كتبت – أماني ربيع

تخيل أن تمنحك رؤية قطعة من النور في السماء مفتاحا لـ 30 يوما من الفرح من من السعادة المتصلة والبركة في الرزق ، ينتظر المصريون قدوم هلال رمضان بمحبة ووجد وكأنه مسبحة إلهية من 30 حبة نورها يسطع كألف شمس كل حبة تعادل يوما وكل يوم يعادل عيد.

لشهر رمضان في مصر روحا تخلب الألباب، وكل من زار المحروسة في الشهر الكريم لا يستطيع أن يفلت من السحر الذي يغلف الشوارع ويمنحها بهجة لا تراها في مكان غيرها، “أياما معدودات” يُدرك المصريون جيدا أن رمضان ضيفا عزيزا خفيفا ينتظرونه من العام إلى العام لذا يحرصون على إكرامه بل ويعتبرونه مكافأة وفترة استراحة وطمأنينة يمنحها الله عز وجل للمسلمين كي يتخلصوا من أعباء الحياة بفعل الخيرات والطاعة، لذا يمنحون رمضان تقديرا يليق بجلال فريضة الله التي تغشي القلوب بالرحمة.

الأديب الكبير يحيي حقي وصف كيف يستقبل المصريون الشهر الكريم في بدايات القرن الماضي بكتابه “من فيض الكريم”، باعتباره شهرا لطهير النفس والروح والبدن، وكيف يمتزج فيه الاحتفاء الشعبي بالفن والجمال والروحانيات، يبدو الجميع عند الخروج لرؤية الهلال، وكأنما شدت أبصارهم للقبة الزرقاء أرواحهم هائمة في العُلا بحثا عن الهلال، لم يكن هناك راديو أو تلفزيون ليعرفوا من خلاله، لذا كان الصغار والكبار يتجمعون خارج باب المحكمة الشرعية في سراي رياض باشا، حيث يجلس القاضي ينتظر وفود الرسل الذين خرجوا إلى مختلف المراصد ، لرصد الهلال، وما أن تثبت الرؤية حتى تدار أكواب العصير على الحاضرين وسط هتاف الصبية: “صيام صيام، بذا حكم قاضي الإسلام “.

سفرة ولمّة

يبدأ الإعداد لرمضان في مصر، منذ شهر رجب، حيث يحرص المسلمون على الاستعداد روحانيا للشهر الكريم بالإكثار من الصوم ومنح الصدقات في شهري رجب وشعبان، ومع انتصاف شهر شعبان تبدأ الأسر المصرية في الاستعداد بقائمة طويلة من المشتريات من الأطعمة المختلفة لتجهيزها ولتخزينها استعداد للشهر الفضيل.

تتضمن مشتريات المصريين “ياميش رمضان” و”الياميش” كناية عن الأطعمة الرمضانية الموسمية من التمور التي تقدم مع اللبن كمشروب للإفطار، بخلاف مشروب قمر الدين والعرقسوس والسوبيا والتمر هندي، والمكسرات بأنواعها لإعداد الحلوى الرمضانية الشهيرة الكنافة والقطايف.

ومن الأكلات الشهيرة في أول يوم رمضان التي تحرص الكثير من الأسر على إعدادها هي “محشي الكرنب وورق العنب” حيث يتم حشو أوراق الكرنب والعنب بخلطة من الأرز والخضار والصلصة، مع لحم البط أو أي من أصناف اللحوم.

لا يقتصر الإفراط الرمضاني في شراء الطعام على الأسرة فحسب، فرمضان هو شهر الكرم وكذلك “اللمة” ويعتبر فرصة للقاء العائلة والالتفاف حول مائدة واحدة واستعادة الذكريات، ودائما ما يكون الاجتماع أول يوم في بيت الأب أو الأخ الأكبر، حيث تتوافد نساء الأسرة كلها للمساعدة في إعداد العزومة الرمضانية الغنية بالأصناف الشهية، وأحيانا ما يقع ذلك على عاتق سيدة البيت وحدها، وتحضر الأخريات أصنافا أعددنها في المنزل.

