كتبت – د. سمر الباجوري

أستاذ مساعد الاقتصاد كلية الدراسات الأفريقية العليا، جامعة القاهرة

حظي مفهوم الاستقرار السياسي باهتمام كثير من الباحثين المهتمين بقضايا التنمية الاقتصادية في أفريقيا. فظاهرة عدم الاستقرار السياسي واحدة من أكثر الظواهر السياسية شيوعًا في الدول النامية عمومًا والأفريقية على وجه خاص. وبالرغم من شيوع هذه الظاهرة ووجود ما يمكن أن يطلق عليه “إدراك عام” عن مفهومها، إلا أنه لا يوجد تعريف واحد متفق عليه للاستقرار/ عدم الاستقرار السياسي نظرًا لتعقد هذه الظاهرة وتشابك مكوناتها أو أبعادها. ففي حين قد يفسر البعض عدم الاستقرار السياسي على نحو ضيق بإعتباره يشير إلى عدم الاستقرار الحكومي، بمعنى التغيرات السريعة والمتلاحقة في مسئولي الحكومة. يفسره آخرين على نحو أكثر اتساعًا ليشمل عدم استقرار النظام السياسي نفسه، بمعنى التحولات السريعة في الإطار النظامي للدولة.

وتتناول هذه الدراسة بالتحليل العلاقة بين عدم الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في القارة الأفريقية، وذلك من خلال عرض لمختلف التعريفات لمفهوم الاستقرار/ عدم الاستقرار السياسي وكذلك بعض المفاهيم ذات الصلة به في السياق الأفريقي. ثم تحليل تأثير غياب الاستقرار السياسي على التنمية الاقتصادية بوجه عام وفي القارة الأفريقية على وجه خاص. ويلي ذلك استعراض لبعض القضايا أو الأزمات الحديثة التي هددت أو أثرت على الاستقرار السياسي ومن ثم التنمية في القارة الأفريقية وهي أزمة جائحة كوفيد-19 وأزمة سد النهضة.

أولًا: مفهوم الاستقرار السياسي:

بصورة عامة هناك ثلاث إقترابات لتعريف مفهوم عدم الاستقرار السياسي. ففي حين يعرف عدم الاستقرار السياسي في الاقتراب الضيق على أنه ميل أو قابلية الحكومات للتغيير. يعرفه الإقتراب الثاني على أنه التغير الحكومي أيضًا ولكن مع التركيز على هذا التغيير الذي يقترن بحدوث إضطرابات سياسية لها طابع غير سلمي أو يصاحبها أحداث عنف، مثل الإغتيالات السياسية أو التظاهرات أو الإعتصامات. أما الإقتراب الثالث فهو أكثر اتساعًا وشمولًا بحيث يتضمن حدوث تغييرات في السياسات العامة للدولة حتى الاقتصادية منها ليشمل أي مظهر من مظاهر عدم الاستقرار ولا يقتصر على الجوانب السياسية فقط (محمود، 2015).

وفي السياق الأفريقي يرتبط مفهوم عدم الاستقرار السياسي بدرجة أو بأخرى بمفهوم الدول الهشة Fragile State، والتي يمكن اعتبارها شكلًا متطرفًا من أشكال عدم الاستقرار السياسي. حيث تعرف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الدولة الهشة في تقريرها الأخير بأنها: “تلك الدولة التي تعاني من القابلية أو الانكشاف للتعرض للمخاطر في ظل عدم قدرة الدولة ونظامها ومؤسساتها على التكيف مع هذه المخاطر وادارة مواجتها والتعامل معها. وبذلك لا يقتصر مفهوم هشاشة الدولة وفقًا لهذا التعريف على الجوانب السياسية فقط بل يتعداها إلى المخاطر الاقتصادية والبيئية والأمنية المختلفة التي من شأنها أن تؤثر بصورة أو بأخرى على استقرار الدولة.

