كتبت – أماني ربيع

طالما آمن المصريون القدماء بأن البناء هو وسيلتهم إلى الخلود، ربما لهذا أفنوا طاقتهم ووجهوا إبداعهم إلى البناء والتشييد، لتكون قصورهم ومعابدهم لسان حضارتهم ومؤرخها حتى بعد آلاف السنين.

 ويبدو أن جينات البناء والتخطيط تمتد إلى الأبناء والأحفاد، جيلا بعد جيل، فكثيرون هم المهندسون المصريون من العظماء الذين برعوا في إنشاء المدن وزراعة الحياة والعمران في الصحراء، وإلى هؤلاء العظماء ينتمي المهندس المصري عبدالرحمن مخلوف، الذي توفي بالأمس عن عمر يناهز 98 عاما.

عراب أبوظبي

ابن قرية بني عدي بمحافظة أسيوط الذي أصبح اسمه مقترنا بمدينة أبوظبي، التي يعد عرابا لها، حيث جلس يوما بجانب الشيخ زايد آل نهيان، رحمه الله، ليطلعه على مخططها، بعد أن عينه مؤسس الإمارات مديرا لتخطيط المدن في أبوظبي عام 1968، ليتولى المعماري المصري تخطيط مدن الإمارة، التي أضحت الآن حاضرة مزدهرة، وإنشاء دائرة تخطيط المدن في مدينتي أبوظبي والعين.

وحرص ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان على تقديم واجب العزاء في الفقيد، ونشر صورة للراحل مع الشيخ زايد، عبر حسابه على تويتر أرفقها بتغريدة قال فيها: “رحم الله الدكتور عبدالرحمن مخلوف، عمل بصدق وإخلاص إلى جانب المغفور له الشيخ زايد، أحد الرواد الذين أسهموا في رسم المخطط العمراني لإمارة أبوظبي، خالص العزاء إلى أسرته الكريمة”.

ونعى الدكتور أسامة الأزهري، مستشار رئيس جمهورية مصر العربية للشؤون الدينية وأحد علماء الأزهر الشريف، في بيان قال فيه: “ببالغ الحزن والأسى أنعى المرحوم المعماري العبقري عبدالرحمن مخلوف، الذي توفي اليوم وقد قارب المئة، عن عمر 98 سنة، وهو الذي خطط مدينة أبوظبي، وغيرها كثير من المعالم البارزة”.

وأضاف: “كانت قد جمعتني به صداقة ومعرفة منذ تسع عشرة سنة، وذلك في سنة 2003، حيث التقينا مرارًا في أبوظبي، وأهداني نسخة من الرسائل المتبادلة بينه وبين أبيه العلامة الجليل المفتي الشيخ حسنين مخلوف، رحمه الله، أيام أن كان يقيم هو في ألمانيا لدراسة الهندسة في الأربعينات، رحم الله القيمة والقامة المصرية الشامخة المهندس العبقري عبدالرحمن مخلوف، ورفع في الجنة درجته، وإنا لله وإنا إليه راجعون”.

ويعد المهندس عبدالرحمن مخلوف، أحد رواد التخطيط العمراني في العالم، وكانت له بصمته المعمارية في العديد من الدول العربية منها: جدة والرياض والمدينة المنورة وأبوظبى والعين، وسبق.

وفي فيلم تسجيلي يستعرض مسيرته، قال المهندس الإماراتي أحمد محمد الشريف، إنه استطاع فهم فكر ورؤية الشيخ زايد آل نهيان، وقام بترجمة هذه الرؤية الحكيمة وتوجهاته إلى مخططات معمارية واضحة.

بينما قال عنه فلاح الأحبابي -المدير العام لمجلس أبوظبي للتخطيط العمراني- “إن تخطيط أبوظبي الذي قام به المهندس المصري عبد الرحمن مخلوف ساعدنا في التنمية وتطوير الاقتصاد بالإمارات، وطالما علمنا من خبراته كأي أب يعلم أبناءه، مؤكدا دوما أن من يقوم بتخطيط مدينة يضع قلبه وروحه في تلك المدينة.”

من القاهرة إلى الخليج

ولد عبدالرحمن مخلوف عام 1924 في قرية بني عدي بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، ووالده هو الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية.

بدأ شغفه بالعمارة منذ الصغر، لذا لم يكن مستغربا أن يلتحق فيما بعد بكلية الهندسة قسم العمارة في جامعة القاهرة التي تخرج منها عام 1950، ولتفوقه عُين معيدا بالكلية عام 1951، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1957.

انتدب مخلوف للعمل في هيئة الأمم المتحدة كخبير لتخطيط المدن، وفي عام 1959، طلبت المملكة العربية السعودية من الأمم المتحدة تزويدها بخبير لتخطيط المدن على أن يكون مسلماً، فتم تكليف المهندس المصري بهذه المهمة.

وبقي مخلوف في المملكة حتى عام 1963، وقام في تلك الفترة بإنشاء جهاز تخطيط المدن وأنجز مشروعات التخطيط العمراني لمدن: جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة وينبع وجيزان.