ومن العادات المصرية الأصيلة في رمضان “الطبق الدوار” وهي عادة تعبر عن العلاقات المتينة بين الجيران والعائلات، حيث تقوم كل سيدة بيت بإعداد صنف تجيده من الحلوى أو الطعام عموما وتقدمه إلى الجارة أو أخت الزوج أو أي بيت تربطها به صلة قرابة، ومن ثم تعيد ربة البيت التي تلقت الطبق الأول، الطبق مجددا لكن ليس فارغا بالطبع وإنما بصنف آخرتجيده هي أيضا.

صُنع في مصر

هناك طقوسا خاصة بالشهر الكريم ترفع شعار “صنع في مصر”، من الفانوس إلى الكنافة وأغنيات رمضان والمسحراتي والزينة، وهي وإن وجدت في بلاد أخرى إلا أن لها طعما خاصة في شوارع مصر، حتى أن استطلاع رؤية هلال رمضان هي عيد في حد ذاتها بعدها يقوم الأطفال والشباب بإطلاق الألعاب النارية احتفالا بقدوم شهر الخير.

مع اقتراب رمضان يبدأ الشباب والأطفال في الشوارع في إعداد الزينة، البعض يقومن بتنفيذها بأنفسهم عبر تقطيع الأوراق الملونة إلى شرائط ولصقها بالغراء في حبال أو خيوط ثم مدها بين البيوت بعرض الشارع، مع تعليق فروع من الأنوار، بحيث تبدو الشوارع مضيئة ومبهجة حتى في الليل.

وتحرص الكثير من الأسر على تعليق الأنوار والزينة مع فانوس ضخم في الشرفات بحيث تتحول البيوت إلى “تابلوه” من الأنوار والألوان، فالشوارع لا تنام في رمضان، والتأخير مباح للجميع فتيات وشباب، لأن الشوارع تضج بالزحام والحركة للمحلات وعمليات البيع والشراء وكذلك الذاهبين والعائدين من المساجد للصلاة والاعتكاف، بخلاف العائدين من الزيارات العائلية التي تمتد لوقت متأخر.

وبخلاف ذلك تقوم الأفران بوضع المواقد التي يصنعون عليها الكنافة والقطايف والتي تعد طقسا ذا بهجة خاصة، بالإضافة إلى محلات الفول الذي يعتبر الطعام الرسمي للسحور في رمضان، وقدرة الفول من رموز رمضان الشهيرة في مصر، حيث يقدم الفول بخلطات مختلفة ولذيذة، ولابد كذلك من الزبادي أو اللبن الرائب من أجل راحة المعدة.

ولا ننسى مدفع الإفطار الذي يضرب من قلعة صلاح الدين الأيوبي لقاهرة، إيذانًا بالإفطار، ويعود تاريخه إلى إلى عام 1871، وهو عبارة عن ماسورة حديدة ترتكز على قاعدة حديدية بعجلتين كبيرتين من الخشب بإطارات من الحديد، والذي توقف إطلاقه منذ 30 عاما،  وسبق وتوقف هذا المدفع عدّة مرات على مدار التاريخ، حين تعطل أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، وتم إحياء فكرته مرة أخرى بالتزامن مع أعمال ترميم قلعة صلاح الدين الأيوبي عام 1985.

كما قلنا بخلاف الروحانيات، هناك جانبا احتفاليا شعبيا في استقبال رمضان، والغناء جزء من ذلك، وهناك أغانٍ أيقونية لا تُنسى رغم أنها صُنعت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مثل: “رمضان جانا للمطرب محمد عبد المطلب، وهاتوا الفوانيس يا ولاد لمحمد فوزي، ووحوي يا وحوي لأحمد عبد القادر، وأهو جه يا ولاد للثلاثي المرح”، هذه الأغاني هي الشعار الرسمي لرمضان حيث تصدح في كل مكان مع اقتراب الشهر الكريم وهي أغنيات مبهجة تتحدث عن فضل الشهر الكريم والخير فيه وسعادة الأطفال بفوانيسهم الجديدة.

وفانوس رمضان المصري لا يضاهيه فانوس بتصميمه الذي ينتمي للتراث الإسلامي سواء صنع من الصاج والمعدن أو الخشب، الفانوس أصلا كان لإنارة الشوارع ليلا في عهد الفاطميين، لكنه تحول إلى طقس احتفالي وبدا الأطفال يطوفون به في الشوارع للغناء والمطالبة بالحلوى، كما كانوا يصاحبون المسحراتي بفوانيسهم ويغنون معه “اصحى يا نايم وحد الداين”.