وكما يتعقد مفهوم عدم الاستقرار السياسي وتتشابك تعريفاته، تتعدد بالتبعية مؤشراته أو طرق قياسه وتقييمه. وفي هذا السياق طورت المؤسسات الدولية المهتمة بهذا الشأن مؤشرات مركبة مختلفة لتقييم وقياس الاستقرار السياسي وأبعاده المختلفة. فعلى سبيل المثال أصدر البنك الدولي مؤشر الاستقرار السياسي وغياب العنف Political Stability & Absence of Violence كأحد الأبعاد الستة لمؤشر الحكم الرشيد Governance Indicator والذي يشمل كذلك: التمثيل السياسي والمحاسبية، فعالية الحكومة، جودة الاجراءات، سيادة القانون، والسيطرة على الفساد. ويعرف مؤشر الاستقرار السياسي وغياب العنف وفقًا للبنك الدولي في هذا السياق باعتباره احتمالية زعزعة استقرار الحكومة أو الإطاحة بها بوسائل غير دستورية أو عنيفة. [1]

وبالنظر لقيمة المؤشر لدول أفريقيا لعام يلاحظ أن أكثر الدول التي تعاني من غياب الاستقرار السياسي في أفريقيا هي ليبيا والصومال وجنوب السودان حيث بلغت قيمة مؤشر الاستقرار السياسي فيها حوالي -2.5 وهي بذلك من أكثر الدول التي تعاني من غياب الاستقرار السياسي ليس فقط على المستوى الأفريقي بل على مستوى العالم ككل. وبشكل عام فإن مستويات الاستقرار السياسي في الدول الأفريقية وفقًا لهذا المؤشر متدنية فهناك على سبيل المثال 13 دولة أفريقية من بين أدنى عشرين دولة في مؤشر الاستقرار السياسي. كما أن كل الدول الأفريقية (باستثناء 5 دول فقط) تكون قيمة مؤشر الاستقرار السياسي فيها أقل من المتوسط العالمي لعام 2019 والذي بلغ 0.3.

شكل رقم (1)

مؤشر البنك الدولي للاستقرار السياسي وغياب العنف لعام 2019

شكل رقم (2)

مؤشر البنك الدولي للاستقرار السياسي وغياب العنف في الدول الأفريقية لعام 2019

المصدر: من إعداد الباحث من البيانات الواردة في قاعدة البيانات الإلكترونية للبنك الدولي في:

https://databank.worldbank.org/source/worldwide-governance-indicators/preview/on#

 هناك أيضًا مؤشر الدول الهشة Fragile State Index (FSI)، الذي يصدر سنويًا عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي منذ عام 2005.[2] فوفقًا للتقرير الاخير لمؤشر الدول الهشة لعام 2020 يلاحظ أن كل الدول الأفريقية باستثناء بتسوانا وسيشل تعاني بدرجة أو بأخرى من الهشاشة وعدم الاستقرار السياسي؛ فكلها تقع في الثلاث مستويات الدنيا لمؤشر الهشاشة، فأكثر من 70% من عدد الدول التي تقع في مستوى الحذر هي دول أفريقية، بل إنه من بين العشرة دول الأكثر هشاشة في العالم هناك سبعة دول أفريقية.

شكل رقم (3)

مؤشر هشاشة الدول لعام 2020

Source: https://fragilestatesindex.org

وفي السياق الأفريقي، تصدر مؤسسة محمد ابراهيم الأفريقية ما يعرف بمؤشر ابراهيم للحوكمة الأفريقية Ibrahim Index of African Governance (IIAG) والذي يصنف الدول الأفريقية حسب ممارسات حكوماتها في مجال الحوكمة وحقوق الانسان والاستدامة الاقتصادية، ويشمل المؤشر بذلك عدة أبعاد منها البعد الخاص بالأمن ويتضمن غياب مظاهر العنف السياسي وصور العنف ضد المدنيين والهجرة القسرية كما يشمل مؤشرات أخرى للحوكمة تتعلق بقدرة الدولة على ممارسة وظائفها الرئيسية وسيادة القانون. وبصورة عامة أظهر التقرير الأخير أن قيمة مؤشر الحكم الرشيد في أفريقيا قد اتخذ خلال عام 2019 اتجاهًا تناقصيًا لأول مرة منذ عشر سنوات حيث انخفضت قيمة المؤشر بين عامي 2018 و2019 في أكثر من نصف الدول الأفريقية، بينما أظهرت 34 دولة أفريقية فقط تحسنًا وكانت كل من موريشيوس وسيشل الدول الأفضل أداءً بين الدول الأفريقية التي شملها المؤشر. أما من حيث تحقيق تحسن في قيمة المؤشر فتأتي كوت الديفوار في مقدمة الدول التي حققت تحسنًا ملحوظًا في مؤشر الحكم بعد خروجها من فترة الاضطرابات السياسية والمدنية التي شهدتها مؤخرًا حيث تغير ترتيبها وفقًا للمؤشر من واحد وأربعين إلى اثنين وعشرين. تلتها كينيا التي ارتفع ترتيبها بثماني نقاط من المركز التاسع عشر إلى الحادي عشر مع خروجها من فترة الفوضى التي أعقبت الإنتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2017. أما الدول التي شهدت تدهورًا فتأتي في مقدمتها ليبيا التي انخفضت قيمة مؤشر الحكم فيها بحوالي 15.6 نقطة. وقد جاءت في المراكز الخمسة الأخيرة لهذا المؤشر كل من: الصومال، جنوب السودان، ليبيا، إريتريا، السودان (Mo Ibrahim Foundation, 2020).

