بقلم – د. أماني الطويل

مدير البرنامج الأفريقي بمعهد الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 يجسد المشهد السياسي السوداني حاليا أحد تجليات العلاقات المدنية العسكرية الممتدة في منطقتنا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وهي العلاقات التي تتسم بالتركيب والتعقيد، وتؤثر فيها معطيات متعددة منها ما هو محلي داخلي ومنها ما هو دولي، حيث يشكل التفاعل بين المعطيات المتقاطعة غالبا حول أمرين الحفاظ على مؤسسة دولة غالبا ما تتسم بالهشاشة، إما لموقعها الجيوبولوتيكي الحاكم لمصالح دولية تدور فيها وحولها، أو للصراعات الداخلية الممتدة حول المصالح والنفوذ، أو كليهما معا.

ويبدو لنا أن المشهد السوداني يعد تجليا واقعيا لأحد أزمات العلاقات المدنية العسكرية في العالم الثالث، وهي إلى جانب تشاركها في السمات العامة مع أزمة هذه العلاقات المعقدة، ولكنها أيضا تتسم بالتفرد المرتبط بالخبرات التاريخية في المشهد السياسي السوداني المعاصر لدي كل من المكونين المدني والعسكري السودانيين، وهي الحالة المنتجة ربما لعلاقة قد تكون في بعض ملامحها ثأرية يتمترس فيها الأطراف ضد بعضهما البعض .

 وبطبيعة الحال ينتج التضاغط الراهن بين أطراف المعادلة السياسية السودانية حالة من الأزمات المتعددة الأبعاد على المستويات السياسية والاقتصادية باتت تتسم بالامتداد دون أفق لحل، وأصبحت تشكل خطرا منذرا ومهددا لكيان مؤسسة الدولة الهشة أصلا.

في هذا السياق يظهر أن السبب الرئيس لحالة الصراع على السلطة في السودان هو قرب موعد تسلم المدنيين لرئاسة المجلس السيادي السوداني الذي يملك صلاحيات رئيس الجمهورية، وذلك وفقا للوثيقة الدستورية الموقعة بين أطراف المعادلة السياسية السودانية في أغسطس ٢٠١٩ كمحدد للعلاقة بين المكونات المدنية السياسية السودانية، والمجلس العسكري السوداني، الذي تولي المهام الإجرائية لخلع الرئيس السابق عمر البشير كنتيجة مباشرة لثورة السودانيين ضده في ديسمبر ٢٠١٨.

وطبقا لمفردات هذا المشهد تتعرض هذه الدراسة للمحاور الآتية:-

أولا: معطيات أزمة الصراع على السلطة

ثانيا: العامل الاقتصادي ودور أزمة شرق السودان

ثالثا: العامل الدولي ودوره في الأزمة

 أولا: معطيات أزمة الصراع على السلطة:

ساهمت التفاعلات المرتبطة بإزاحة عمر البشير بعد حوالي أربعة أشهر من اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر ٢٠١٨ في تكوين المشهد السياسي السوداني الراهن من حيث أوزان الفواعل فيه وطبيعة صراعاتهم، ويمكن ترتيب هذه التفاعلات كالتالي:-

١- انحياز المكونات العسكرية للثورة:

على مدي أربعة شهور هي عمر الفوران الشعبي السوداني ومواكبه في الشوارع لم يتم حسم الموقف بشأن إزاحة البشير إلا حينما تحركت الجماهير معتصمة عند مقر القيادة العامة للجيش السوداني في بداية أبريل ٢٠١٩، حيث تمت محاولة فض الاعتصام بالاعتداء على المعتصمين من جانب عناصر لم يتم تحديدها حتي الآن ولكن ذلك لم يسفر عن تراجع الجماهير السودانية، وعلى ذلك تم اتخاذ قرار إزاحة البشير من جانب قادة جيشه المنتمين إلى المرجعية السياسية لنظامه أي الجبهة القومية الإسلامية، وهو الأمر الذي يفسر أمرين أن الفريق عبد الفتاح البرهان لم يكن الاسم الأول المرشح لتولي زمام الأمور، ولكنه جاء بعد انقلابات قصر في المؤسسة العسكرية، حتي ظهر اسم قبلت به الناس والتنظيمات السياسية.