بعد انتهاء مهمته بالمملكة، عاد إلى مصر عام 1964، ليعمل مجددا كأستاذ بالجامعة، وأعد بحثا علميا عن مستقبل مدينتي القاهرة والجيزة كإقليم عمراني متكامل ووضع مخططاً مستقبلياً لهما، واقترح في بحثه، إنشاء الطريق الدائري حول القاهرة الكبرى.

عُين عبدالرحمن مخلوف، أستاذا لتخطيط المدن في عام 1965، واللافت خلال مشواره الأكاديمي هو تطويره في منهج مادة تخطيط المدن بأقسام العمارة في جامعات القاهرة وأسيوط والأزهر.

وفي عام 1966، انتدب للعمل مديراً عاماً لإدارة التخطيط العمراني للقاهرة الكبرى، وأنشأ الهيكل التنظيمي للجهاز التخطيطي والتنفيذي وأشرف على إعداد التخطيط التمهيدي للقاهرة الكبرى في عام 1966.

وأعد التخطيط العمراني لمنطقة شبرا الخيمة الصناعية عام 1966، والمنطقة الحرة في بورسعيد عام 1967، وأسهم في بعض مراحل إعداد تخطيط مدن جديدة في مصر مثل مدينة العبور ومدينة العريش الجديدة وغيرها.

وفي عام 1968، طلب حاكم أبوظبي، وقتها، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان من الأمم المتحدة إرسال خبير لتخطيط المدن إلى أبوظبي للمساعدة في إعداد المخطط العام لمدينة أبوظبي، فتم ترشيح مخلوف لهذه المهمة، وبالفعل عُين مديراً لتخطيط المدن في أبوظبي.

وخلال 7 سنوات، تولى مخلوف مهام تخطيط المدن فيها وإنشاء دائرة تخطيط المدن في مدينتي أبوظبي والعين، وفي مايو 1976 أسس المكتب العربي للتخطيط والعمارة ومن خلاله قام بإعداد الكثير من المشروعات العمرانية والتخطيطية في الإمارات.

بعد ذلك، تم انتدابه أستاذاً محاضراً لمادة التخطيط العمراني في كلية الهندسة بجامعة الإمارات من عام 1983 وحتى عام 1985.

وتقديرا لجهوده، قام الشيخ محمد بن زايد آل نهيان عام 2010،  بتكريم المهندس عبدالرحمن مخلوف بجائزة أبوظبي في دورتها الخامسة، كما كرمه الشيخ حميد بن راشد النعيمي عضو المجلس الأعلى حاكم عجمان على إنجازاته طوال نصف قرن..

وفي كتابه «رحلة العمر مع العمران» يتحدث الدكتور مخلوف عن بداياته في أبوظبي قائلا: “في عام 1968 طلب الشيخ زايد، طيب الله ثراه، من الأمم المتحدة إرسال خبير لتخطيط المدن للمساعدة في إعداد المخطط العام لمدينة أبوظبي، فتم ترشيحي لهذه المهمة فعينت مديرا لتخطيط المدن في أبوظبي حيث توليت مهام تخطيط المدن بها وتأسيس دائرة المدن في أبوظبي والعين”.

وذكر في كتابه أيضا اللقاء الأول مع الشيخ زايد، حيث وصل إلى أبوظبي يوم 2 نوفمبر عام 1968، وأمضى فيها شهرا لدراسة تضاريس وجغرافية المدينة، وقتها كان الشيخ زايد خارج البلاد في جنيف.

بعد ذلك التقى المهندس المصري بمؤسس الإمارات بالقرب من فندق إنتركونتيننتال حيث اعتاد أن يقوم بالمرور بعد صلاة العصر على المشاريع العمرانية التي تنفذ في ذلك الوقت.

وفي عام 1974، التقى مخلوف مع الشيخ زايد في قصر البحر عام لتسمية الطرق الرئيسية في شوارع عاصمة الإمارات، اختار الشيخ زايد الأسماء المعروفة الآن في أبوظبي، والتي تحمل دلالات، توضح أهدافه تجاه شعبه ووطنه مثل شارع السعادة وغيرها.

وأثناء، جلوسهما على الأرض، تشارك مخلوف والشيخ زايد رؤيتهما في تخطيط مدينة أبوظبي الوليدة، حيث أرادها الشيخ زايد مدينة تواكب العصر مع الالتزام بمرتكزات حضارية نابعها من تاريخها العربي والإسلامي، تعبر عن شخصية البلاد وبيئتها.

وكانت النتيجة مدينة حديثة مبنية على شكل شبكة على طراز مانهاتن في أمريكا، مع كورنيش رائع، ليرتبط اسم المعماري المصري إلى الأبد بالمدينة، التي تعتبر اليوم ضمن أفضل مدن العالم، من حيث التخطيط العمراني والشكل الحضاري، حيث تمتاز بدقة تخطيطها وانسيابية شوارعها.