كتبت – أسماء حمدي

بعد أيام من الاحتفال بعيد ميلاده الـ77، توفي الناشط البيئي والسياسي الكيني المشهور عالميًا في مجال الحفاظ على البيئة «ريتشارد ليكي»، والمعروف بدفاعه عن الفيلة، والذي ساهم عمله الرائد في الاعتراف بإفريقيا باعتبارها مهد الجنس البشري.

وفاة صائد الأحفوريات

أعلن الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، الأحد الماضي، وفاة صائد الأحفوريات «ريتشارد ليكي»، قائلا: «تلقيت بحزن عميق نبأ وفاة الدكتور ريتشارد إرسكين فرير ليكي، الرئيس السابق للهيئة العامة في كينيا».

وأضاف كينياتا: «الدكتور ليكي، خدم بلادنا بامتياز على مر السنين في العديد من أدوار الخدمة العامة من بينها كمدير للمتاحف الوطنية في كينيا ورئيس مجلس إدارة خدمات الحياة البرية».

كان ليكي رجلاً مشاكسًا وكانت إنجازاته رائعة بقدر ما كانت متنوعة، حيث قاد حملات لوقف الصيد الجائر في كينيا، كما اشتهر بحرق مخزون البلاد من العاج.

ولد «ليكي» في 19 ديسمبر 1944 في العاصمة الكينية نيروبي، كان والديه، لويس وماري، من علماء الآثار وعلماء الأحافير المشهورين الذين أمضوا عقودًا في استكشاف الوادي المتصدع في كينيا، باحثين عن أصول البشرية.

اتبع «ليكي» خطى والديه في علم الإنسان القديم، وممارسة السعي لفهم التطور البشري من خلال دراسة الحفريات والأدوات القديمة، وكاد أن يتفوق عليهم، وكانت وظيفته الأولى دراسة الأحافير.

في سن 23 عاما، نال من دون تأهيل أكاديمي، منحة من « ناشيونال جيوغرافيك سوسايتي» لإجراء بحوث أثرية عند ضفتي نهر توركانا في شمال كينيا، في المرحلة الأولى من سلسلة حفريات طويلة في هذه المنطقة شبه الصحراوية غير الحاضنة للتنوع الحيوي.

توصل ليكي إلى اكتشافاته الهامة والغير مسبوقة، وفي كتابين رائدين (أصول وشعوب البحيرة)، شرح ظهور الإنسان المنتصب، أحد أسلاف البشر المعاصرين، وساهم عمله في تزايد مجموعة الأدلة على أن البشر الأوائل قد عاشوا في القارة الأفريقية.

ففي عام 1972، عثر «ريتشارد ليكي» على أولى الجماجم العائدة للإنسان الماهر (عمرها 1.9 مليون سنة)، وللإنسان المنتصب (1.6 مليون سنة) عام 1975.

حقق حينها شهرة واسعة في مجال الحفريات، وأصبح خبيرًا مشهورًا عالميًا، ومؤلفًا وناشطًا في مجال الحفاظ على البيئة، وخصصت له مجلة «تايم» غلافها، وفي عام 1981، عرضت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» وثائقيا من سبعة أجزاء بعنوان «صنع البشرية»، تولى فيه السرد والتقديم مما جعله اسمًا مألوفًا.

لكن اكتشافه الأبرز يعود إلى سنة 1984، من خلال نبشه هيكلا عظميا شبه مكتمل عائدا إلى شخص من عصر الإنسان المنتصب سُمي «فتى توركانا».

لم ينل ليكي في حياته أي شهادة علمية، لكنه حصل على الكثير من شهادات الدكتوراه الفخرية خلال مسيرته اللافتة، كما عُين أستاذا لعلم الأناسة في جامعة ستوني بروك في نيويورك، كما أسس معهد حوض توركانا الذي يدعم العلماء الأفارقة وينسق عمليات التنقيب في المنطقة، ومنصة «وايدلايف دايركت» المعنية بالتوعية على حماية الثروة الحيوانية البرية.

رمز الدفاع عن الفيلة

في أواخر الثمانينيات، غير ليكي حياته المهنية لتولي منصب رئيس خدمة الحياة البرية في كينيا (KWS)، في وقت كانت فيه المنظمة على وشك الانهيار وكان الصيادون منشغلون في القضاء على الأفيال ووحيد القرن بالكامل.

كان ليكي قويا ورافضا للفساد، وطلب من حراسه أن يطلقوا النار على الصيادين على مرمى البصر، ونظم حملة الحرق العام لمخبأ ضخم يحتوي على 12 طنا من العاج كعمل دعائي لجذب الانتباه العالمي إلى التهديد الذي تواجهه الأفيال، وأصبح رمزا من رموز الحرب ضد الاتجار بعاج الفيلة.

في سبتمبر 2021، قال «ليكي» خلال مقابلة مع «بي بي سي»: «لقد صُدم الناس حقًا من أن العاج تسبب في انقراض الأفيال».

كانت أساليب ليكي ناجحة، لقد كان نمطًا لن يتكرر، ولكن أسلوبه القتالي أكسبه الكثير من الأعداء.

في عام 1993، عندما فقد السيطرة على الطائرة الصغيرة من نوع «سيسنا» التي كان يقودها وسقطت وتحطمت في وادي ريفت، وبُترت كلتا ساقيه من تحت الركبة، تكهن الكثيرون بأنها كانت عملية مدبرة.