وطبقا لذلك أصبحت المؤسسة العسكرية الرسمية لاعبا في المعادلة السياسية حتي الوقت الراهن، حيث، إلى جانب قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو حميدتي الذي غير ولاءه السياسي من نظام البشير لحماية الثورة، وذلك تحت مظلة من صراع مع الأجهزة الأمنية التي كان يقودها عبدالله جوش مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وكذلك بدعم إقليمي ممثلا في دولة الإمارات التي يملك معها حميدتي علاقات متميزة ومرتبطة بدور قوات الدعم السريع التي يتزعمها في الحرب باليمين لصالح دول الخليج ضد الحوثيين.

وطبقا لهذه الأدوار للمؤسستين حاز المكون العسكري على وزن ودور سياسي في كل التفاعلات اللاحقة، حيث تمت بلورة اتفاق سياسي مبدئي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في أعقاب إزاحة البشير على تكوين مجلس سيادي مشترك يملك صلاحيات رئيس الجمهورية ويقود فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات يعقد بعدها انتخابات عامة، ولكن دارت معركة على من يقود حسم هذا المجلس خلال شهري أبريل ومايو حيث أصر العسكريون على تتولي دفة القيادة، ورفض المدنيون ذلك وأعلنوا انتهاء التفاوض يوم ١٩ مايو ٢٠١٩، حيث تم اللجوء للشارع لحسم الصراع، وبالفعل تدافعت المواكب الثورية مرة ثانية نحو مقر القيادة العام للجيش للضغط عليه، ولكن تم فض هذا الاعتصام في ٣ يونيو ٢٠١٩ بطرق وحشية أدانها المجتمع الدولي، وتسببت في وقوع ضحايا، وحالات اغتصاب[1].

هذا التطور ما زال محل تحقيق لم تحسم نتائجه، ويشكل أحد عناصر الأزمة السياسية الراهنة بين الأطراف حيث يدين الشارع السياسي السوداني المكون العسكري ويحمله مسئولية هذه المجزرة.

هذه الأزمة امتدت لعدة شهور حتى تم حسم العلاقة في إطار وثيقة دستورية تم التوقيع عليها في أغسطس ٢٠١٩ أعطت للمدنيين حق رئاسة المجلس السيادي ولكن بعد عامين من تولي المكون العسكري هذه القيادة.

٢- عدم الالتزام بالوثيقة الدستورية:

على الرغم من توقيع الأطراف على وثيقة دستورية تشكل محددات العلاقة بينهما، وكان من المفترض أن تكون أهم أسلحة المكون المدني، إلا أن هذه الوثيقة اتسمت بالهشاشة متأثرة بعاملين الأول ضغوط قوي الهامش والحركات المسلحة أن تكون الاتفاقات السياسية معهم لتحقيق السلام تعلو على الوثيقة الدستورية، وبالتالي تم تجاوز فترة الثلاث سنوات لتمتد إلى أربعة، وتم توسيع المجلس السياسي، وتشكيل مجالس جديدة كشركاء الفترة الانتقالية لتستوعب النخب السياسية من الهامش المتصالحة مع المركز.

أما العامل الثاني الذي ساهم في بلورة هشاشة الوثيقة الدستورية هي عدم الوفاء بمتطلباتها، خصوصا فيما يتعلق باستكمال هياكل الفترة الانتقالية من مجلس تشريعي، ومحكمة دستورية… إلخ، وبالتالي لم تعد الوثيقة الدستورية محددا صلبا يتم الاحتكام إليه من الأطراف، وهذا فيما يبدو لي قد يكون مخططا.

٣- انقسام النواة الصلبة للمكون المدني

طبقا للمقابلات التي أجريتها في الخرطوم في ديسمبر ٢٠٢٠ مع عدد من الفواعل السياسية السودانية يمكن القول أن اتحاد المهنيين السودانيين قد قاد عملية المعارضة لنظام البشير عبر النقابات المهنية منذ عام ٢٠١١، وقد كانت بروفة الثورة السودانية بين الطرفين في سبتمبر ٢٠١٣ حينما اندلع الغضب ضد النظام السوداني، ولكنه استطاع تطويق المظاهرات بتدخل وحشي من جانب الأجهزة الأمنية، حيث وقع ما يزيد عن مائتي  شخص كضحايا.