شكل رقم (4)

مؤشر الحكم الأفريقي لعام 2020

ثانيًا: عدم الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في أفريقيا:

هناك علاقة تكاملية بين الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة. بحيث لا استقرار بدون تنمية ولا تنمية بلا استقرار. وقد اتفقت معظم الدراسات التي تناولت معضلة التنمية الاقتصادية في أفريقيا على ان غياب الاستقرار السياسي وهشاشة الدول الأفريقية يعد عاملًا محوريا من العوامل التي تعيق مسار التنمية الأفريقية. كما أن تحقيق التنمية الاقتصادية من شأنه ان يخلق بيئة مناسبة تدعم الاستقرار السياسي في الدولة.

وفي هذا الصدد يمكن تقسيم الدراسات التي تناولت العلاقة بين الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية إلى قسمين. القسم الأول من الدراسات هي الدراسات التي ركزت على أن التنمية هي السابقة، بمعنى أن تحقيق التنمية الاقتصادية هو شرط ضروري لتحقيق الاستقرار السياسي. ويستدل أنصار هذا الفريق على وجهة نظرهم بحالات كان فيها الفقر وشح الموارد وتراجع الأداء الاقتصادي للنظام وصراع النخب والجماعات على الموارد من أبرز مسببات عدم الاستقرار السياسي، ومن ذلك حالتي الكونغو الديمقراطية وسيراليون. ذلك أن عدم التقارب فى توزيع الدخول وما ينتج عنه من هيمنة جماعة واحتكارها للثروة على حساب غيرها من الجماعات عادة ما يؤدى إلى كثرة الاضطرابات وزعزعة الاستقرار السياسي للدولة. وعلى عكس ذلك ذهبت بعض الدراسات إلى أنه كلما ازدادت سرعة معدل التنمية الاقتصادية، زادت صعوبة تحقيق الاستقرار السياسي. ذلك أن التنمية الاقتصادية المتسارعة عادة ما تترك وراءها جماعات تظل غير قادرة على مواكبة الفرص الاقتصادية الجديدة، على نحو يشعرها بالاضطهاد وقد يدفعها للجوء للعنف بغية التعبير عن سخطها إزاء التنمية الاقتصادية التي لا تستطيع جنى ثمارها كما تفعل غيرها من الجماعات، وهو ما يولد حالة من عدم الاستقرار السياسي. ولكن قوبل هذا التحليل بالنقد نظرًا لكونه يتعارض مع خبرة بعض الدول التي زادت درجة الاستقرار السياسي فيها مع ارتفاع معدلات النمو وتحقيق التنمية الاقتصادية فيها وفى مقدمتها الدول الاسكندنافية (Arriola، 2009). إلا أن التجربة الأفريقية في كثير من الأحيان اتفقت مع هذا الاتجاه. فعادة ما ارتبطت معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة في الدول الأفريقية الريعية (خاصة الدول البترولية) بتراجع في مؤشرات الاستقرار السياسي وتزايد في معدلات الفساد السياسي والاقتصادي في إطار ما يعرف في الأدبيات الاقتصادية بالمرض الهولندي. إلا أن ذلك يمكن تفسيره في إطار أن ما حققته تلك الدول هو نمو اقتصادي بلا تنمية بمعنى زيادة في معدلات الدخول لفئات معينة دون غيرها ودون أن تستغل عوائد هذه الثروات الطبيعية بصورة فعالة في تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية في الدولة.