قال ليكي ذات مرة باستخفاف مهين: «أعتقد أن الضغط يناسبني على الأرجح».

عندما كان طفلاً، أصيب بكسر في الجمجمة بعد سقوطه من حصان، وفي وقت لاحق من حياته، أجرى عمليات زرع الكلى والكبد، وحارب مرض السرطان ونجا منه.

قاسٍ وصادق

في عام 1994، غيّر ليكي مهنته مرة أخرى، حيث ترك الهيئة الكينية للحياة البرية «KWS»، للدخول في عالم السياسة الذي لا يرحم، لينضم إلى أصوات كثيرة معارضة للفساد والسياسات الاستبدادية لنظام موي، وساعد في تشكيل حزب معارضة يسمى سافينا للدعوة إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب.

وبحسب «بي بي سي» قال «ليكي» في حديث سابق: «بالنظر إلى حياتي المهنية، كان الجانب السياسي من حياتي أكثر فائدة بالنسبة للبلد، لكنها كانت بعيدة عن أن تكون رحلة سهلة».

وفي إحدى المرات تعرض للهجوم من قبل بلطجية مستأجرين، ووصفه الرئيس موي بالعنصري والملحد والأجنبي.

لكن في عام 1999، صدم الرئيس موي البلاد عندما عين ليكي رئيسًا للخدمة المدنية في كينيا، وما يسمى بفريق الأحلام من الإصلاحيين المعينين لإنقاذ دولة وصفت بأنها واحدة من أكثر الدول فسادًا في العالم، من أزمة اقتصادية متفاقمة.

وقال مؤيدون: إن الرئيس اعترف بأن ليكي هو الرجل الوحيد الذي يتمتع بالقوة الكافية والصادقة بما يكفي لإخراج كينيا من متاعبها، لكنهم تساءلوا عما إذا كان سيستمر لفترة كافية في المنصب لفعل أي فائدة حقيقية، بينما قال المنتقدون إن تعيين رجل أبيض بدون تعليم جامعي إهانة للكينيين.

تمتع ليكي لفترة من الوقت بشعبية غير مسبوقة، حيث بدأ فريق أحلامه إصلاحًا جذريًا للبيروقراطية المتضخمة والفاسدة والمحسوبية في البلاد.

لكن كالعادة، واجه ليكي مشكلة، حيث اشتكى البعض مرة أخرى من قدرته الخارقة على تكوين أعداء لا داعي لها، وقال آخرون إن حملته لمكافحة الفساد كانت تهدد مصالح الكثير من الشخصيات القوية.

في عام 2001، استقال ليكي دون إعطاء أي تفسير عام، بعد ذلك قال إنه أراد التقاعد من الحياة السياسية، وفضل بدل من ذلك أن يزرع العنب في مزرعته في وادي ريفت.

لكن في عام 2015، عاد إلى الحياة العامة حيث عينه الرئيس الحالي أوهورو كينياتا رئيسًا لمجلس إدارة KWS، حيث توسط في صفقة مثيرة للجدل سمحت ببناء خط للسكك الحديدية بتمويل صيني عبر حديقة نيروبي الوطنية.

ونُقل عنه قوله في ذلك الوقت: «لا يمكننا أن نقول لشعب كينيا، لا يمكن أن يمر خط السكة الحديد عبر نيروبي بارك، لذا لن يكون لديك خط سكة حديد لمدة خمس سنوات».

دوق كامبريدج ينعى ليكي

قطع الأمير وليام دوق كمبريدج، عطلته بمناسبة بداية العام الجديد، لينعي العالم ريتشارد ليكي، وفي تغريدة شخصية نادرة نشرت على الصفحة الرسمية لقصر كنسينغتون على موقع «تويتر»، كتب: «حزنت جدا لسماع أنباء وفاة ريتشارد ليكي».

وأضاف:«لقد كان ليكي ناشطا شجاعًا وملهما في مجال الحفاظ على البيئة، وقد تشرفت بمقابلته، لقد أحدث تحولا كبيرا في خدمة الحياة البرية الكينية وقاد ببسالة الجهود المبذولة لوقف الصيد الجائر للأفيال، لقد فقد مشروع الحفاظ على البيئة وحمايتها أحد رواده من أصحاب الرؤية الحقيقية».

ومن جانبه، قال نائب الرئيس الكيني وليام روتو، إن ليكي «ألهم العديد من الكينيين بالولاء لبلاده، لقد أحب كينيا».

في الآونة الأخيرة، قبل وفاته، انتقل تركيزه إلى ما اعتبره أكبر تهديد بيئي، وهو « تغير المناخ»، قائلا: «لقد خلقنا فوضى رهيبة».

كان الناشط الكيني يخشى أن المتنزهات الوطنية ستختفي ذات يوم لأنها «كانت ستجف أو تنجرف»، يقول ليكي: «الصيد الجائر، أعتقد أنه يمكننا التعامل معه، لكن فقدان الموائل والتوسع البشري للتعدي على أنظمة المياه والغابات وتلويث الهواء لا ، لا أرى أي شيء يتم القيام به في إفريقيا».

مات ليكي وهو يحلم ببناء متحف على أطراف الوادي المتصدع في كينيا، للاحتفال بالتطور والتاريخ المشترك من إفريقيا الذي يتقاسمه جميع البشر، لكنه ظل مجرد حلم.