ورغم هذه الهزيمة واصل تجمع المهنيين نضاله السياسي، ولكن على أسس مطلبية خاصة بالأجور، ولكن هذه الأسس قد تطورت عام ٢٠١٩ بتدخل من قوي الإجماع الوطني (أحد تحالفات المعارضة ضد البشير) [2].

وقد قاد تجمع المهنيين الثورة السودانية، ضمن إطار واسع تكون في ١يناير ٢٠٢٠ تم تسميته بتحالف الحرية والتغيير وهو التحالف الذي قاد الثورة وضم كل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية، ومنظمات المجتمع المدني وكانت نواته الصلبة هو تجمع المهنيين.

على مدى عامين من عمر الفترة الانتقالية تعرض تحالف الحرية والتغيير وتجمع المهنيين لعوامل التآكل الانقسام، وذلك لعدد من الأسباب منها:

  • دور المكون العسكري في صناعة اتفاقية جوبا للسلام في ٢٠٢٠، وما ترتب على ذلك من زيادة وزنه خصوصا في إطار علاقاته مع الحركات المسلحة، وهو ما ترتب عليه انحياز كل من حاكم دارفور مني أركو مناوي ووزير المالية إلى المكون العسكري في قيادة باقي المرحلة الانتقالية وإعلانهما الانسلاخ من تحالف الحرية والتغيير تم تسميته ”بالإصلاح“ وذلك في نهايات سبتمبر٢٠٢١ .
  •  انسلاخ الحزب الشيوعي من تحالف الحرية والتغيير، على خلفية صيغة المجلس السيادي المشتركة بين المكونين المدني والعسكري معتبرين ذلك خطأ استراتيجي مؤسس على ما أسموه شراكة الدم. وقد ساهم هذا الانسحاب في انقسام تجمع المهنيين، على خلفية انتخابات داخلية لم تفرز إلا عناصر الحزب الشيوعي، وهو ما رفضته باقي المكونات.
  • اتجاهات بعض مكونات الحرية والتغيير من أحزاب لها طابع قومي لإسناد المكون العسكري في التفاعلات السياسية، والمساهمة في رفع وزنه إزاء الأحزاب السياسية الأخرى، وهو ما نتج عنه ترهل في الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة التنفيذية بقيادة حمدوك، وهو ما جعل الأخير يتبنى مبادرة تسعى لوحدة الحرية والتغيير حفاظا على وزنه السياسي في المعادلة.

ثانيا: العامل الاقتصادي ودوره في إضعاف المكون المدني:

ساهمت عوامل الصراع السياسي مجتمعة في حالة شلل وسيولة سياسية ، نتج عنها تداعيات على حياة الناس اليومية، فمستوي سعر الدولار لم ينخفض، وإن كان قد حافظ على استقرار نسبي، وذلك على الرغم من الإعلان عن إعفاء السودان من ديونه، وتدفق للمساعدات الاقتصادية خصوصا الأمريكية منها، كما أن قدرات الدولة في القيام بوظائفها الأساسية شبه مشلولة، وهو الأمر الذي جعل قدراتها في مواجهة وباء كوفيد١٩ محدودة للغاية، كما أن انقطاع الكهرباء اليومي يكون لفترات طويلة، وذلك كله بالتوازي مع انفجار حالة طبيعية من المطالب الشعبية المعروفة بعد الثورات الكبيرة في حياة الشعوب، وذلك لدرجة أن مناطق التنقيب وإنتاج البترول في السودان تعيش تحت مظلة توترات كبيرة بسبب مطالبات المجتمعات المحلية بنصيب من ثروات مناطقهم ولجوئهم في ذلك إلى أساليب خشنة ضد الحكومة .

 هذه الأوضاع جعلت قطاعات واسعة من السودانيين يتخذون قرارات بالمغادرة إلى القاهرة وعواصم إقليمية وعالمية أخري، ولو لفترات مؤقتة، خصوصا من الشرائح الاجتماعية الوسطى من العائلات الذين لديهم أطفالا في سن المدارس والشباب المطلوب انخراطهم بالجامعات بعد أن ضاع على هؤلاء جميعا عامان، بسبب وباء كورونا وسيولة الحالة السياسية المقلقة.