على الجانب الآخر، ذهب عدد كبير من الدراسات إلى أهمية عامل الاستقرار السياسي في تحقيق التنمية الاقتصادية في أفريقيا. باعتبار أن الاستقرار السياسي يعد شرطًا ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وأن غيابه يقوض أي جهود تنموية من خلال مجموعة من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة التي تؤدي في النهاية إلى فشل الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية. والحقيقة أن عدم الاستقرار السياسي يعيق التنمية الاقتصادية من خلال عدة مسارات بدئًا من تأثيره على معدلات النمو الاقتصادي في الدول من خلال تأثيره على محركات هذا النمو مثل الاستثمارات الأجنبية المباشرة ، تأثيره على الأسواق المالية، كفاءة وفاعلية السياسات الاقتصادية وغيرها. وانتهاءً بتأثيره على عمليات التنمية واستدامتها وشمولها من خلال تأثيره على بناء رأس المال البشري ومعدلات الفقر وعدالة توزيع الدخل واتاحة الفرص بشكل عادل لكل افراد المجتمع. هذا بالإضافة لما يتسبب به عدم الاستقرار السياسي في بعض الأحيان من زيادة معدلات النزوح واللجوء في الدول الهشة أو التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي. فغياب الاستقرار السياسي من شأنه أن يخلق بيئة من عدم التأكد في الأوضاع الاقتصادية والسياسية المستقبلية في الدولة وبالتالي يخلق بيئة غير جاذبة للإستثمار خاصة الإستثمار الأجنبي المباشر واللازم لسد فجوة تمويل التنمية في الدول الأفريقية. كذلك فإن عدم الاستقرار السياسي يشوه هياكل الإنفاق والإدخار المحلي في الدولة وسط انتشار أجواء عدم الاستقرار وغياب ثقة الأفراد في حكوماتهم. كذلك فإن عدم الاستقرار السياسي وما قد يتبعه من فساد سياسي واقتصادي يقوض فاعلية السياسات الاقتصادية اللازمة لتحقيق التنمية ويحرف مسارها إلى تحقيق مكاسب سريعة للطبقات والفئات المستفيدة في ظل بيئة عدم التأكد في مدى استمرارية هذه الفئات في الحكم لفترة أطول. كذلك فإن هذه التشوهات في السياسات الاقتصادية تنعكس في كثير من الأحيان في صورة ارتفاع في معدلات العجز الحكومي العام وارتفاع في معدلات المديونيةـ كما أنها تؤدي في حال استمرارها إلى تراجع معدلات التنمية البشرية نتيجة عجز تمويل هذه الاستثمارات وعدم وضعها على أجندة أولويات هذه الدول. وبذلك تكون المحصلة النهائية لغياب الاستقرار السياسي غياب التنمية الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر وتنامي حدة التفاوت في توزيع الدخول والفرص أو بمعنى أخر غياب تحقيق التنمية المستدامة الشاملة Sustainable Inclusive Development في الدولة.

وبذلك يمكن إجمال القنوات التي يؤثر من خلالها غياب الاستقرار السياسي على التنمية الاقتصادية في ثلاث قنوات أساسية، أولهما ما يتسبب به عدم الاستقرار السياسي من حالة من عدم التأكد تقوض الاستثمار المحلي والأجنبي وتؤثر سلبًا على الأسواق المالية. أما القناة الثانية فتتمثل في تشوه السياسات الاقتصادية النقدية والمالية في الدولة وعدم فاعليتها وانحرافها من استهداف تحقيق التنمية إلى تحقيق أهداف سياسية. أما القناة الثالثة فتتعلق بالتأثيرات الاقتصادية غير المباشرة لعدم الاستقرار السياسي من خلال تأثيره على مؤشرات رأس المال البشري مثل التعليم والصحة نتيجة انخفاض مخصصات الانفاق لتوجيهه عادة إلى الانفاق العسكري أو الأمني أو غيره من أوجه الإنفاق المرتبطة بأغراض وأهداف سياسية وكذلك تأثيره على معدلات الفقر.

ثالثًا: كوفيد-19 والاستقرار السياسي والتنمية في أفريقيا:

ألقت جائحة كوفيد-19 بظلالها على كل دول العالم النامية والمتقدمة مخلفة العديد من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على كل الدول، دفعت البعض للجزم بأن العالم اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا سيختلف هيكليا عما كان عليه قبل هذه الجائحة. ويمكن تحديد أهم تأثيرات جائحة كوفيد-19 على الاستقرار السياسي في محورين: أولهما: ما يمكن أن تتسبب فيه هذه الجائحة من سخط أو غضب شعبي جراء فشل العديد من الحكومات في التعامل مع أثارها الاقتصادية والصحية في الدول الأفريقية وعدم كفاءة الأنظمة الصحية؛ وثانيهما: استغلال العديد من الحكومات الأفريقية هذه الجائحة في إرجاء آجال استحقاقات انتخابية أو تمرير تعديلات دستورية أو قرارات حكومية في ظل انشغال الداخل بالجائحة.

