كتبت – إيمان عبدالعظيم سيد أحمد
مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الأفريقية – جامعة القاهرة

تعد موزمبيق إحدى دول أفريقيا جنوب الصحراء التي تعاني العديد من التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية رغم ما تتمتع به من ثروات تمكنها من التنمية. ولعل التحديات الأمنية (الداخلية – الخارجية) هي الأكثر بروزًا على المشهد الموزمبيقي، وتلقي مزيدًا من الأعباء على الدولة؛ إذ ساهمت الحرب الأهلية، التي انتهت عام 1992، في تراجع الأمن الداخلي في موزمبيق وتدهور ظروف معيشة المواطنين، وسرعان ما ظهر بعدها حركات التمرد في مقاطعة كابو ديلجادو Cabo Delgado.

وتجددت تحديات الأمن الداخلي مرة أخرى بتجدد الصراع الداخلي -من 2013 حتى 2019- بسبب تهم فساد النظام الحاكم وفشل الدولة واتهامات بتزوير الانتخابات العامة 2014، وشكلت تحديات الأمن الداخلي بيئة خصبة لمزيد من تحديات الأمن الخارجي التي تجسدت في نمو التنظيمات الإرهابية مثل حركة الشباب المحلية، وأدت لدخول موزمبيق في دوامة الإرهاب الدولي وتحولها لمطمع تنظيم داعش الإرهابي، وربما محط أنظار التنظيمات المتطرفة الأخرى.

ومن هذا المنطلق تهدف هذه الورقة إلى التعرض بالتحليل لطبيعة التحديات الأمنية التي تواجهها موزمبيق ما بين تحديات الأمن الداخلي وتحديات الأمن الخارجي واستشراف مستقبلها، اعتمادًا على تقنية السيناريوهات كإطار تحليلي، وهو ما يطرح عددًا من التساؤلات حول العوامل الحاكمة لهذه التحديات وتطوراتها وسيناريوهات المستقبل بصددها.

أولًا: العوامل الحاكمة للتحديات الأمنية في موزمبيق

هناك العديد من المتغيرات والعوامل المؤثرة في التحديات الأمنية في موزمبيق، كالتالي:

فيما يتعلق بالأمن الداخلي: منذ أكثر من أربعة عقود، تحددت الأولويات الأمنية في موزمبيق من خلال المدركات السياسية. وجاء التعبير عن هذه المدركات من خلال العوامل والتغييرات التي شكلت بيئة الأمن الداخلي في موزمبيق وكيفية الاستجابة لها، وتبدأ أولها بآلية الكفاح المسلح التي تم من خلالها الانتقال من الحكم الاستعماري إلى الاستقلال، مرورًا بثانيها النهج السياسي والاقتصادي الذي اتبعته الحكومة منذ الاستقلال ما بين السياسة الاشتراكية ثم بعد ذلك اقتصاد السوق، وتنتهي من الحرب والحزب الواحد إلى التعددية الحزبية وإقرار السلام.

وكان حزب فريليمو كيانا مترادفًا للنظام السياسي والدولة والأمة معًا في موزمبيق؛ بفعل الآلية التي تم من خلالها الحصول على الاستقلال، حيث وافقت البرتغال على طلب استقلال موزمبيق من قبل حزب فريليمو والتي أصرت على ضرورة الاعتراف بها باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للأمة الموزمبيقية الجديدة، وبالفعل تشكلت حكومة انتقالية حتى الاستقلال الرسمي في يونيو 1975. ومنذ استقلال البلاد، تمكن الحزب من الحفاظ على سلطته، رغم الانهيار الاقتصادي الذي شهدته موزمبيق وصراعات القوى العظمى إبان الحرب الباردة وأزمات التمرد المسلح في المناطق الشمالية والوسطى، لتصبح موزمبيق مثالا لنموذجين مختلفين: نموذج الدولة المرنة التي نجحت في التكيف مع ظروفها المختلفة؛ ونموذج الحزب المهيمن المتمثل في فريليمو الذي تكون من نخبة حاكمة حافظت على التماسك الداخلي بسياسات صارمة، قد تكون شبه إقصائية أحيانًا مما كان أحد الأسباب لتأجيج الحرب بين (1977- 1992) وتحديات بناء دولة ما بعد الحرب.

