كتب – محمد الدابولي

ما زالت منطقة الساحل والصحراء حُبلى بالأزمات المزعزعة لاستقرار المنطقة والمحفزة لنمو نشاط الجماعات والميليشات المسلحة المتطرفة والداعية لانتشار التدخلات الدولية بها، فبعد شهر تقريبًا من اغتيال الرئيس التشادي “إدريس ديبي” خلال إحدى المعارك مع الجماعات المتمردة في شمال البلاد، والذي لعب خلال العقود الثلاثة الماضية دور الحارس في منطقة الساحل، شهدت العاصمة المالية باماكو أزمة سياسية جديدة مساء يوم الإثنين 24 مايو 2021، تمثلت في قيام الزمرة العسكرية التي دبرت انقلاب أغسطس 2020 ضد الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا باحتجاز الرئيس الانتقالي “باه انداو”، ورئيس الوزراء “مختار وان”ـ ووزير الدفاع “سليمان دوكوري” في ثكنة كاتي العسكرية.

خصر العاصمة

على مدار التاريخ السياسي لدولة مالي شكّلت ثكنة كاتي العسكرية التي تتموضع شمال العاصمة باماكو بحوالي 15 كيلو نقطة لانطلاق الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد، فلم تكد تمر 9 أشهر على انقلاب أغسطس 2020، حتى عاد قادة الثكنة من جديد ليدبروا انقلابهم الثاني في أقل من عام، كما لعبت الثكنة دورًا كبيرًا في انقلاب 2012 والذي كان سببًا في انهيار الأوضاع في منطقة الساحل بشكل عام.

انقلاب أم أزمة سياسية

سادت حالة من الارتباك السياسي حول توصيف الأحداث في مالي هل هي انقلاب عسكري؟ أم أزمة سياسية بين مكونات النخبة السياسية والعسكرية التي تولت إدارة البلاد بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق “إبراهيم أبوبكر كيتا” في أغسطس الماضي؟

لفهم الأزمة الحالية ينبغي العودة للوراء قليلًا، وتحديدًا مارس 2020 حيث إجراء الانتخابات التشريعية في البلاد وسط تأزم الموقف السياسي وقتها بين الرئيس الأسبق كيتا وأحزاب وقادة المعارضة، والتي كانت سببًا في اختطاف زعيم المعارضة وقتها سوميليو سيسيه على يد الجماعات المتطرفة.

وإزاء تصلب الموقف السياسي تفجرت الاحتجاجات الشعبية في 5 يونيو 2020 بقيادة الشيخ محمود ديكو الذي يعد واحدًا من أعلام دولة مالي وله حضور وتأثير طاغٍ علي الشارع السياسي في باماكو، ونتيجة لتواصل الاحتجاجات الشعبية والتي بلغت ذروتها في 10 يوليو الماضي باقتحام مبنى الإذاعة والتليفزيون، وتعالي سقف المطالب الشعبية المطالبة برحيل كيتا، أقدمت طغمة من قادة الجيش المالي على تدبير الانقلاب الرابع في تاريخ البلاد في أغسطس الماضي لوضع حد للاحتجاجات الشعبية.

رغم نجاح الطغمة العسكرية في الإطاحة بحكم كيتا إلا أن القوى المدنية والسياسية التي قادت الاحتجاجات لم تشعر بارتياح كبير تجاه اللجنة العسكرية التي شكلت إدارة البلاد بعد الانقلاب، ودعت تلك القوى إلى مزيد من الاحتجاجات مشكلة ضغطًا سياسيًّا كبيرًا على اللجنة العسكرية التي ارتأت في نهاية أغسطس 2020 الدخول في مفاوضات مطلولة مع قادة المعارضة، خاصة حركة 5 يونيو التي قادت الاحتجاجاتـ وعليه تم الاتفاق على خارطة طريق سياسية تتمثل في تعيين رئيس انتقالي للبلاد، وهو الجنرال السابق “باه نداو” الذي حظي بتأييد واسع من قبل الحركات الاحتجاجية.

على مدار ثمانية أشهر تقريبًا حاول الرئيس الانتقالي “نداو” تحقيق التوازن بين المكون والمطالب العسكرية في الحكومة، وبين المكون والمطالب المدنية السياسية، الأمر الذي أثار حفيظة القوى السياسية، خاصة في ظل استمرار أعضاء اللجنة العسكرية في إدارة البلاد، وعليه تمت إقالة الحكومة السابقة وتكليف رئيس الوزراء بتشكيل حكومة جديدة يغلب عليها الطابع المدني؛ إذ تم تخصيص حقيبتي الأراضي والتعليم لحركة 5 يونيو، وكان من المقرر أن تتجه الحكومة الجديدة للعودة إلى المسار الدستور وتنظيم انتخابات رئاسية في فبراير 2022، كما تمت إزاحة عناصر اللجنة العسكرية السابقة؛ مثل وزير الدفاع ساديو كمارا وموديبو كوني من تشكيل الحكومة، الأمر الذي أزعج اللجنة العسكرية ودفعها لاحتجاز الرئيس ورئيس الوزراء خلال الأيام الماضية.

وفي إطار الضغوط الممارَسة من قبل اللجنة العسكرية قدّم رئيس مالي باه نداو، ورئيس الوزراء مختار وان استقالتهما، وفي المقابل تم إطلاق سراحهما ليتولى السلطة بشكل منفرد العقيد أسمى غويتا رئيس اللجنة العسكرية، والذي سبق له أن تولى السلطة بعد عزل كيتا في أغسطس الماضي.