فعلى سبيل المثال استخدمت بعض الدول جائحة كورونا لعدم الوفاء بالاستحققات الانتخابية كإثيوبيا، أو في تجميد الاحتجاجات الشعبية وإقصاء نخب سياسية بعينها كما حدث في الجزائر، كما استغلت الجائحة وأولويتها على المستوى العالمي لتمرير تعديلات دستورية سمحت لرؤساء بتمديد ولاياتهم مثل الحسن وتارا في كوت ديفوار، وألفا كوندي في غينيا، بينما قامت النيجر بتغيير في السلطة من داخل النظام، حيث ترشح وزير الداخلية والذراع اليمنى للرئيس المنتهية صلاحيته ولايته. (الطويل، 2021)

وقد أدت هذه التداعيات السياسية لجائحة كوفيد 19 إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي في هذه الدول بل أنها وصلت إلى ما يشبة الحرب الأهلية أو النزاعات المسلحة في حالات مثل إثيوبيا حين أدى تأجيل الإنتخابات العامة التي كانت مقررة في أغسطس 2020 إلى أجل غير مسمى، إلى اندلاع احتجاجات شعبية في الدولة، كما أعلن إقليم التيغراي في الدولة رفضه لهذا التأجيل وأجرى انتخاباته الخاصه في سبتمبر وسحب اعترافه بالحكومة الفيدرالية المنتهية صلاحيتها وتصاعدت حدة هذه التداعيات حتى وصلت إلى مواجهات عسكرية رسمية من قبل الحكومة ضد جبهة تحرير التيجراي وفي إقليم بني شنقول وأعربت القوميات الإثيوبية الأخرى قلقها من الوضع مما هدد عملية التعايش السلمي بين القوميات المختلفة المكونة للدولة الإثيوبية والمتناحرة تاريخيًا ويهدد مسار التنمية الاقتصادية في الدولة والذي بدأته منذ عام 2004.

كذلك تم استغلال الجائحة وما ارتبط بها من اجراءات احترازية في تضييقات أو خروقات انتخابية مثلما حدث في الانتخابات الرئاسية في أوغندا في يناير 2021. فوفقًا لدراسة (توفيق، 2021) شابت الانتخابات الرئاسية الأوغندية خروقات كثيرة من أبرزها فرض قوات الأمن الإقامة الجبرية على “بوبي واين” المرشح المنافس للرئيس الأوغندي “يوري موسوفيني” والتضييق على حملته الانتخابية تحت دعوى اتخاذ إجراءات احترازية لمواجهة وباء كرونا.

وفي نفس السياق، طرح مجموعة من الخبراء في مركز السيطرة على المخاطر تقريرًا مفصلًا لرصد أهم المخاطر السياسية الاقتصادية والأمنية الناجمة عن جائحة كرونا بالإعتماد على عدد من المؤشرات الكمية والكيفية مثل معدلات التضخم وأسعار الصرف ومؤشرات عن الاستقرار السياسي مثل عدد الهجمات الارهابية ومدى استعداد وقدرة قوات الأمن على الحفاظ على الاستقرار فضلًا عن أعمال الشغب والاضرابات كمؤشر عن المخاطر الأمنية ومعدلات الفساد وغيرها من مؤشرات الاستقرار. وفقًا لهذا التقرير فهناك عدة مخاطر رئيسية ناجمة عن جائحة كوفيد-19 هي: أولًا: ضعف الحكومات نتيجة فشل العديد منها في التعامل مع الأزمة والتقليل أو الحد من أثارها سواء بشكل منفرد أو تعاوني وهو ما أدى تقليل معدلات الثقة في هذه الحكومات. ثانيًا: التدهور الاقتصادي والضعف السياسي: فمع التوقف المفاجئ للنشاط الاقتصادي خلال الفترة الأولى للجائحة وسرعة انتشار المرض وتطوره ظهرت الاثار السياسية في صورة عدم الاستقرار الحكومي بشقيه السياسي والاقتصادي في العديد من الدول خاصة تلك البلدان ذات الائتلافات السياسية الهشة والبلدان التي تعتمد بشكل أساسي على الصادرات من الموارد الطبيعية وخاصة النفط في ظل التدهور الكبير الذي لحق بأسعاره مع الأزمة. وثالثًا: زيادة الاحتجاجات الجماهيرية، حيث توقع الخبراء أن انتشار الجائحة وفشل العديد من الحكومات على مواجهتها من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الاحتجاجات الشعبية المباشرة وغير المباشرة (من خلال شبكات التواصل الاجتماعي) (أبوزيد، 2020).