وتجلت هنا العلاقة بين الاهتمامات السياسية والاهتمامات الأمنية. ويلاحظ غلبة الاهتمام بعسكرة السياسة دون الوضع في الاعتبار الإصلاحات التي تحتاجها المؤسسات الأمنية، ولعل ما يؤكد ذلك أنه في الوقت الذي تزايدت فيه الجريمة وأعمال العنف منذ أوائل 1990، لم تكن بدأت بعد الإصلاحات الحقيقية وإعادة تنظيم مؤسسات الأمن تجاه منع ومقاومة الجريمة حتى عام 1997، وذلك لأنه بنهاية 1980 سيطر على المدرك السياسي للدولة أنه ليس بالأهمية إدارة السياسة عبر الحرب. وهو ما يعني أن الأمن أصبح مضمونا، رغم إرث الحرب المختلط بالفقر والتغييرات البيئية وانتشار الأوبئة والتي شكلت فيما بعد الاهتمامات الأمنية في الدولة.

ورغم انتهاء الحرب بين فريليمو ورينامو في عام 1992، ودخل الجانبان في محادثات سلام، إلا أن الصراع تجدد مرة أخرى بينهما من 2013 حتى 2019، وفي ديسمبر 2016 بدأت مفاوضات السلام بإعلان الرئيس الموزمبيقي وزعيم فريليمو فيليب نيوسي رغبته في لقاء زعيم رينامو، وطلب إقامة حوار مباشر معه، لتنتهي التوترات بمعاهدة سلام في عام 2019 ؛ لإنهاء التمرد والأعمال العدائية المسلحة. ولكن خلف الصراع التاريخي بين الحزب الحاكم (فريليمو) وغريمه المعارض (رينامو) تحديات أمنية متعددة تجسدت في بروز العديد من الجماعات الإرهابية التي تجاوزت تحديات الأمن الداخلي إلى تحديات أمنية أكثر خطورة وهي تحديات الأمن الخارجي.

وفيما يتعلق بالأمن الخارجي: في هذه المرة، تزعم الورقة أن العوامل الحاكمة التي تشكل بنية الأمن الخارجي في موزمبيق إنما تنبع في معظمها بالأساس من العوامل الاقتصادية إلى جانب العوامل السياسية، وتتمثل فيما يلي:

أ- لعنة الموارد/ تحديات الموارد الطبيعية: تعد موزمبيق الدولة الأكثر إنتاجية في العالم للياقوت والأخشاب، كما تمتلك 40% من احتياطيات الوقود في العالم، بعد اكتشافه عام 2019. كما يحظى شمال موزمبيق بالعديد من الاكتشافات الحديثة لحقول الغاز. وتمتلك أيضا أكبر رواسب للجرافيت في شمال موزمبيق، وهو عنصر أساسي في تطوير بطاريات الليثيوم المستخدمة في السيارات الكهربائية.

ورغم كل هذه الثروات التي كان من المفترض أن تكون بوتقة أمل لتحقيق النمو والازدهار للموزمبيقيين، إلا أن ما حدث كان عكس ذلك، إذ لم تهنأ موزمبيق بثروة الغاز المكتشفة وتحولت مواردها الغنية من نعمة إلى نقمة، وظل الشعب يعاني الفقر والتهميش والبطالة لاسيما في شمال البلاد؛ لاعتماد الحكومة على العمالة الخارجية في أعمال التنقيب عن النفط والغاز، بدلا من الاعتماد على السكان المحليين. كما ازدادت معدلات الفقر والديون، وسجل شمال موزمبيق أيضا أعلى نسبة أمية في البلاد. وفي ظل أوضاع التهميش هذه وتراجع الأوضاع المعيشية، وجد داعش إقليم شمال موزمبيق أرضا خصبة للاستيلاء على الموارد الغنية في الإقليم كمصدر لتمويل نشاطه الإرهابي من ناحية، وتجنيد عناصر جديدة للانضمام إلى صفوفه من ناحية أخرى، مستغلا معدلات التهميش والبطالة والأمية والفقر المرتفعة التي يعانيها السكان في هذه المنطقة والتي جعلت لدى العديد منهم القابلية للانضمام إلى الجماعات المتطرفة وبالتالي تزايد التحديات الأمنية.

