الإسرائيلية والغربية في المنطقة.

وقد كشف التقرير، الذي نشرته “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية”، أن أسلحة إيران لجماعة الحوثي في اليمن يتم تهريبها بشكل ممنهج عبر خليج عدن إلى الصومال، وهو ما يدل على أن إيران تتخذ من أفريقيا قاعدة لعملياتها التخريبية الخارجية.

لقد تنامى النفوذ الإيراني في أفريقيا لدرجة أن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية توقعت أن تقوم طهران بالانتقام لمقتل قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، باستهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية في أفريقيا؛ وذلك على عكس التوقعات بأن يكون الانتقام في العراق أو في منطقة الخليج.

قاعدة للتنافس

الطبيعة النامية لدول أفريقيا تمثل لإيران فرصة للتنافس الناعم، بعيدًا عن خشونة الصدام، وتكشف الحالة الإثيوبية نموذجًا على التنافس الناعم بين إيران وجارتها تركيا في أفريقيا، فمنذ اندلاع الصراع في منطقة تيجراي الإثيوبية، ادعى معارضو الحكومة احتمال استخدام الجيش الإثيوبي لطائرات دون طيار (درون) من قبل قوات الدفاع الوطني. وقد سعت كل من أنقرة وطهران إلى استغلال الحرب هناك، بين الحكومة الإثيوبية والمجموعات المتمردة للتدخل في القارة الأفريقية خدمة لمصالحهما مستغلة حاجة أديس أبابا لسلاح الطائرات المسيرة.

وقد استغلت كل من طهران وأنقرة فقدان رئيس الحكومة الإثيوبية “أبي أحمد” للدعم الأمريكي والغربي منذ أن اختار التحالف مع إريتريا، وتورط في جرائم حرب في إقليم تيجراي وذلك لبسط نفوذهما المتزايد في إثيوبيا.

واعتمد الجيش الإثيوبي بقدر كبير على سلاح الطائرات المسيرة القادمة، سواء من تركيا وإيران لإلحاق الهزيمة سريعة بجبهة تحرير تيجراي، خاصة أن البلدين يمتلكان خبرات في تصنيع هذا النوع من السلاح.

ومن بين الأسلحة التي سلمتها إيران لإثيوبيا طائرات دون طيار تعمل في مجالي التجسس والضربات الهجومية، ومنها طائرة “مهاجر 6″، وجرى رصد طائرة نقل “إليوشن Il-76TD إيرانية” (روسية الصنع) في الفترة ما بين يونيو/ تموز وأغسطس/ آب الماضيين.

وحملت تلك الطائرات المسيرة أسلحة ولوجستيات إلى مطار هارد ميديا الإثيوبي الذي تهتم به إيران لأسباب استراتيجية.

ويُعبِّر السباق بين إيران وتركيا على دعم إثيوبيا، عن التنافس الناعم بين البلدين على التواجد في أفريقيا لأسباب مركبة بين الأمنية والاقتصادية.

سوق لإيران

إذا نظرنا إلى الاقتصاد الإيراني المتدهور جراء العقوبات الغربية، فإن الأسواق الأفريقية تعد الخيار الأفضل للصادرات الإيرانية، خاصة أن هذه الأسواق لن تفتش عن المعايير القياسية؛ بل ستقبل أي منتج رخيص يلبي احتياجاتها، ولذلك تضع حكومة “رئيسي”، الأسواق هناك ضمن أولوياتها الاقتصادية. وقد كشف عضو لجنة البرنامج والميزانية في البرلمان الإيراني، مجتبي رضا خواه، أن حجم صادرات إيران إلى أفريقيا قد بلغت نحو 800 مليون دولار العام الماضي، رغم ظروف كورونا الصعبة، ما يدل على أهمية القارة الأفريقية في برنامج إيران الاقتصادي.

وتعتبر أفريقيا ضمن سياسة الدبلوماسية-الاقتصادية التي أعلنتها حكومة رئيسي منذ مجيئها؛ خاصة أن أفريقيا تمثل بيئة مناسبة للاستثمارات الإيرانية في إطار منافسة أقل حدة عن غيرها في مناطق أخرى مثل آسيا. فضلًا عن أن السياسة الاقتصادية هناك تتوازى مع أهداف الدبلوماسية السياسية التي تتخذ من أفريقيا منطقة لتمدد النفوذ الإيراني.

