مركز فاروس

تناولت رسالة ماجستير للباحثة/ نداء السيد حسن محمد، التي تمت مناقشتها مطلع العام الجاري 2021 في كلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة الوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي منذ عام2012: دراسة في الأسباب والآثار، حيث يرجع هذا الوجود في القارة الأفريقية إلى العهد الاستعماري، حيث كانت فرنسا تسيطر على مناطق عديدة في القارة.

وبعد استقلال دول هذه المناطق بقيت مرتبطة ارتباطًا سياسيًّا وأيديولوجيًّا وثقافيًّا بالدولة الفرنسية، وهذا من خلال الاتفاقيات السياسية والأمنية والثقافية، ما سمح لها بالتدخل في الشئون الداخلية إلى حدٍّ يصل إلى رسم القرار وصنعه بما يتوافق مع توجه الدولة الفرنسية وسياستها، وذلك من خلال مجموعة من الآليات التي تنفذ بها سياستها الأمنية في القارة، والتي تطورت تطورًا كبيرًا بعد الحرب الباردة.

ووراء الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا أهداف غير معلنة تتعلق بالرغبة الفرنسية في ترسيم حدود مناطق نفوذها في مستعمراتها السابقة في أفريقيا، هذه الأهداف لها علاقة بمحاربة الإرهاب وما تعتبره فرنسا تهديدات أمنية.

كما أن إنشاء العديد من القواعد العسكرية جاء لتدعيم الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية، بهدف حماية المصالح الاقتصادية الفرنسية في شمال القارة وغربها، كما أن له دوافع سياسية تتمثل أساسًا في التأثير على الصراعات الدائرة في المنطقة، وخاصة الصراع الليبي والجزائري ولمواجهة النفوذ الأمريكي المتزايد في إقليم الساحل الأفريقي والتي عرفت تاريخيًّا بأنها الفناء الخلفي لفرنسا.

إشكالية الدراسة:

تسعى هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على أسباب الوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي بالإضافة إلى الآثار المترتبة على هذا الوجود في كلٍّ من الدول المضيفة والدول المجاورة  منذ 2012، وهو العام الذي بدأ فيه التدخل العسكري الفرنسي في مالي، ثم القيام بعملية سرفال ثم بعد ذلك عملية برخان، أخيرًا إنشاء قاعدة “مداما” على الحدود الجنوبية لليبيا، ذلك للسيطرة على البؤر والجماعات الجهادية التي تهدد دول الجوار الليبي، وبالتالي انتشار الطوارق في منطقة الساحل الأفريقي والذي يؤثر بالسلب على أمن كل من ليبيا والجزائر، حيث أصبحت ليبيا ملجأ وملاذًا آمنًا للجماعات الجهادية خاصةً تلك التي خرجت من شمال مالي بعد عملية “سرفال” الفرنسية يناير 2013، كما تعد أزمة الطوارق من أقدم وأعقد التحديات التي تواجه الأمن القومي الجزائري بل ويعتبر حضورها ضمن الشواغل الأمنية الجزائرية منذ زمن قديم مقارنة بمشكلات وتهديدات دوائر استراتيجية أخرى، وتفضيل الجزائر لدبلوماسية الفعل (Action Diplomacy) على دبلوماسية التصريحات، وهي تتحرك دائمًا وفق هذا الإطار العام في حالات الاستقرار أو حالة التأزم في العلاقات مع الجوار، كما ترى الجزائر في جميع المشاكل المطروحة في أفريقيا أنّ التحرك الجماعي “ضمن المجموعة الأفريقية” هو الحل الأكثر كفاءة والأقوى فاعلية.

وفي هذا السياق ظهر جدل أكاديمي في كافة الأروقة البحثية، وهذا الجدل انتهى إلى تواجد رأيين ولكل رأي أنصاره الذين يؤيدونه وفقًا لعدد من الحجج؛ حيث نجد أن:

الرأي الأول: يرى أن الوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي يؤثر بالسلب على أمن الدول المضيفة والمجاورة  وخاصة الأمن الليبي والجزائري حيث يأخذ هذا الرأي بوجود علاقة ارتباطية بين المتغيرين ويستند أنصار هذا الرأي إلى مجموعة من الحجج منها التدخل العسكري الفرنسي في مالي وما أحدثه من انتشار البؤر والجماعات الجهادية والإرهابية وجماعات الطوارق في الشمال الأفريقي إلى جانب وجود القواعد العسكرية الفرنسية في النيجر والعمليات العسكرية في تشاد وبوركينا فاسو إلى آخره بالإضافة إلى غياب مفهوم الدولة وحالة الهشاشة والانكشاف الأمني والاقتصادي وخصوصا الاجتماعي الذي غالبًا ما ينتج عنه أزمة هوية والتي ينتج عنها تفكك المجتمع والدولة مما يؤدي إلى ظهور الدولة الفاشلة أمنيًّا ومجتمعيًّا.