ب- التجارة غير المشروعة: تعتمد التنظيمات الإرهابية على أنشطة التجارة غير المشروعة كمصدر للإمداد والتمويل للقيام بأعمالها الإرهابية، وهذا ما حدث في شمال موزمبيق. حيث اعتمدت حركة الشباب في تمويلها على أنشطة التجارة غير المشروعة التي تنشط في الإقليم ومنها الاتجار في تهريب المخدرات والعاج والأخشاب والهيروين والياقوت عبر ساحل ميناء( ميكيمو دي برايا)، كما استغل الإرهابيون حدود موزمبيق التي يسهل اختراقها مع تنزانيا لتهريب الأسلحة وتجنيد مقاتلين أجانب والهروب من المطاردة، وقد وظف تنظيم داعش هذه الحدود أيضا في إرسال المقاتلين إلى شمال موزمبيق..

ج- التهميش الحكومي لإقليم كابو ديلجادو: والذي عده كثير من الباحثين بمثابة أحد أهم التحديات الأمنية في موزمبيق، حيث تعد أهم الأسباب وراء ظهور جماعات متشددة تحت اسم الشباب أو أنصار السنة هي تردي الأوضاع الاقتصادية مصحوبة بالتهميش الحكومي والحرمان من الوصول إلى مصادر دخل لاسيما الشباب، فضلا عن أسلوب القمع والعنف الذي استخدمته الحكومة ضد الجماعات المتمردة في إقليم كابو ديلجادو في شمال موزمبيق.

استغل تنظيم داعش معاناة سكان شمال موزمبيق من التجاهل والتهميش، لاسيما بعد طرد العديد منهم من قراهم وأراضيهم الزراعية، للبدء في المشروعات الاستثمارية العملاقة وساهمت في تفاقم غضب السكان المحلين في تلك المنطقة، ومثلت فرصة سانحة لاستقطابهم من الجماعات الإرهابية بعد تقديم مجموعة من الوعود الزائفة وتحسين أوضاعهم المعيشية والاقتصادية. فضلا عن استغلال التنظيم للصراعات الإثنية المنتشرة في موزمبيق لاسيما بين جماعة ماكوندي التي تمتلك السلطة والمال في البلاد والأقلية المسلمة المتمركزة في شمال البلاد، والتي تنتمي إلى جماعة مواني، والتي تعاني البطالة والتخلف والفقر والتهميش وعدم احترام مقدساتها الدينية من قبل السلطات الأمنية المعسفة ضدها، مما دفع العديد من شبابها إلى طريق التطرف والعنف المسلح عبر الانضمام لحركة الشباب وتنظيم داعش.

ترتب على هذه الأوضاع الأمنية في إقليم كابو ديلجادو صراعا معقدا يدور حول السلطة والمطالبة بالحقوق الأساسية والتمرد على النظام المركزي، واستمر لعقود من الزمن ثم تحول إلى تمرد شامل ليتصاعد ويصبح إرهابا عنيفا قد يتخطى حدود موزمبيق إلى مناطق جغرافية أخرى في القارة، هذه العوامل ذاتها مهدت الطريق لوصول الجماعات الراديكالية الإسلامية المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وبدأوا التفكير في الانتقال إلى أفريقيا.

ثانيًا: تطورات التحديات الأمنية في موزمبيق

شهدت التحديات الأمنية في موزمبيق عددا من التطورات، وذلك على النحو التالي:

تطورات الأمن الداخلي: تجددت تحديات الأمن الداخلي بتجدد الصراع الداخلي المسلح بين الحكومة والمعارضة مرة أخرى في 2013، واستمر العنف وصولًا إلى اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار بوساطة سويسرية 2014، واستمر الصراع حتى التوصل لاتفاق سلام شامل في أغسطس 2019 واتفق على وقف دائم لإطلاق النار واتفاق عسكري وسياسي نهائي لإنهاء الصراع. وبدأت رينامو نزع السلاح تدريجيا في يوليو 2019 ولكن لم تنفذ بعد بنود الاتفاق السياسي لاسيما جعل نظام الحكم لامركزيا.

