كتب – محمد الدابولي

حالة من التشظي والانفلات تصيب الساحة السياسية في جنوب السودان منذ استقلالها في عام 2011 وإلى اليوم، فبعد الاستقلال دخلت البلاد لتوها في آتون حرب أهلية نهاية 2014 دامت أربع سنوات كان طرفاها الرئيس «سيلفا كير» ونائبه «رياك مشار» ولم تنته إلا  في عام 2018 بعد جهود تفاوضية ووساطة دولية نجحت في إسكات الصراع مؤقتا في جنوب السودان والذي تسبب في قتل ما يقارب 400 ألف مواطن على  الأقل.

ومنذ التوقيع على اتفاق السلام في عام 2018 وما لحقها من اتفاقيات تكميلية تهدف إلى تعزيز عملية السلام ظلت جنوب السودان على شفا الانغماس مرة أخرى في أتون حرب أهلية، فالأوضاع والمطالب التي نادت بها اتفاقية السلام؛ معظمها لم يتم وضعه  موضع التنفيذ الأمر الذي أثار حالة من الاحتقان السياسي في صفوف  المعارضة والحكومة.

ماذا يحدث؟

في إطار حالة الانسداد السياسي في جنوب السودان، دفعت عناصر من المعارضة السياسية إلى إبعاد زعيمها “رياك مشار”  عن رئاسة الحزب والميليشيات التابعة له، بما يعني حدوث انقلاب عسكري داخل المعارضة نفسها “الحركة الشعبية لتحرير السودان – جناح المعارضة” وتم تعيين رئيس هيئة الأركان العامة للحركة الجنرال سايمون قاتويج دوال زعيما مؤقتا للحزب.

وجاءت قرارات الجناح العسكري بعزل مشار بعد اجتماعات حضرها عديد من جنرالات المعارضة ضمت كل من رئيس هيئة الأركان العامة للحركة الشعبية الجنرال سيمون جاتويش دوال وأيضا الجنرال جونسون أولوني أحد قيادات القطاع الأول والجنرال توماس مابور من قيادات القطاع الثالث، وبعض الوزراء من الحكومة الذين قدموا استقالاتهم اعتراضا على سياسات “مشار”.

ونتيجة لذلك اندلعت اشتباكات عنيفة بين أنصار “مشار” وغريمه الجديد “دوال” في ولاية أعالي النيل أسفرت عن مقتل 27 جنديا على الأقل ولا تزال الأزمة مشتعله بين الجانبين في ظل عدم نجاح الحركة الانقلابية في إبعاد مشار بصورة كاملة عن قيادة الحزب إذ ما زال يمتلك العديد من الأنصار والمدافعين عنه، مما حدا إلى توصيف ما حدث بأنه انقلاب فاشل.

دوافع انقلاب المعارضة

تتمحور دوافع الانقلاب الأخير في صفوف المعارضة السياسية في جنوب السودان حول سببين أولهما اتجاه رياك  مشار إلى الاستئثار بالسلطة إذ اتهمت البيانات الأولى الصادرة من جبهة الجنرال  “دوال” بأن مشار انتهج سياسة إقصائية داخل الحزب إذ عمد إلى تهميش باقي قيادات المعارضة لصالح أفراد وعناصر مقربة منه، أما السبب الثاني فيعود إلى التأخر الشديد في تنفيذ بنود اتفاق الترتيبات الأمنية المنبثق عن اتفاق السلام مع الحكومة والذي كان يهدف لدمج قوى المعارضة والحكومة ففي جيش وطني موحد.

وتوجد أسباب أخرى مهدت لعملية الاقتتال بين صفوف المعارضة وهي عدم احترام الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها بين الحكومة والمعارضة والتي كانت سببا في تقاسم السلطة في فبراير 2020، فإلى اللحظة لم يجتمع البرلمان فضلا عن وجود العديد من المناصب الوزارية ما زالت شاغرة ولم يتم توحيد  الجيش.

وإزاء عدم توحيد الجيش باتت العديد من  القوات في جنوب  السودان سواء في الحكومة أو  في المعارضة معرضة  لخطر نقص الأغذية والأدوية فمعسكر “الرجاف” الكائن جنوب  البلاد شهد بداية العام الجاري وفاة 26 جنديا بسبب الجوع الشديد، فضلا عن معاناة العديد من الجنود من أمراض التيفويد والإسهال وغيرها من الأمراض الأخرى.

وعلى جانب أخر أكدت لجنة الأمم المتحدة المعنية بوضع حقوق الإنسان في جنوب السودان أن اتفاق السلام الموقع في عام 2018 سمح فعلا بتهدئة الأعمال العدائية على المستوى الوطني أي بين جماعتي الدينكا والنوير لكنه فشل في إيقاف  الأعمال العدائية التي تقع على المستوى المحلي وهو ما تمخض أخيرا في اشتباكات المعارضة الأخيرة.