وقد أعلن مدير مكتب الشؤون العربية والأفريقية بمنظمة التنمية التجارية الإيرانية، فرزاد بيلتن، في نوفمبر 2021، عن نمو قيمة وحجم الصادرات السلعية إلى أفريقيا 230% و36% على التوالي في 7 شهور فترة 21 مارس/ آذار حتى 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وأكد “بيلتن” أن غانا تبوأت المرتبة الأولى في قائمة الدول الأفريقية المستوردة السلع الإيرانية بقيمة 252 مليون دولار، تلتها جنوب أفريقيا بنحو 105 ملايين دولار، والجزائر نحو 66 مليونًا، وكينيا 45 مليونًا، ونيجيريا 23 مليون دولار. وأضاف أن تنزانيا استوردت سلعًا بقيمة 40 مليون دولار، والسودان 13 مليونًا، والصومال 12 مليونًا، وموزمبيق 7 ملايين، ومصر نحو 6 ملايين دولار.

من جهة ثانية بيّن مدير المكتب أن واردات إيران من دول أفريقيا سجلت 31 مليون دولار في الشهور السبعة المذكورة بنمو 39%.

وقد شملت وجهات التصدير الإيرانية الرئيسة في القارة الأفريقية مصر والسودان وكينيا وجنوب أفريقيا وتنزانيا وجيبوتي وموزمبيق والمغرب ونيجيريا والصومال والجزائر وتونس.

وتُصدِّر إيران بشكل أساسي البيوتان والبيتومين والصلب والفازلين واليوريا والكلنكر والإسمنت وسبائك الحديد والهيدروكربونات إلى أفريقيا. وتستورد بشكل رئيسٍ البرتقال والفوسفات والأسماك والتبغ والبقوليات وألواح الصلب والشاي وحبوب الكاكاو من أفريقيا.

وتأكيدًا على اهتمام حكومة رئيسي بأفريقيا فقد رأس نائب الرئيس الإيراني، محمد مخبر، فريق عمل خاص بالترويج للصادرات الإيرانية إلى أفريقيا؛ حيث تعتزم إيران زيادة تجارتها مع الدول الإفريقية إلى حوالي 5 مليارات دولار سنويًّا.

المحصلة

إن حكومة الرئيس الإيراني المحافظ، إبراهيم رئيسي، تستعيد سياسة الرئيس الأسبق، أحمدي نجاد، وتضع أفريقيا ضمن أولوياتها الخارجية، رغم انتهاج خارجيتها سياسة التوجه شرقًا، وذلك لأنها تمثل فرصة لخروج إيران من عزلتها التي فرضتها عليها العقوبات الغربية.

إن موقع أفريقيا، حيث الممرات المائية التجارية، ومجاورة القوى المعادية لإيران مثل إسرائيل، واستمرار ارتباط أفريقيا بالقوى الاستعمارية الغربية يجعل لدى إيران أهمية للاهتمام بأفريقيا كمنطقة تواجد لتأمين مصالح إيران التجارية ومناكفة أعدائها، وإزعاج القوى الغربية.

إن طبيعة أفريقيا النامية تمثل فرصة للاقتصاد والتجارة الإيرانية، وهو ما يجعل أفريقيا محط اهتمام إيراني بصورة استراتيجية.

تعتمد إيران سياسة هجينة في نفوذها داخل أفريقيا بين المذهب الشيعي والاقتصاد والعلاقات الثقافية والدعم العسكري؛ فهي تلجأ حاليًا إلى تطبيق فكرة “الجيوبوليتيك الشيعي”، ولكل دولة من الدول التي سعت إيران إلى توثيق علاقاتها معها مزايا مختلفة عن غيرها، فإريتريا مطلة على مضيق باب المندب، والسودان يربط بين شرق القارة وغربها بملتقى طرق حيوي يسهم في نشر التشيع مع الحركة التجارية والثقافية، أما دول غرب أفريقيا مثل نيجريا والسنغال فتبدو متأهبة لتوطيد هذه العلاقات نظرًا لوجود بعض الحركات الإسلامية المساندة للمذهب الشيعي، وهناك أيضًا العلاقة مع جنوب أفريقيا التي ستستمر على الصعيد الاقتصادي نظرًا لمعدلات النمو الاقتصادي الكبيرة التي تمتلكها، وهذه السياسة الهجينة تعني أن إيران مستمرة في الحفاظ على علاقاتها ونفوذها داخل أفريقيا بصورة تعبر عن رؤية استراتيجية قومية تخدم النفوذ السياسي والاقتصادي لإيران داخل القارة السمراء.