تطورات الأمن الخارجي: بدأت تحديات الأمن الخارجي تتجلي منذ عام 2017، حينما شن مسلحون غالبا ما يحملون علم الدولة الإسلامية هجوما في مقاطعة كابو ديلجادو شمال موزمبيق، مما أدى إلى دخول موزمبيق في دوامة الإرهاب الدولي وتطوير العلاقات مع الجماعة الإرهابية الدولية وتهديد أحد أكبر مشاريع الغاز الطبيعي في العالم لاسيما بعد هجوم مارس 2021 على مدينة بالما مما أدى لإعلان شركة توتال العملاقة للطاقة تعليق استثماراتها الهائلة في الغاز الطبيعي في كابو ديلجادو وإجلاء موظفيها من المنطقة.

وفي يوليو 2021، تم تدويل الأزمة وأصبح صراع كابو ديلجادو Cabo Delgado صراعًا دوليًّا إلى حد غير مسبوق. ودخلت أطراف وجهات فاعلة إقليمية ودولية (الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي (سادك ) والتي اعتمدت اختصارا SAMIM ورواندا والاتحاد الأوروبي) إلى ساحة المعركة بناءا على طلب من حكومة موزمبيق، وأرسلت قوات الشرطة والجيش لمساعدة جهود مكافحة التمرد الموزمبيقية. وفي المقابل، زاد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من وتيرة هجماته في كابو ديلجادو، على ما يبدو كرد فعل لمثل هذه التدخلات.

ثالثًا: سيناريوهات التحديات الأمنية في موزمبيق

اتساقا مع تقنية السيناريوهات، فمستقبل التحديات الأمنية في موزمبيق قد يأخذ إحدى السيناريوهات التالية:

السيناريو الاتجاهي (الخطي): يفترض هذا السيناريو استمرار بقاء الوضع الحالي. فطالما أن المتغيرات الحاكمة لتلك الإشكالية ما زالت قائمة، فإن احتمالات السيطرة عليها ستكون ضعيفة، وهذا يعني استمرار التحديات الأمنية في موزمبيق وعدم السيطرة عليها بحيث تكون ممتدة بفعل تزايد موجات العنف والجماعات المسلحة.ولعل ما يدعم هذا السيناريو تقرير صادر عن insecurity insight في 20 أغسطس 2021، والذي يؤكد أن المزيد من العنف في مقاطعة كابو ديلجادو بشمال موزمبيق أمر شبه مؤكد.

وبينما من غير المرجح أن يتمكن تنظيم الدولة الإسلامية ISCAP من شن هجوم آخر بهذا الحجم في بالما لبعض الوقت، إلا أنه قد يتطلع إلى شن ضربات على الأطراف أو حتى خارج منطقة العمليات العادية. وقد يسعى هؤلاء إلى استهداف منظمات الإغاثة أو المجموعات الإعلامية المرتبطة بالغرب من أجل تعظيم قيمة الدعاية. علاوة على ذلك، فإن حقيقة إعلان القادة المركزية لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق مسؤوليتها عن هجوم بالما تسلط الضوء على التعاون المتزايد بينه وبين وكلائه الإقليميين، وتشير السرعة التي تم بها تقديم هذه الإعلانات إلى تعاون وثيق مسبق حول كل من التخطيط لهجوم بالما والدعاية اللاحقة.

 ومن المحتمل استمرار زيادة أحداث الصراع المسلح بين الجهات الحكومية وغير الحكومية في التأثير على عمليات الإغاثة في مقاطعة كابو ديلجادو، لاسيما في المنطقة الساحلية الشمالية الشرقية. فضلا عن أن الهجمات المستمرة على المدنيين من قبل جهات فاعلة غير حكومية تعني أن المستفيدين سيظلون بحاجة إلى مساعدات موجهة.