الرأي الثاني: يرى أن الوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي يؤثر إيجابًا على الدول المضيفة والمجاورة لهذا الإقليم، حيث يستند أنصار هذا الرأي إلى أن  فرنسا لديها غايات استراتيجية عديدة في كل من الدول المضيفة والدول المجاورة منها مباشرة الاستثمارات الكبيرة في مجالي النفط واستخراج المعادن، بالإضافة إلى تعزيز المصالح المشتركة، وهذا بدوره يخلق استقرارًا أمنيًّا في الشئون الداخلية لتلك الدول خاصة في ظل التنافس بين الدول على انتزاع الزعامة في هذه المنطقة والدليل على ذلك في ظل التهديدات المتواجدة في مالي الخاصة بمشكلة الطوارق أدى إلى ضرورة تواجد مبرر قوي  من الجانب الفرنسي في التدخل لحل الأزمة وبالتالي هذا أدى إلى استقرار الأوضاع الداخلية في مالي والذي بدوره انعكس على الأوضاع الداخلية في الإقليم عمومًا وفي دول الجوار بشكل خاص.

اعتمدت هذه الدراسة على منهج المصلحة الوطنية والذي يدور حول أن السعي نحو تحقيق المصلحة القومية للدولة هو الهدف النهائي والمستمر لسياستها الخارجية بمعنى أن المصلحة القومية هي محور الارتكاز أو القوة الرئيسية المحركة للسياسة الخارجية لأي دولة من الدول.

وعلى ضوء ما سبق فإن السؤال الرئيسي الذي تتمحور حوله الدراسة: ما هي الأسباب والآثار الناتجة عن الوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي سواء للدول المضيفة للوجود أو للدول المجاورة منذ 2012؟

تقسيم الدراسة:

وللإجابة عن هذا التساؤل البحثي قامت الباحثة بتقسيم الدراسة إلى ثلاث فصول تناول الفصل الأول: الامتداد المكاني ومصادر التهديد لإقليم الساحل الأفريقي، ومن ثم فقد خلصت الدراسة في هذا الفصل إلى انطلاقًا من كون إقليم الساحل يشكل عمقًا استراتيجيًّا ومجالًا حيويًّا للأمن القومي للدول فإن هذه الأزمات الأمنية المهددة للإقليم تلقي بظلالها على المشهد الأمني بالمنطقة، مما يلزم بإعادة النظر في مبادئ ومفاهيم الرؤية الأمنية الجماعية، والعقيدة الأمنية المشتركة، والتعاون والاعتماد المتبادل أمنيا مع جميع المتدخلين والفاعلين محليٍّا وإقليميًّا ودوليًّا. والتعاطي معها سواء على مستوى الدبلوماسية الثنائية أو المتعددة الأطراف إقليميًّا أو دوليًّا.

بينما تناول الفصل الثاني: أسباب وأنماط الوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي ومن ثم فقد خلصت الدراسة في هذا الفصل إلى أن فرنسا حريصة استراتيجيًا على التواجد في مناطق الأزمات والصراعات في أفريقيا وخصوصًا في الدول الفرانكفونية طالما أن ذلك سيعزز من بقائها واستمرار وجودها في أفريقيا، أنها على استعداد للقيام بمهام عسكرية كبيرة على غرار ما قامت به في مالي، حيث إن الوجود الفرنسي في مالي حقّق على الأقل بعض أهدافه المعلنة، أولها: وقف تقدم المجموعات الإسلامية المتطرفة نحو جنوب البلاد، والحيلولة دون تهديد العاصمة بماكو، وتدمير ما كانت تملكه من أسلحة متطورة، وثانيها: تحرير معظم المدن الرئيسة في الشمال ممّا دفع هذه المجموعات للاحتماء بالمناطق الجبلية الوعرة في الشمال الشرقي لمالي على الحدود الجزائرية.

وقد تناول الفصل الثالث: آثار الوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي ومن ثم فقد خلصت الدراسة في هذا الفصل إلى أن التدخل الفرنسي في مالي جاء في ضوء التزام فرنسا المستمر في الحرب على الإرهاب، ولمنع انتشار الجماعات الجهادية وخصوصًا تنظيم القاعدة في إقليم الساحل، وفي هذا السياق كان للوجود الفرنسي في إقليم الساحل الأفريقي العديد من الآثار سواء للدول المضيفة للوجود أو الدول المجاورة للإقليم، خاصة الجزائر وليبيا.

وقد توصلت هذه الدراسة إلى مجموعة من النتائج منها:

  • قد تبنت فرنسا عدد من العمليات العسكرية التي استهدفت من خلالها مكافحة الإرهاب في إقليم الساحل الأفريقي، إلا أن العمليات العسكرية الفرنسية لم تحقق أهدافها المرجوة منها، والدليل على ذلك تزايد الإحصاءات المتعلقة بأعداد الهجمات الإرهابية على دول الإقليم وكذلك حجم الآثار الكارثية التي خلفتها تلك الهجمات، من تزايد أعداد الضحايا وارتفاع أعداد اللاجئين والنازحين وغير ذلك من آثار، ولعل هذا ما أثار العديد من المواطنين في إقليم دول الساحل، لدرجة دفعتهم إلى الخروج في مسيرات منددة ورافضة للوجود الفرنسي في دول الإقليم.
  • حقّق التدخّل العسكري الفرنسي في مالي على الأقل بعض أهدافه المعلنة، أولها: وقف تقدم المجموعات الإسلامية المتطرفة نحو جنوب البلاد، والحيلولة دون تهديد العاصمة بماكو، وتدمير ما كانت تملكه من أسلحة متطورة، وثانيها: تحرير معظم المدن الرئيسة في الشمال ممّا دفع هذه المجموعات للاحتماء بالمناطق الجبلية الوعرة في الشمال الشرقي لمالي على الحدود الجزائرية.
  • وفي هذا السياق فإن الواقع يشير إلى أن هناك حاجة ملحة لمراجعة الاستراتيجية التي تتبناها فرنسا بالتعاون مع دول مجموعة الساحل الخمس، وذلك بهدف مكافحة الإرهاب في الإقليم بشكل أكثر فعالية، وذلك للتغلب على التحديات التي باتت تهدد قدرة القوات الفرنسية في مكافحة الإرهاب في الإقليم، والتي بدا من أبرزها الخطط الأمريكية التي تهدف إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الإقليم، وفي هذا الإطار تعمل فرنسا بكل جهد على إقناع شركائها داخل أوروبا وخارجها بزيادة عدد قواتها الدولية في هذا الإقليم المضطرب من العالم، وتتعلق العديد من الآمال على عملية تاكوبا التي من المنتظر أن تصبح مكملة لعملية برخان لمكافحة الإرهاب في الساحل، وهنا يمكن القول: إنه إن لم تتمكن فرنسا في إطار عملية تاكوبا والتي من المتوقع انطلاقها عمليًّا في مطلع عام 2021 من السيطرة على هذه الموجة الشرسة والعنيفة من الهجمات الإرهابية في إقليم الساحل، فإن احتمالات استمرار وجودها العسكري في الإقليم تعتبر مسألة محل شك، خاصة إذا لم تستطع استعادة ثقة شعوب دول الساحل بشأن جدوى وجودها العسكري في الإقليم.
  • وفيما يتعلق بالرؤية المستقبلية لإقليم الساحل الأفريقي في ظل الأمننة الفرنسية، فقد توصلت الدراسة إلى مجموعة من السيناريوهات:
  • السيناريو الأول: أن تظل العلاقة بين فرنسا والأنظمة الأفريقية قائمة على أساس الاستغلال ونهب الثروات، عبر التحالف مع الأنظمة السياسية الفاسدة والنّخب المتغربة، في ظلّ ما تعرفه القارة الأفريقية بما يسمّى بـ(العصبة العسكرية – المدنية)، والتي تحوّلت إلى حالة (مافيوية مالية – سياسية)، أنتجت حالة من الفساد البنيوي، وقتلت مفهوم الدولة.
  • السيناريو الثاني: أن تتشكل مقاربات مناهضة لهذه الاستراتيجيات والمشاريع الأمنية لمنع استنزاف ثورات القارة الأفريقية وخيراتها، والوقوف في وجه أي محاولة من شأنها إدخال دول القارة في حلقة التخلّف والفقر والتبعية، أو على الأقل محاولة إيجاد صيغة معينة من شأنها التمكين للاستفادة من هذه الثروات في عملية التنمية، والدفع نحو شراكة عادلة في عالم يزداد تعقيدًا وتركيبًا وتشابكًا.
  • السيناريو الثالث: لكي تحافظ فرنسا على علاقاتها بالدول الأفريقية بصفة عامة، وبدول إقليم الساحل بصفة خاصة، فمن الممكن أن تقوم فرنسا بتحويل الفرانكوفونية من مجرد تجمع ثقافي إلى حركة سياسية، ذلك من خلال إنشاء تجمع سياسي فرانكفوني في أفريقيا، له صوت سياسي يتم الأخذ به في الساحة الدولية، وهو ما يعني إنشاء تيار سياسي مناهض للتيار الأنجلوسكسوني – الأمريكي، تجتمع تحت مظلته جميع الدول الهادفة إلى الحد من الهيمنة الأمريكية، كما تسعى فرنسا في هذا الإطار إلى الحفاظ على استقرار الأنظمة الأفريقية، وذلك من خلال توظيف أدواتها الاقتصادية والثقافية المختلفة، وإنشاء شبكات للتعاون لدعم التنمية في الدول الفرانكوفونية.

وفي هذا السياق وفي ظل الإشكاليات الداخلية أو الإقليمية والدولية في إقليم الساحل الأفريقي، لن يتحقق الاستقرار بها على المدى الطويل إلا في الدول التي تمتلك فهمًا حقيقيًّا للتحديات الأمنية والتنموية الداخلية، لذا فإنه من الأفضل أن يقوم الفاعلون المحليون في دول الساحل بتصميم استراتيجيتهم التي تعالج أسباب عدم الاستقرار، وتحديد أولوياتهم وخاصة الدول التي تعاني من تهديد لأمنها الوطني وبخاصة الجزائر وليبيا، ومن ثم يستطيع الشركاء الإقليميون والدوليون دعم هذه الأولويات من خلال التنسيق المشترك.