ويمكن القول أن النتائج النهائية لذلك كان إضعاف الموقف السياسي للحكومة المدنية إزاء جماهيرها، وهو ما جعل رئيس الوزراء يلق بالكرة في ملعب المكون العسكري بالقول أن المؤسسات الاقتصادية تحت سيطرتهم، وأنه لا يملك موارد كافية داخل موازنة الدولة .

وقد ضاعف من حدة الأزمة حاليا أزمة شرق السودان، وهو المشهد الذي تصاعد فيه التوتر إلى حد قيام مكونات سياسية وقبلية بغلق الميناء الرئيسي للسودان “بور تسودان“ إلى جانب ميناءي سواكن المرتبط بالحركة البشرية والتجارية من وإلى المملكة السعودية وباقي دول الخليج، وكذلك ميناء بشاير الذي يصدر بترول جنوب السودان إلى أنحاء العالم خصوصا الصين.

وقد جاءت التحركات الاحتجاجية تنفيذا لدعوة “المجلس الأعلى لنظارات قبيلة البجا والعموديات المستقلة وذلك “بإغلاق أكثر من خمس نقاط، وهي الشوارع المؤدية من إقليم شرق السودان إلى باقي أنحاء البلاد وخصوصا العاصمة الخرطوم حيث شمل الإغلاق ثلاث نقاط في ولاية البحر الأحمر، منها محطة “العقبة” المؤدية لموانئ البلاد في بورتسودان وسواكن على البحر الأحمر، ومحطة أوسيف على الطريق مع مصر، كما شمل الإغلاق منطقتين في ولاية كسلا وثلاث مناطق في ولاية القضارف.

ولعل الإشكالية الرئيسية في هذا التطور السلبي أن ميناء بورتسودان، مسئول عن ٧٠٪ من الإمدادات للدولة وإغلاقه يؤثر على اقتصاداتها العامة وقدرتها على تلبية الاحتياجات الأكثر حساسية للمواطنين مثل الأغذية والأدوية .

فعلى الصعيد الاقتصادي تعتمد السودان على الوقود المستورد عبر خط الأنابيب وعبر شاحنات الصهاريج، اللذان يوفران الاحتياجات للديزل بنسبة 60% و40% للبنزين بخلاف غاز الطهي. وكذلك يسفر إغلاق خطي أنابيب البترول عن شح إمدادات الوقود للسودانيين بنسبة 50% وسيؤثر على مصفاة الخرطوم التي تكرر نصف حاجة السودان من النفط، وهو ما قد يفاقم من وطأة شح الوقود، كما تعتمد مصفاة الخرطوم على عشرة آلاف برميل يوميا من جنوب السودان مجانا التي تمنح للسودان جراء برنامج “الترتيبات المالية لانفصال الجنوب عن السودان“، وذلك فضلا عن عوائد معالجة ونفط الخام التي تصل إلى ٩ دولارات عن كل برميل .

أما محطة كوستي الحرارية التي تنتج 500 ميجاوات كهرباء فسوف تتوقف لأنها تعتمد على خط تصدير نفط جنوب السودان على 18 ألف برميل يوميا من خام نفط.

ثالثا: العامل الدولي وأثره على الأوزان السياسية:

يلعب الموقع الجيوبولوتيكي للسودان دورا أساسيا في أن يكون منصة للصراع بين القوى الدولية، خصوصا بعد الإعلان عن المشروع المسمى الحزام والطريق، الذي يعد البحر الأحمر والدول المشاطئة له مسرحا رابعا وبحريا له، وبطبيعة الحال يثير هذا المشروع حفيظة دولية مكونها الأساسي أمريكي، خصوصا في ضوء الوجود والنفوذ الكبير للصين في أفريقيا خلال العقدين الأخيرين، وهي المكانة التي انطلقت من السودان، بعد إعلان العقوبات الدولية عليه.

في هذا السياق هناك اهتمام أمريكي بالسودان على أسس استراتيجية مرتبطة بالصراع على الهيمنة والنفوذ حول العالم، ومرتبطة أيضا بالمصالح الاقتصادية، نظرا لطبيعة الموارد الطبيعية السودانية من حيث الضخامة والأهمية، خصوصا الصمغ العربي.