وعلى الرغم من عدم وجود تقارير عن اعتقال عمال الإغاثة أو اختطافهم أو قتلهم في موزمبيق في الأشهر الأخيرة، فقد تعرض عمال الإغاثة للعنف في مناسبة واحدة على الأقل مؤخرا في كابو ديلجادو، تأثرت عمليات المساعدة في كابو ديلجادو بالسياق الأمني المتدهور والصعوبات في توزيع الإمدادات الإنسانية. ومع استعادة Mocímboa da Praia، سيؤدي ذلك إلى وقف انتشار التمرد الإسلامي المتشدد في الوقت الحالي وسيتحرك أكثر نحو التمرد بدلا من الصراع. وهو ما يعنى استمرار الحرب، حيث تستغرق حركات التمرد وقتا للسيطرة عليها وتفكيكها.

السيناريو التحولي (الراديكالي): يتم هنا الاعتماد على حدوث تحولات راديكالية عميقة في المحيط الداخلي والخارجي للتحديات الأمنية في موزمبيق، يروج تنظيم الدولة الإسلامية لاستغلال حركة الشباب ودعم المتمردين بمستويات متزايدة من الدعم العملياتي والتكتيكي (بما في ذلك الاندماج الرسمي في تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية وسط أفريقيا في أبريل 2019)، وهو ما يزيد القلق العميق بشأن الفعالية المتزايدة واستدامة جهود منح امتياز داعش عبر القارة. وبدون تدخل دولي محسوب بشكل مدروس، يمكن أن يترسخ الإرهاب في مسرح جديد مع آثار طويلة المدى بالنسبة للأمن البشري والاستقرار الإقليمي.

فضلًا عن أن الاستمرار في سيناريو نشر موزمبيق وحدات الجيش لمواجهة المتمردين سيؤدي إلى نتائج عكسية سواء خسائر في أرواح المدنيين أو تعرض شرعية الدولة لخطر حقيقي. وذلك أن قيام قوات الأمن بالاحتجاز التعسفي للمدنيين والإعدام الفوري للعناصر الإرهابية المشتبه بها مع المدنيين، يهدد ويوسع خطر التطرف العنيف على طول ساحل شرق أفريقيا. فالانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن ضد المدنيين لا تؤدي إلا إلى تغذية المظالم المحلية وتعيد توطين الجماعات المتطرفة العنيفة.

ومن ثم لا تستطيع موزمبيق إدارة الأزمة بمفردها لما منيت به من سلسلة من الهزائم العسكرية على يد المتمردين، فحتى عندما استعانت بجماعة فاغنر -وهي مرتزقة روسية لها علاقات مباشرة مع الكرملين- ساءت الأوضاع أكثر، وألحق المتمردون خسائر فادحة بالقوات الموزمبيقية وانسحب الروس فجأة بعد أشهر من وصولهم، ومن ثم كانت نتيجة سوء الإدارة الحكومية أنه في غضون ثلاث سنوات فقط، انتقلت حركة الشباب من مهاجمة القرى الصغيرة إلى تصاعد الهجمات المعقدة ومتعددة الجوانب سواء على قوات الأمن الموزمبيقية والمدن الاستراتيجية؛ مثل مدينة Mocimboa da Praia، وبانتهاء عام 2020 استمرت الأزمة في موزمبيق في مسارها التنازلي وتشبه إلى حدٍّ كبير تحديات مكافحة الإرهاب التي طال أمدها في القارة في منطقة الساحل والقرن الأفريقي وحوض بحيرة تشاد.

السيناريو الإصلاحي: يركز هذا السيناريو على حدوث تغيرات وإصلاحات على الوضعية الحالية للتحديات الأمنية في موزمبيق، ولعل أولى هذه التغييرات الإيجابية تتجلى في تمكن حكومة موزمبيق قرب منتصف أغسطس الجاري، وبمساعدة القوات الرواندية مع توقُّع تدفُّق مزيد من قوات “SAMIM”، وهي بعثة الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي في موزمبيق لا سيما من دولتي جنوب أفريقيا ليسوتو، من استعادة عدد من المواقع، أهمها ميناء مدينة موسيمبوا دا برايا Mocimboa da Praia التي ظلت طوال العامين الأخيرين معقل أنشطة الجماعات المسلحة، وتؤشر هذه النجاحات إلى جانب نشاط جنوب أفريقي مرتقب في الأجزاء الجنوبية من موزمبيق في أغسطس الجاري، على تعزيز قُدُرات الحكومة الموزمبيقية في مواجهة الجماعات الإرهابية، والحد من توغلها وانتشارها في مناطق غنية بالموارد الطبيعية.