دلالات خطيرة

تحمل عملية اقتتال المعارضة في جنوب السودان تداعيات خطيرة متعلقة بمستقبل  الاستقرار الهش في البلاد والإقليم، فاقتتال المعارضة من شأنه زحزحة العنف إلى مناطق أخرى في البلاد والعودة مرة أخرى إلى حالة الاقتتال على المستوى الوطني التي كانت سائدة قبل عام 2018، وفيما يلي أبرز الدلالات الخطيرة المترتبة على الاقتتال الأخير في جنوب السودان:

  • إضعاف الثقة: تعاني الأطراف السياسية في جنوب السودان منذ استقلالها من حالة انعدام الثقة التامة بين جميع الأطراف، فكل طرف يكن للأخر العداء وينتظر اللحظة المناسبة للوثوب على مكانه وكانت حالة انعدام الثقة سببا رئيسيا في إفشال جهود السلام التي بذلت في عام 2016 وكانت أيضا سببا في تعطيل اتفاق السلام الموقع في عام 2018 ولم يدخل حيز التنفيذ سوى في عام 2020، لذا فالانقلاب الأخير من شأنه زيادة حالة انعدام الثقة وتزايد تبادل الاتهامات ليس فقط بين طرفي المعارضة بل أيضا من طرف المعارضة والحكومة، إذ قد يظن جناح رياك مشار بأن الرئيس سيلفا كير  يخطط لإزاحته عبر بث الانشقاقات الداخلية في حزبه، وفي المقابل اتهمت قيادات الجناح المنشق منظمة الإيجاد بالانحياز لصال مشار.
  • انهيار الاستقرار  الهش: عطفا على ما سبق تصبح مسألة الاستقرار الهش في البلاد في مهب الريح ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إعادة الاقتتال مرة أخرى في البلاد وانهيار اتفاق السلام لكن بصورة أوسع إذ تصبح المكونات المحلية الصغيرة هي من تقاتل بعضها البعض.

فاتفاق السلام الأخير كان طرفيه سيلفا كير ورياك مشار والآن بات مستقبل مشار على المحك، الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلى انهيار اتفاق السلام حيث أُضعف أحد طرفيه وصعدت أطراف أخرى للساحة السياسية في جنوب السودان.  

  • إضعاف “مشار”: هدف الانقلاب الأخير إقصاء مشار نهائيا من قيادة المعارضة وبالتالي من مركزه كنائب لرئيس الجمهورية وسحب جميع سلطاته، لكن في ظل حالة الارتباك التي بدت على خصوم مشار وفشلهم في إزاحته كليا سيؤدي ذلك فقط إلى إضعاف قدرات وصلاحيات “مشار” السياسية فهو الآن ليس مؤيد من قبل أطياف المعارضة كما سبق، فعلى سبيل المثال أدى انضمام “هنري أودوار” نائب رئيس الحركة ووزير المناجم إلى إضعاف تأييد مشار منطقة إكواتوريا الوسطى في جنوب البلاد، وبالتالي يصبح مشار ضعيفا غير قادرا على إنفاذ بنود اتفاق السلام.
  • أطراف جديدة في اتفاق السلام: يبدو أن ملف اتفاق السلام ما زال مفتوحا لإضافة اتفاقات وبنود أخرى إذ من المحتمل في حالة نجاح منظمة الإيجاد في تسكين الأوضاع داخل المعارضة إلى إضافة بنود أخرى أو اتفاقيات مكملة لاتفاق السلام من شأنها إضافة أطراف جديدة للاتفاق وهم جناح المعارضة الجديد المنشق عن سلطات مشار.
  • تزايد احتمالية المجاعة: كانت حالة  انتشار المجاعة ونقص الأغذية بين صفوف القوات في جنوب السودان دافعا رئيسيا للأحداث التي نشهدها اليوم لذا من المتوقع في ظل انهيار الاستقرار أن تتزايد وتيرة المجاعة في البلاد مما يعرضها لكارثة إنسانية خطيرة.
  • تعزيز الحالة السائبة في القرن الأفريقي: تأتي أحداث جنوب السودان الأخيرة لتعزز حالة الانسياب التي تعاني منطقة القرن الأفريقي، إذ باتت معظم دوله تعاني من انهيار استقرارها الهش إثيوبيا التي تدور رحى الحرب حاليا بين مكونات مجتمعها، الأمر الذي قد يخلق لنا في المستقبل القريب إقليما فاشلاً تنتشر به الأمراض والمجاعات والجماعات الإرهابية والإجرامية ويكون بمثابة نقطة تهديد خطيرة للأقاليم المجاورة كوسط وجنوب أفريقيا والشرق الأوسط.

مستقبل “مشار” السياسي

يعد رياك مشار من القيادات السياسية الأفريقية التي تمتلك حنكة ومهارة سياسية كبرى مكنته طوال العقود الماضية من تحقيق العديد من المكاسب السياسية ومقارعة العديد من القادة التاريخين للحركة الشعبية مثل “جون قارنج” وتمكنه من الحفاظ على المكاسب السياسية لجماعته “النوير” والوقوف أمام تغول جماعة الدينكا على السلطة في البلاد، فخلال فترة الحرب الأهلية السودانية تأرجح موقف مشار إزاء الحركة بين تحالف ومعاداة ففي عام 1993 انفصل عن الحركة ودخل في مفاوضات مع الخرطوم ثم ما لبث أن عاد للحركة مرة أخرى في عام 2001 وخلال تواجده في الحركة استطاع أن يضمن “للنوير” مركزا سياسيا في البلاد، وبعد الاستقلال حرص مشار على مقارعة سلطات الرئيس سيلفا كير مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية بين الدينكا والنوير.

لذا من غير الممكن بسهولة إزاحة مشار عن سلطاته السياسية، إذ سيحاول استعادة سلطاته مرة أخرى والتنكيل بمعارضيه إذ يمتلك خبرة كافية في التعامل مع الحركات والجماعات المتمردة مثلما فعل مع حركة الجنرال جون أثور