عرض مركز فاروس

قدم مركز “تريندز للبحوث والاستشارات” دراسة تناولت بالشرح والتحليل احتجاجات شرق السودان وما فرضته من ضغوط سياسية واقتصادية على البلاد كانت بمثابة تهديد كبير للمسار الانتقالي للسودان، كما ناقشت العوامل التي دفعت محتجي الشرق للاحتجاج، وكذا ما قام به المحتجون من آليات لضمان فاعلية التأثير، أيضا المسارات المحتملة لأزمة الشرق بعد انتهاء مهلة تجميد الاحتجاجات.

وحاولت الدراسة الإجابة على أسباب اتجاه أنصار “ترك” نحو التصعيد في شرق السودان، كما سلطت الضوء على آليات مجلس نظارات البجا للاحتجاج، إضافة إلى المسارات المحتملة لأزمة إقليم شرق السودان ما بين التصعيد والتهدئة.

وخلصت الدراسة إلى أن مسار أزمة الشرق يرتبط بالمسار السياسي الانتقالي للبلاد الذي لا يزال يشهد العديد من الأزمات السياسية، التي تُنذر بدخول البلاد في حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، وبينت أن البلاد لن تتمكن من تجاوزها بسهولة.

على مدار فترة تجاوزت الأربعين يوماً، وتحديداً من (17 سبتمبر- 1 نوفمبر 2021)، شهد إقليم شرق السودان احتجاجات منقطعة النظير لم يعهدها الإقليم من قبل؛ سواء على مستوى التنظيم فيما يتعلق بعمليات الإغلاق الواسعة المدى للموانئ والطرق الرابطة بين الإقليم والخرطوم، أو طول مدة الاحتجاج، نظمها مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة، بزعامة محمد الأمين ترك، اعتراضاً على مسار الشرق المتضمن في اتفاق جوبا للسلام السوداني الذي وقعته الحكومة الانتقالية مع عدد من القبائل والحركات المسلحة في أكتوبر 2020، مطالباً بإلغائه.

ونظراً لطول مدة الاحتجاج، وفي ظل ما يتمتع به إقليم شرق السودان من أهمية استراتيجية بالغة للبلاد، فرضت الاحتجاجات ضغوطاً سياسية واقتصادية على البلاد هددت ولا تزال تهدد المسار الانتقالي للسودان. وكان لها صدى واسع، انعكس فيما شهدته البلاد من تطورات سياسية كشفت عن حجم الفجوة السياسية بين شركاء الحكم الانتقالي بشقيه المدني والعسكري، والتي انتهت باتخاذ رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان قرارات الـ25 أكتوبر 2021، والتي تمثلت في حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين وإعلان حالة الطوارئ، في خطوة وصفها البرهان بكونها “تصحيحاً للمسار الانتقالي”، تبعها إعلان محتجي الشرق على لسان زعيمهم “ترك” بدعمهم قرارات الـ25 أكتوبر، وتجميد الاحتجاجات وإعادة فتح الموانئ والطرقات في 1 نوفمبر 2021 ولمدة شهر واحد، حتى يتم تشكيل حكومة جديدة، وذلك تقديراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد.

وبخروج مظاهرات شعبية رافضة لقرارات البرهان ومطالبة باستعادة الحكم المدني وعودة عبدالله حمدوك لمنصبه، دعمها عدد من القوى الدولية أبرزها الولايات المتحدة، تمكنت السودان من استعادة الحكم المدني بتوقيع طرفي الأزمة، البرهان وحمدوك، اتفاقاً سياسياً في 21 نوفمبر، تضمّن التأكيد على أن الوثيقة الدستورية لسنة 2019، بتعديل 2020، هي المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية، مع مراعاة الوضعية الخاصة بشرق السودان والعمل سوياً على معالجتها في إطار يضمن الاستقرار بصورة ترضي أهل الشرق.

حاولت الدراسة الإجابة على حدود تفاعل محتجي شرق السودان بزعامة ” ترك” مع ما تشهده البلاد من تطورات سياسية، بداية بقرارات الـ25 أكتوبر، وانتهاءً باتفاق استعادة المسار الانتقالي الموقّع بين “البرهان و”حمدوك” في 21 نوفمبر؟