وبدأ المتمردون بالفعل في التخلي عن قواعدهم في دا برايا وانقسموا إلى مجموعات صغيرة، كما يفعل المتمردون الواقعون تحت الضغط. ويلاحظ أن المنطقة المشتعل فيها الحرب عبارة عن غابة كثيفة للغاية توفر غطاء ممتازًا، كما أن بها طرق معزولة منذ فترة طويلة تعتبر ممتازة للقناصين، حيث تمكنهم من خلق فوضى من خلال إغلاق الطريق الرئيسي بين الشمال والجنوب بشكل متقطع، وإذا كانت داعش هي الفاعل الوحيد في حركات التمرد هذه، فمن المرجح جدا أن ترسل الأموال والأسلحة والجهادين للسيطرة على الحرب المحلية وتصعيدها، ولن تنتهي هذه الحرب. وسيتم إعادتها ببساطة إلى ما كانت عليه قبل عامين.

مع ذلك، فالمهمة المطروحة تتجاوز قيود مكافحة الإرهاب إذا كان لابد من إيجاد حل مستدام. ويبقى النظر فيما إذا كانت قوات SAMIM ستكون قادرة على العمل مع موزمبيق ومعالجة الدوافع الأساسية للصراع على المدي الطويل. وهنا يلوح في الأفق التغيير الآخر الأكثر إيجابية في هذا الصدد، والمتمثل في قلق العديد من الأمريكيين من التزامات مكافحة الإرهاب في الخارج، إلا أن هناك إجماعًا متزايدًا بين الخبراء على أن الاستجابات التقليدية والعسكرية لمكافحة الإرهاب التي هيمنت في فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فشلت لا سيما في أفريقيا، ويمثل الوضع في موزمبيق فرصة لإعادة توجيه هذه الجهود من خلال معالجة الدوافع الكامنة وراء الصراع والتطرف، والأمر اللافت للانتباه هنا أن الحكومة الموزمبيقية حققت بعض الإنجازات المهمة في هذا الصدد، وأبرزها إنهاء حربها الداخلية مع رينامو التي استمرت من (1977 -1992)، وربما لا يزال صراع السلطة بين رينامو وفريليمو قائمًا فضلًا عن أن توازن القوى بين المقاطعات ظل دون تغيير إلى حد كبير.

ومن هذا المنطلق توجد عدة مسائل عاجلة لمعالجة الأزمة في كابو ديلجادو وسط فرصة لمواجهة التحديات الأمنية الأوسع في موزمبيق، ويجب على الحكومة وداعميها الدوليين التصرف فيها على وجه السرعة، ولعل أولها والذي يجب أن تكون له الأولوية العاجلة هو وقف التقدم العسكري للمسلحين مع معالجة الوضع الإنساني المزري في ذات الوقت، وثانيها  يجب على المجتمع الدولي أن يضغط على الحكومة لمعالجة المظالم الاقتصادية والسياسية المشروعة في كابو ديلجادو، ويجب على الحكومة التواصل بشكل أفضل مع سكان كابو ديلجادو، والتي تعد فرصة لتحسين حالة الحكم المحلي بالبلاد. وإذا نفذت الحكومة اللامركزية ورسخت حوكمة أكثر تشاركية وشفافية وخاضعة للمساءلة، جنبًا إلى جنب مع عمليات أمنية فعالة، فلا يوجد هنا سبب يمنع بمرور الوقت التمرد في كابو ديلجادو.