أزمة مركبة

يحمل الانقلاب الأخير في مالي في داخله أزمة مركبة بين ديناميات العمل السياسي والاجتماعي في مالي والعلاقة الملتبسة بين المكونين العسكري والمدني في المشهد السياسي في باماكو وبين خط التدخلات الدولية في إقليم الساحل والصحراء؛ إذ تذهب العديد من التحليلات والرؤى إلى تفسير الانقلاب الأخير على أنه واجهة لصراع قوى دولية كبرى على فرض النفوذ في منطقة الساحل والصحراء، وتحديدًا صراع فرنسي – روسي حول من يمتلك الكلمة الأخيرة واليد العليا في المنطقة.

تشير أبرز التحليلات التي تناولت الأزمة المالية -بدءًا من انقلاب اغسطس 2020 ونهاية بانقلاب مايو 2021- إلى رغبة روسية في إقصاء النفوذ الفرنسي عن منطقة الساحل، فمن المعروف أن الزمرة العسكرية بقيادة أسمى غويتا تلقوا تدريباتهم في موسكو ويتمتعون بعلاقات طيبة معها.

وتنسحب تلك الرؤية إلى محيط دولة مالي؛ إذ ترى أن الأحداث في مالي ما هي إلا خطوة في سبيل مد النفوذ الروسي في المنطقة والذي بات محسوسًا للغاية، خاصة في دول أفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية، ويعد النفوذ الروسي في أفريقيا الوسطى واضحًا للعلن خاصة بعد تدخل موسكو في أزمة الانتخابات الأخيرة دعمًا للرئيس فوستان آرشانج تواديرا ومنع سقوطه أمام الجماعات المتمردة، كما تأتي تلك الأحداث في ظل توالي الضربات للمصالح الفرنسية في المنطقة خاصة بعد اغتيال الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي في أبريل الماضي الحليف الأول لفرنسا في المنطقة والذي تدخلت باريس مرارًا وتكرارًا لإنقاذه من الاغتيال أو الانقلاب على حكمه منذ عام 2008 وإلى لحظه اغتياله.

وتذهب التحليلات المتداولة إلى أن الانقلاب الحالي جاء كرد فعل على إزاحة الزمرة العسكرية المحسوبة على روسيا، خاصة بعد تنامي الدور الفرنسي في مالي من جديد ومحاولة استعادة توازنها ونفوذها القوي من جديد في أفريقيا عمومًا ومنطقة الساحل على وجه الخصوص، فمؤخرًا حاولت باريس إعادة ترتيب أوضاعها في أفريقيا من خلال القمة الفرنسية الأفريقية الأخيرة والتي حملت عنوان” مؤتمر إنعاش الاقتصاد الأفريقي”، وفيه تم ضخ وعود براقة على شاكلة توفير 100 مليار دولار لدعم الاقتصاد الأفريقي في مواجهة تداعيات كورونا.

قلق فرنسي

تطورات الأيام الماضية -حتى قبل الانقلاب- تكشف فعليًّا عن قلق فرنسي متزايد من احتمالية تعرض مصالحها ونفوذها في منطقة الساحل لأزمات شديدة لصالح قوى أخرى تحاول إزاحة الدور الفرنسي في المنطقة، ويتضح ذلك في تصريحات رئيس أركان الجيوش الفرنسية الجنرال فرانسوا لوكوانترا لصحيفة لوفيجارو الذي أكد فيها على استمرار الانخراط الأوروبي في منطقة الساحل لمدة 10 أعوام إضافية، مرجحًا احتمالية تزايد الدور الأوروبي، وموضحًا دور أوروبا في إعادة بناء الجيش المالي.

كما وجه رئيس الأركان الفرنسي انتقاده للدعوات التي تصف الدور الفرنسي في أفريقيا بأنه “استعمار جديد”؛ إذ إن تلك الدعوات تتجاهل دور بلاده التي تنشر أكثر من 5 آلاف جندي لمواجهة التنظيمات المتطرفة في الساحل الأفريقي، ويرى أن تلك الدعوات ستتلاشى مع تحقيق المزيد من النجاحات.

ويبدو أن فرنسا تسعى لاستجداء الدعم الأوروبي لها في منطقة الساحل؛ فتصريحات رئيس الأركان الفرنسي ركزت بشكل أساسي على الدور الأوروبي بشكل عام وليس فقط الدور الفرنسي، كما تزامنت تصريحات المسئول الفرنسي مع زيارة قام بها وزير الدفاع الإيطالي لورنزو جويريني لكل من مالي والنيجر.

وأخيرًا.. لا يمكن فصل مستقبل الأزمة السياسية في مالي عن الأزمة الكلية التي تعيشها دول الساحل الأفريقي، فرغم أن الأزمة المالية تحمل طابعًا داخليًّا يتمثل في الصراع بين المكون المدني والعسكري في تشكيل الحكومة، إلا أن البعد الخارجي يظل هو المسيطر، وله اليد العليا في تشكيل الأنظمة السياسي في تلك البلاد نظرًا لهشاشة مؤسسات الدولة والقوى السياسية والمدنية بها، أي أن الأزمة في باماكو ستكون مرهونة بشكل كبير بالتنافس الفرنسي الروسي في أفريقيا.