وهو ما تسعى الورقة للإجابة عنه عبر مناقشة العوامل التي دفعت محتجي الشرق للاحتجاج، وما وظفه المحتجون من آليات لضمان فاعلية التأثير، وما المسارات المحتملة لأزمة الشرق عقب انتهاء مهلة تجميد الاحتجاجات؟ حيث اعتبرت أن هناك عاملان يقفان وراء اتخاذ مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة تحت زعامة محمد ترك قرارا بتصعيد الاحتجاجات هما ضعف الارتباط بين المركز والأطراف ما يترتب عليه تهميش اقتصادي وسياسي يؤدي إلى معدلا سلبية في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية كالبطالة والفقر والأمية وغيرها، أما العامل الثاني فيتخلص في شرق السودان وأزمة إدارة التنوع العرقي السوداني حيث يتكون المجتمع السوداني من مزيج من السكان الأصليين لوادي النيل والمهاجرين من شبه الجزيرة العربية وباقي أنحاء القارة، ما أضفى على المجتمع سمة التعدد والتنوع العرقي واللغوي والثقافي والديني، ورغم ثراء التركيبة السكانية للمجتمع السوداني عرقياً ودينياً ولُغوياً وثقافياً؛ ما يجعل منه بيئة مناسبة وقادرة على احتواء المكونات العرقية والدينية واللغوية والثقافية المتنوعة في المجتمعين العربي والأفريقي، والاندماج معها، وبالتالي يُعد السودان صورة مصغرة من التنوع الثقافي والعرقي والديني في القارة الأفريقية، وبمنزلة نقطة انطلاق مهمة نحو دول القارة بشقيها العربي والأفريقي من قبل القوى الإقليمية والدولية، ورغم كل ما سبق فإن تنوع التركيبة السكانية والثقافية للمجتمع السوداني فتح المجال لنشوب النزاعات العرقية والدينية، التي أدخلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار وعدم الأمن.

تعقيبا على ما سبق، رأت الدراسة أن أزمة شرق السودان صورة مصغرة لأحد تداعيات عجز الحكومات السودانية المتوالية عن إدارة التنوع العرقي السوداني، أو بالأحرى إحدى تَبِعَات التوظيف السياسي للتنوع العرقي من قبل النخب الحاكمة، بشكل تسبب في تفكك النسيج المجتمعي السوداني وضعفه، وأدى إلى نشوب النزاعات العرقية، وبالتالي استبدال الولاءات القبلية الفرعية مكان الولاء للوطن الواحد، وهو ما أتاح المجال أمام تعظيم دور القوى الخارجية في الداخل السوداني عبر بوابة التداخل العرقي العابر للحدود المنعكس في مدى الانتشار الجغرافي لقبائل البجا.

كما تطرقت الدراسة إلى آليات مجلس نظارات البجا للاحتجاج، ورأت أن مجلس نظارات البجا انتهج ثلاث آليات لضمان إحداثها صدى واسع في الداخل السوداني وخارجه وتمكنت خلالها من تحويل إقليم الشرق لقوة ضغط سياسية واقتصادية تمكنت من لعب دور في رسم وتشكيل المسار السياسي للبلاد.

أولى تلك الآليات فرض مزيد من الضغوط السياسية، بدءاً بتجاوز مطالب المحتجين حد إلغاء مسار الشرق ليضم حل حكومة حمدوك وحل لجنة إزالة التمكين، مروراً بإعلان العصيان المدني في 4 أكتوبر، ثم إعلان مجلس البجا دعم البرهان فيما اتخذه من إجراءات في الـ 25 من أكتوبر، وانتهاء بإطلاق مجلس البجا تحذيراً بعودة الاحتجاجات إلى نقطة الصفر بعد تجميدها في الأول من نوفمبر، في حال عدم إلغاء مسار الشرق أو تجميد مواده دون التوصل إلى اتفاق سياسي ملزم خلال المدة الوجيزة المتبقية قبل انتهاء قرار التجميد.

ثانيها: شل حركة الاقتصاد الوطني عبر عزل الإقليم اقتصادياً عن الخرطوم؛ وهو ما انعكس في عمليات الإغلاق الواسعة المدى للموانئ والطرق الرابطة بين الإقليم والخرطوم، والتي ترتب عليها أن حولت الخرطوم إدخال شحنات البضائع من أغذية وأدوية وغيرها من المنتجات إلى المنافذ البرية في ظل ما تتمتع به من ميزة نسبية في تكلفة الشحن والمدة الزمنية لوصول الشاحنات، وقد سجل على أثرها معبر أشكيت الحدودي بين مصر والسودان زيادة في حركة الواردات بشكل يومي تراوحت ما بين 55-85 شاحنة يومياً، بعدما كانت تسجل ما بين 30 – 40 شاحنة في اليوم، حتى أكتوبر 2021 .