وختامًا، تظل إدارة التحديات الأمنية في موزمبيق رهن متغيرين؛ أحدهما خارجي متعلق بطبيعة الفواعل المنخرطة في موزمبيق، والآخر داخلي مرتبط بالدولة. يتمثل المتغير الأول في قيام الفاعلين ذات الصلة بالأزمة في موزمبيق بإعادة صياغة استراتيجية متكاملة للأمن البشري تتناول الأبعاد السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية. ويتطلب التعامل مع التحديات الأمنية في كابو ديلجادو تضافر عدد من الفاعلين (الحكومة والمواطنين الموزمبيقيين والجهات المانحة ومقدمي المساعدة الأمنية وشركات الطاقة متعددة الجنسيات)، جميعها لها دور في تشكيل هذا النهج القائم على التعاون الدولي، الأمن وحفظ السلام دون الإفراط في التسليح، مكاسب الطاقة غير المتوقعة وتوزيع الثروة لتجنب سيناريو لعنة الموارد.

في حين يتعلق المتغير الثاني بالدولة، حيث تشير دراسة التحديات الأمنية في موزمبيق إلى أن التغييرات السياسية الحقيقية من قبل الدولة كفيلة بسد الفجوة بين التحديات السياسية والأمنية، والتي تعد إلزامية للخروج من الأزمة الحالية والتغلب على تحديات الأمن الداخلي منه والخارجي. وتتجلى إحدى هذه التغييرات السياسية في قيام موزمبيق بتوصيف الاهتمامات الأمنية الحقيقية في الدولة في اللحظة الراهنة في محاولة منها لتحديد التهديدات الأمنية والعوامل المسببة لها. بمعنى آخر: ما لم تستطع موزمبيق فك الارتباط بين ثنائية تحديات الأمن الداخلي والخارجي، فستستمر التحديات الأمنية في تفاقمها لأبعد مدى متصور، ولعل ما يؤكد ذلك تشديد الحكومة الموزمبيقية على الصلة التي تربط حركة الشباب بالمنظمات الإرهابية الخارجية، لاسيما بعد هجوم مارس 2021 على مدينة بالما، مما أثار انتقادات لها لتجاهلها عناصر وأسباب الصراع الموزمبيقي الداخلي. والحقيقة أن هذه الروابط الإرهابية الأجنبية موجودة بالفعل، ولكن جنبا إلى جنب مع تدفق الجهاديين غير الموزمبقين مستغلين حفيظة المظالم المحلية والأوضاع الداخلية المتدهورة في البلاد. وهناك احتمال أن يمتد الصراع إلى المقاطعات المجاورة الغنية بالموارد الطبيعية والجاهزة لاستغلال المقاتلين وحتى عبر الحدود. وفى أفضل السيناريوهات، قد يستغرق ترويض التمرد في كابو ديلجادو عدة سنوات.

وهناك العديد من الدلائل الداعمة للوزن النسبي المتزايد للمظالم المحلية عن غيرها من العوامل الأخرى. ومن الملاحظ عدم وجود رسالة دينية حقيقية للمتمردين ويؤكدوا دائما أنهم يقاتلون الدولة. وما زالوا يقاتلون بالأسلحة والمركبات التي تم الاستيلاء عليها من قبل قوات الأمن الموزمبيقية. وذكر مركز الأبحاث التابع لمجموعة الأزمات الدولية IGC أن المتمردين ليس لديهم إلا روابط ضعيفة مع تنظيم الدولة الإسلامية، وأن الدوافع الحقيقية لهذا الصراع لها علاقة أكبر بالمظالم المحلية، وهي حقيقة لابد أن تنطلق منها جهود التعامل مع التحديات الأمنية؛ لأنه حتى هذه اللحظة يتم التعامل مع الأزمة من منظور واحد فقط وهو دعم القتال ضد داعش وفقط ولم يتم إرسال جنود إلى موزمبيق لمساعدتها في التعاطي مع السكان المحليين الذين لديهم مظالم حقيقية. فنادرًا ما تنتهي مثل هذه التحديات الأمنية عسكريا وإنما يجب أولا التعامل مع المظالم المحلية الحقيقية.