وعلى صعيد مواز يملك السودان أيضا أهمية سياسية للإدارة الأمريكية الحالية التي تولي أهمية كبيرة لمسألة دعم التحول الديمقراطي حول العالم، ومحاولة إسناد ودعم عوامل الحكم الرشيد.

هذه الأهمية الاستراتيجية للسودان دفعت الكونجرس الأمريكي إلى تمرير قانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان، مع نهاية٢٠٢٠ وذلك بدعم واضح من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث يلزم الكونجرس الخارجية الأمريكية بتفصيل سياستها وإجراءاتها لتحقيق التقدم المطلوب في مجالات دعم كل من حقوق الإنسان والشفافية خصوصا على الصعيد الاقتصادي، كما يلزم هذا القانون الرئيس الأمريكي بتقديم تقريرا فصليا عن مدي تقدم إدارته في هذه العملية، فضلا عن مجمل سياسات وإجراءات الدعم للفترة الانتقالية، والتحول الديمقراطي السوداني. وربما يكون غني عن البيان كيف يلعب هذا القانون دورا كبيرا في الضغط على المكون العسكري السوداني، حيث اضطر بالفعل للتخلي عن بعض مؤسساته الاقتصادية التي يديرها خصوصا مع إعلان رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك أن ٨٠٪ من المؤسسات الاقتصادية السودانية، يدريها المكون العسكري.

وقد كثفت واشنطن والمجتمع الدولي من تدخلها المعلن في التفاعلات السودانية خصوصا بعد أن تم الإعلان عن محاولة انقلابية فاشلة، حيث انعقدت جلسة خاصة في الأمم المتحدة لدعم التحول الديمقراطي في السودان، خاطبها الأمين العام للمنظمة الدولية .

المجهود الأممي في دعم التحول الديمقراطي في السودان هو قمة جبل الثلج من دعم دولي واسع للحكومة السودانية، في أعقاب الإعلان عن المحاولة الانقلابية الفاشلة في ٢١ سبتمبر الماضي. حيث تحركت ببيان صدر عن الخارجية الأمريكية يدين المحاولة الانقلابية، وكان من اللافت في هذا البيان التحذير من التضليل الإعلامي الداخلي، وبدت العصا الأمريكية واضحة حين تم الحديث عن أن الولايات المتحدة توجه مساعدات كبيرة حتي يتمكن السودان من تحقيق أهدافه… وستعمل على تعزيز هذا الدعم مع إحراز السودان للتقدم المستمر في عملية الانتقال الديمقراطي.

في هذا السياق زار الخرطوم في توقيت واحد كل من جيفري فيلتمان مبعوث الولايات المتحدة إلى القرن الأفريقي، وفلوكر بيرتس رئيس بعثة الأمم المتحدة بالسودان ”يونيتامس‘‘.

ويمكن قراءة تصريحات فيلتمان بالخرطوم بأنها إشارات مبطنة إلى إمكانية تخلي الولايات المتحدة عن السودان في أهم قضايا السودان الحرجة، وهي العودة إلى المنظومة الدولية، والاستقرار الداخلي المترتب على مسارات اتفاقات السلام، وكذلك الملف الاقتصادي، حيث دعي فيلتمان شركاء الانتقال إلى التعاون من أجل “سلاسة الانتقال‘‘ ولبقاء السودان ضمن موقعه في المنظومة الدولية والتي وصل إليها بعد عمل مضن، وقال نصا: ”إن المحاولات الانقلابية تهدف إلى وقف التطور الذي يشهده السودان، وإعادة عقارب الساعة للوراء من حيث تطبيع العلاقات مع أمريكا، ودورها في المؤسسات المالية والدولية.

وفيما يخص الأمم المتحدة فإنها قد عرضت من خلال بعثتها في السودان “يونيتامس“

إلى الاستعداد لبلورة حوار بين شركاء الفترة الانتقالية بهدف وقف التصعيد السياسي والملاسنات الكلامية بين الأطراف. وربما تجيء اجتماعات رئيس البعثة الأممية مع كل من عضوي مجلس السيادة محمد الفكي سليمان، ومحمد حسن التعايشي مهمة في هذا الإطار، خصوصا وأن الفكي هو بطل الملاسنات مع قادة المنظومة العسكرية السودانية من دار لجنة إزالة التمكين والذين بادلوه تراشقا بتراشق .