رابعًا: أزمة سد النهضة والاستقرار السياسي والتنمية في حوض النيل:

من الأزمات الأخرى التي تهدد واقع الاستقرار السياسي في أفريقيا خاصة في إقليم حوض النيل هي أزمة سد النهضة والممتدة منذ إعلان إثيوبيا بدء عمليات إنشاء سد النهضة في ابريل 2011 وما تلاه من اعلانها زيادة القدرة الاستيعابية للسد دون مراعاة حقوق دول المصب: مصر والسودان، أو وجود اتفاقيات حاكمة لعمليات الملأ والإدارة.

والحديث عن العلاقة بين أزمة سد النهضة والاستقرار السياسي وما يتبعه من تنمية اقتصادية هو حديث ذي شقين. ففي حين يهدد فشل عملية التفاوض عملية الاستقرار السياسي في الإقليم ككل كما ورد سابقًا؛ فإن نجاح عملية التفاوض وما يتضمنها من رضوخ للجانب الإثيوبي إلى مطالب دولتي المصب من شأنه أن يهدد عملية الاستقرار السياسي في الداخل الإثيوبي نفسه. فبالرغم من المنافع الاقتصادية للسد على عملية التنمية الاقتصادية المستدامة في اثيوبيا إلا أن حكومة أبي أحمد وطوال السنوات الماضية استطاعت بصورة أو بأخرى توظيف مشروع سد النهضة توظيف سياسي أكثر منه اقتصادي باعتباره المشروع المرتبط بالسيادة الإثيوبية واستعادة الدور التاريخي لإثيوبيا وذلك في مواجهة هشاشة الوضع الداخلي الاثيوبي وتناحر القوميات والعرقيات المختلفة. فوفقًا لدراسة (عبدالرحمن، حيلة جوبلز وسد النهضة، 2020) لجأت الحكومة الاثيوبية إلى تصوير السد في العقل الجمعي الإثيوبي وكأنه المفتاح السحري الذي سوف ينقل إثيوبيا إلى مصاف الدول الصاعدة. وهو ما دفع دراسة (عبدالرحمن، سد النهضة ونهج التسوية الجزئية، 2020) إلى التأكيد على أن أزمة سد النهضة تتجاوز الجوانب الفنية التي يمكن حسمها بالتفاوض، إلى كونها مسألة تتعلق بالسياسة والأيدولوجيا ومسألة التنافس الاقليمي خاصة بين مصر وإثيوبيا، فضلًا عن ديناميات السياسة الداخلية إزاء الضغوط المتزايدة وشعبوية خطاب سد النهضة السائد في الداخل الإثيوبي.

الخاتمة:

حظيت دراسة تأثير عدم الاستقرار السياسي على التنمية الاقتصادية في أفريقيا باهتمام العديد من الأدبيات الاقتصادية وخاصة تلك المهتمة بالشئون الأفريقية ذلك لأن كلا الظاهرتين ما زالتا من أهم وأخطر المشكلات التي تهدد استقرار واستدامة الدول الأفريقية.

وبصورة عامة اتفقت الدراسات على أن الاستقرار السياسي يعد ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية في القارة الأفريقية وإن اختلفت المسارات أو القنوات التي يؤثر من خلالها عدم الاستقرار السياسي على التنمية الاقتصادية سواء بشكل مباشر من خلال تأثيره على البيئة الاقتصادية واستقرارها وبالتالي تأثيره على الاستثمار الأجنبي المباشر ومعدلات الاستهلاك والادخار المحلية. أو بشكل غير مباشر من خلال تأثيره على النمو الشامل ومعدلات الفقر والتنمية البشرية في تلك الدول. مما جعل الدول الأفريقية تضع الاستقرار السياسي كحجر زاوية لخطط تنميتها سواء على المستوى المحلي او الاقليمي او القاري وهو ما ظهر جليًا في أهداف وتطلعات أجندة أفريقيا 2063 التي تبناها الاتحاد الأفريقي عام 2013 وخطتها التنفيذية العشرية الأولى.