ويلاحظ أيضًا أن أحد الأسباب التي تؤدي للقيام بأعمال تمرد تكمن في الرغبة في الحصول على المال والعمل، وهم على استعداد لترك التمرد إذا عُرض عليهم عمل معقول في المستقبل، فتوفير بضعة آلاف من الوظائف كفيلة بإنهاء الحرب، وليس أدل على ذلك من أنه في مايو 2018، احتج حوالي 100 شاب في بلدة بالما، لعدم رضاهم عن طريقة توظيف شركات مشروعات الغاز الطبيعي المسال الاستثمارية، وإذا لم تتم إدارة توقعات المجتمعات المتضررة أو المجاورة لتلك الاستثمارات التي تم القيام بها من قبل الحكومة وممثلي هذه الشركات هناك، فسيكون الناتج هو الصراع بين المجتمعات المحلية وتلك الشركات.

هوامش الدراسة

  • محمد زكريا فضل، تداعيات التمرد العنيف في موزمبيق على منطقة جنوب أفريقيا، في مجلة متابعات أفريقية (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، العدد 16، يوليو 2021)، ص ص 37-38
  • حكيم ألادي نجم الدين، فريليمو وتحديات ما بعد الحرب بالوكالة في موزمبيق، نفسه، ص ص 45-45.
  • آية خطيب، موزمبيق: ديناميات الصراع الداخلي المسلح بين الحكومة والمعارضة، نفسه، ص 54-63.
  • منى قشطة، أبعاد تنامي نشاط داعش وتداعياته في موزمبيق، نفسه، ص 63-72.
  • جيهان عبدالسلام، الاقتصاد الموزمبيقي بين ثالوث التحديات: وباء كورونا، لعنة الموارد، الإرهاب، نفسه، ص ص 72 -82.
  • Martinho Chachiua ,”Internal security in Mozambique: Concerns versus policies,in African security review (vol.9,issue 1, 2000), pp.54-67.
·                     M.Hall & T.Young, Recent Constitutional Developments in Mozambique, Journal of African Law ( Cambridge University Press,vol.35,issue 1-2, July 2009), pp. 102 – 115.
·                     David N.Plank , “Aid, Debt, and the End of Sovereignty: Mozambique and Its Donors”, in The Journal of Modern African Studies ( Cambridge University Press ,vol.31,issue 3 , nov,2008) , pp. 407 – 430.
·                     Glenda Morgan, Violence in Mozambique: Towards an Understanding of Renamo, in The Journal of Modern African Studies (Cambridge University Press, vol.2008,issue 4, November 2008 ), pp. 603 – 619
  • Shared Value Foundation and LANDac, February 2019 Oil and gas investments in Palma District, Mozambique Findings from a local context analysis
  • Thomas P.Sheehy ,Five Keys to Tackling the Crisis in Mozambique’s Cabo Delgado, united states institute f peace , 28 july 2021. At: https://www.usip.org/publications/2021/07/five-keys-tackling-crisis-mozambiques-cabo-delgado.
  • Leanne Erdberg ,Bethany L. Mcgann, Mozambique’s Crisis Requires a New Playbook to Fight Extremism. At: https://www.usip.org/publications/2020/12/mozambiques-crisis-requires-new-playbook-fight-extremism
  • Mozambique Welcomes Foreign Soldiers to Fight Insurgency, The Defence Post, July 26, 2021 https://www.thedefensepost.com/2021/07/26/mozambique-foreign-soldiers-insurgency/
  • Guy Martin, SADC Mozambique force bolstered by Lesotho as Rwandans retake key port, DefenceWeb, August 10, 2021 https://www.defenceweb.co.za/featured/lesotho-the-next-nation-to-deploy-troops-to-mozambique-as-rwandan-reports-major-successes/.
  • https://reliefweb.int/report/mozambique/northern-mozambique-vigil-insight-situation-report-19-june-2021
  • https://reliefweb.int/report/mozambique/northern-mozambique-vigil-insight-situation-report-14-june-2021
  • https://allafrica.com/stories/202108190026.html
  • https://www.caboligado.com/monthly-reports/cabo-ligado-monthly-july-2021
  • Joseph Hanlon, Mozambique insurgency: Rwanda leads the fightback, at: https://www.bbc.com/news/world-africa-58079510
·                    Mozambique Palma attack: How people tried to flee the assault. At: https://www.bbc.com/news/world-africa-56602841.