باريس حضرت في المشهد السوداني بزيارة المبعوث الفرنسي للسودان وجنوب السودان جان ميشيل دوموند الذي اجتمع مع رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، مؤكدا على دعم باريس لحكومة الانتقال وقد فصل المبعوث الفرنسي الملفات الأساسية المطلوب إصلاحها إلى جانب حل الخلافات بين المكونين المدني والعسكري، وتمثلت في إصلاح الأوضاع الاقتصادية والمرتبطة ”بتحسين أوضاع مواطني البلاد” حيث كان من اللافت هو الحديث الفرنسي على ضرورة الالتزام بالجداول الزمنية المهمة التي تشمل الإعداد للدستور، وإصلاح القطاع الأمني، فضلا عن ملفي السلام والإحصاء السكاني، حيث سوف يساهم الأخير في بلورة خرائط التمثيل السياسي وتوزيع الثروة والسلطة بالسودان.

وطبقا لهذه التفاعلات فمن المتوقع أن يساهم المتغير الدولي في المشهد السوداني حيث يمكن أن يعاد ترتيب المعادلات السياسية للأطراف الفاعلة ويؤثر ذلك على أوزانها وقدراتها خلال الفترة المقبلة.

إجمالا يتجه المشهد السياسي السوداني نحو تصاعد للتوتر تحت مظلة إصرار المكونين المدني والعسكري على موقفيهما حيث يصر المكون العسكري على عدم تسليم رئاسة المجلس السيادي في نوفمبر القادم، بينما يطالب المكون المدني بالاحتكام للوثيقة الدستورية الهشة التي تم اختراقها أكثر من مرة على مدي العامين الماضيين.

وفي تقديرنا لن يكون المجتمع الدولي قادرا على حسم هذا الصراع على الرغم من دعمه للمكون المدني أكثر من مرة، ذلك أن المكون العسكري يمارس أدوارا في رفع الطلب على عنصر الأمن وهي مسألة حساسة على الصعيدين الداخلي والخارجي، فمن ناحية هناك إمكانية منظورة لانقلاب عسكري واقعي يسيطر على السلطة في السودان، ومن ناحية أخري يتم حاليا الإعلان عن اكتشاف خلايا داعشية، وهو ما يجعل النطاق الدولي مقرا بأهمية المكون العسكري في حفظ مؤسسة الدولة السودانية، نظرا لحساسية موقعها الجيوسياسي، وتأثيرها على تموضع التنظيمات الجهادية في شرق وغرب أفريقيا، وهي التنظيمات التي تصاعدت قدراتها في أفريقيا خلال الفترة الأخيرة طبقا لتقارير وتقديرات الأمم المتحدة.

وقد يكون المخرج لهذه الأزمة ما طرحه محمد حمدان دقلو بالاحتفاظ بتبعية المؤسسات الأمنية والعسكرية للمكون العسكري، [3]وهو مخرج قد يكون فاعلا شكليا، ولكنه فعليا يحرم المكون المدني من السيطرة على القوة الصلبة في الدولة، فلا يكون أمامه من خيارات إلا المحافظة على ضعفه، وإنتاج المزيد من الانقسامات.

هذه المعادلة المتشائمة قد ينقذها حراك جماهيري قوي في المرحلة المقبلة قد يكون ممكنا رغم إنهاك الناس، وتضاءل أحلامهم في دولة الحرية والسلام والعدالة وهي الشعارات التي رفعتها الثورة السودانية، وما زالت تقاتل من أجلها.


  • قيادة المجلس السيادي وتركيبته سبب الصراع متاح على:
  • https://www.bbc.com/arabic/middleeast-48353791[1]

– جمال إدريس، رئيس الحزب الوحدوي الناصري السوداني الخرطوم في ٣٠ ديسمبر ٢٠١٩[2]

[3] تصريحات حميدتي متاحة على:

  • https://www.youtube.com/watch?v=OO-QCrYKPKg