وقد شهدت القارة الأفريقية مؤخرًا العديد من التغيرات الاقتصادية والسياسية التي أثرت بشدة على مستوى الاستقرار السياسي في دول القارة ركزت الورقة على اثنين من أبرزهما: جائحة كوفيد-19 وما تبعها من تأثيرات اقتصادية وسياسية على القارة الأفريقية واستقرارها السياسي ومن ثم تنميتها من خلال تأثيرها بشكل مباشر على الحياة السياسية الأفريقية ومسار الانتخابات وتداول السلطة في عدة دول أفريقية من جهة أو بصورة غير مباشرة من خلال ما أحدثته من أثار اقتصادية ذات طبيعة متفاوتة من شأنها أن تؤجج أو تتسبب في حدوث اضطرابات داخلية في الدول الأفريقية.

أما القضية الثانية فتمثلت في التطورات الأخيرة بشأن أزمة سد النهضة وما تمثله من تهديد مباشر للاستقرار السياسي ليس فقط في الأطراف الثلاث للنزاع وإنما يمتد أثره إلى إقليم حوض النيل ككل ويشكل تهديدًا حقيقيًا لقدرة الاتحاد الأفريقي في التعامل مع القضايا الخلافية الأفريقية في إطار الاتجاه السائد مؤخرًا في القارة الأفريقية لتبني مبدأ “الحلول الأفريقية للقضايا والمشكلات الأفريقية”.

الهوامش:

 

Arriola, L. R. (2009, October). Patronage and Political Stability in Africa. Comparitive Political Studies, 42(10).

Mo Ibrahim Foundation. (2020). 2020 Ibrahim Index of African Governance. MIF. Retrieved from http://mo.ibrahim.foundation/iiag/downloads

أبوزيد, ه. (2020) .  انتعاش غير متكافئ: السيناريوهات الأربعة لمخاطر أزمة كورونا. أبوظبي: المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

الطويل, أ . (2021, يناير). كيف أثر كرونا في المعادلة السياسية في أفريقيا. Retrieved april 2, 2021, from

إندبندنت عربية:

https://www.independentarabia.com/node/182316/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B7%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%A

توفيق, ن. (2021,  أبريل). المشهد الانتخابي في أفريقيا 2021: الأبعاد والسيناريوهات. متابعات أفريقية(12) .

عبدالرحمن, ح. (2020).  حيلة جوبلز وسد النهضة. القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

. Retrieved from http://marsad.ecsstudies.com/34785

عبدالرحمن, ح. (2020, أغسطس). سد النهضة ونهج التسوية الجزئية

. Retrieved from

قراءات أفريقية – تقارير وتحليلات.

محمود, ش. م. (2015). تداول السلطة والاستقرار السياسي في أفريقيا. القاهرة: مكتبة عبدالملك عودة الأفريقية.

 


[1] . ويتراوح قيمة مؤشر الاستقرار السياسي بين (-2.5 إلى 2.5) وكلما اقتربت القيمة من 2.5 كانت الدولة أكثر استقرارًا.

[2] ويستند التصنيف وفقًا لهذا المؤشر على مجموع درجات 12 مؤشر فرعي وتتراوح قيمته لكل مؤشر من الصفر ويدل على (الأكثر استقرارًا) إلى العشرة (الأقل استقرارًا) وبذلك تتراوح قيمة مؤشر هشاشة الدول من 10 إلى 120.[2] وتعكس المؤشرات الفرعية لهذا المؤشر ثلاثة أبعاد رئيسية لهشاشة الدول: البعد الاجتماعي ويشمل: الضغوط الديموغرافيةـ وحركة اللاجئين والنازحين، وهجرة العقول. والبعد الإقتصادي ويضم: مؤشرات التنمية الإقتصادية غير المتوازنة والتدهور الاقتصادي. والبعد السياسي ويشمل تجريم أو نزع شرعية النظام السياسي للدولة، والتدهورر التدريجي للخدمات العامة، والانتهاك الواسع لحقوق الانسان وأداء الأجهزة الأمنية وصعود النخب المنقسمة والتدخل الأجنبي في الدولة.