أما بالنسبة لثالث تلك الآليات فيتمثل في محاولة الانقلاب الفاشلة في 21 سبتمبر، والتي تُشير أصابع الاتهام فيها إلى مشاركة أنصار “ترك” في تنفيذها، على ضوء ما أفرزته أزمة شرق السودان من تداعيات سلبية على البلاد تم النظر إليها – في ظل قصر المدة الزمنية بين اندلاعها وتنفيذ محاولة الانقلاب – كخطوة تمهيدية ونقطة انطلاق لمحاولة الانقلاب العسكري، وهو ما لمح إليه رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك في بيانه تعليقاً على محاولة الانقلاب.

الدراسة التي قدمها مركز تريندز استعرضت أيضا المسارات المحتملة لأزمة إقليم شرق السودان.. ما بين التصعيد والتهدئة، والتي تلخصت في عودة الاحتجاجات إلى نقطة الصفر حيث ترى الدراسة أن الظرف السياسي الممثل في ضغط الشارع والمجتمع الدولي لاستعادة المسار الانتقالي هو من فرض على “ترك” وأنصاره القبول على مضض بعودة حمدوك إلى منصبه بعد حالة التوتر والتجاذبات السياسية، لكن نتيجة ضغط الوقت والانشغال بترسيخ أسس المرحلة الانتقالية وتهدئة الشارع السوداني، قد تتأخر الحكومة في اتخاذ خطوات تمهيدية تبدي حرص الحكومة على خلق منبر تفاوضي مع محتجي الشرق بهدف التوصل لاتفاق سياسي وهو ما قد يدفع إلى العودة لنقطة الصفر

ثاني المسارات مد التجميد المؤقت للاحتجاجات، فانطلاقاً مما حققه محتجو الشرق من مكسب سياسي مهم يتمثل فيما تم النص عليه في الاتفاق السياسي الموقع بين حمدوك والبرهان، بضرورة مراعاة الوضعية الخاصة بشرق السودان والعمل سوياً على معالجتها في إطار يضمن الاستقرار بصورة ترضي أهل الشرق، وتعديل الوثيقة الدستورية بالتوافق بما يحقق ويضمن مشاركة سياسية شاملة لكافة مكونات المجتمع، عدا حزب المؤتمر الوطني السابق، وفي ظل ما يشهده الشارع السوداني من انقسام وعدم استقرار، هناك احتمال (هو الأرجح) وهو لجوء “ترك” إلى تمديد فترة تجميد الاحتجاجات لمدة محددة لا تتجاوز شهراً، مراعاة للوضع السياسي المضطرب الذي تشهده البلاد.

من ضمن المسارات أيضا إنهاء أزمة محتجي الشرق، حيث تشير مجريات الأوضاع في السودان إلى صعوبة إنهاء الأزمة في المديين القصير والمتوسط؛ حيث إن حل أزمة محتجي الشرق تتطلب إما إلغاء مسار الشرق وهو ما سيُثير الغضب لدى باقي قبائل البجا الداعمة للمسار، ولاسيما قبيلة بني عامر الممثل الفعلي للإقليم في اتفاق جوبا، أو تجميده وهو ما سيتسبب كذلك في إثارة غضب داعميه، أو تعديله وفقاً لإملاءات أنصار ترك، وهو ما سيُثير غضب باقي قبائل البجا كذلك؛ نظراً لغياب التوافق السياسي بين قبائل إقليم الشرق حول المسار، ومن ثم فليس هناك من سبيل لإنهاء الأزمة سوى تنظيم مؤتمر يضم قبائل إقليم الشرق كافة للتشاور حول آليات الخروج من الأزمة، تقبل خلاله أنصار ترك بقبيلة بنى عامر كشريك رئيسي في الإقليم، مقابل قبول قبيلة بني عامر بإعادة النظر في مسار الشرق.

خلصت الدراسة إلى أن مسار أزمة الشرق يرتبط بالمسار السياسي الانتقالي للبلاد الذي لا يزال يشهد العديد من الأزمات السياسية، التي تُنذر بدخول البلاد في حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، لن تتمكن البلاد من تجاوزها بسهولة. ففي ظل ترقب محتجي الشرق لما سيقدمه الاتفاق السياسي الموقع بين البرهان وحمدوك من مكاسب للإقليم، ينشغل شركاء الحكم الانتقالي بترسيخ مرتكزات المسار الانتقالي، وإعادة ترتيب البيت السياسي السوداني، وهو ما يتطلب اتخاذ شركاء الحكم الانتقالي خطوات تمهيدية لبدء مسار التفاوض مع محتجي الشرق، بما يُشير إلى رغبة الحكومة في التوصل إلى تسوية مرضية للأزمة بشكل نهائي.

للاطلاع على الدراسة الأصلية اضغط هنا