واليوم، يقوم عمال مهرة ورثوا الصنعة أبا عن جد في السيدة زينب والجمالية بتجهيز الورش والقيام بصناعة الفانوس من المعدن والزجاج الملون في أشكال تقليدية بكل الأحجام تقريبا من الضخم الذي يتعدى طوله متر إلى حجم الميدالية، حيث يقوم المصريون بشرائها لإهدائها للأطفال في العائلة وللاقارب وللزوجات.

تتحول شوارع منطقة السيدة زينب بجوار مسجد السيدة إلى شادر مفتوح بأقمشة الخيامية وزخرفتها الإسلامية وألوانها المبهجة بينما تُعرض الفوانيس التي تحول المنطقة إلى كرنفال ملون مع أغنيات رمضان في كل مكان، لا تبيع الشوادر الفوانيس فقط، وإنما قماش الخيامية الذي يُصنع في منطقة الجمالية والسيدة زينب والحسين حيث يحرص المصريون على تزيين بيوتهم بالمنتجات المتنوعة منها فروع الزينة، ومفارش الموائد والوسائد ومصغرات لعربات الفول ومواقد الكنافة، بخلاف الدمى الرمضانية المأخوذة عن شخصيات من أعمال رمضانية شهيرة منها “بوجي وطمطم” من مسلسل الأطفال الشهير و”فطوطة” من فوازير نجم الكوميديا المصري سمير غانم وغيرها.

ومن المظاهر الرمضانية المصرية الشهيرة المسحراتي الذي بدأت مهنته في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أمر أن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح وكان جنوده يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور، وكان أول من نادى للسحور”عنبسة ابن اسحاق” سنة 228 هجرية، مناديا “تسحروا فإن في السحور بركة”، ومن وقتها تحولت إلى عادة من الطرق بالعصا على الأبواب إلى استخدام الطبلة والغناء، يوقظ المسحراتي الناس طوال رمضان منتظرا العيد فيمر بالمنازل ليحصل على أجره نقود وحلوى وتهاني بحلول العيد.

ليالي قاهرة المُعز

وحدث عن ليالي رمضان في شارع المعز والقاهرة الفاطمية، هناك ترسم الحجارة عالما آخر فريدا يليق بعظمة تاريخ مصر وفرحة رمضان، هذا الشارع  الذي يبدو وكأنه قبضة أمينة على ثمين المعمار الإسلامي المميز لفترة العهد الفاطمي والمملوكي، مُتحفًا يفتح فيه الحجر أحضانه في رحلة تقرأ معها بحواسك الخمس تاريخا لم تذكره الكتب.

يحار زائر شارع المعز في أمره، هل هو متحف أو مجرد مزار أثري هل هو سوق تجاري ببساطة هو مدينة تاريخية متكاملة حطت رحالها في قاهرتنا الحديثة ببيوته ذات المشربيات تغويك وكأنها تخبئ وراءها حسناوات ألف ليلة وليلة، وشوارعه الشاهدة على سنين طويلة من عمر المحروسة.

نهرا من الجمال يتدفق في قلب القاهرة عصيا على الاندثار رغم زحف السنين وعشوائية البشر، إنه شارع المعز أكبر متحف مفتوح للآثار الأسلامية في العالم، لا ينام المعز في رمضان حيث يتحول إلى ساحة رمضانية مضيئة بامتياز، فمساجده عامرة بمصلي التراويح والمقاهي مليئة بالأصدقاء يتقابلون لشرب القهوة والشاي التي امتنعوا عنها طوال النهار، بينما بلجأ البعض إلى مطاعهم التي تقدم الأكلات المصرية التقليدية لتناول وجبات الإطار أو السحور في الخارج كنوع من التغيير.

كذلك تقدم البيوت التراثية حفلات للإنشاد الديني والمولوية، وغيرها من الأنشطة المتعلقة بالشهر الكريم، مثل قصر الغوري وبيت السحيمي في حارة الضرب الأصفر بشارع المعز.

وبعد الإفطار يزدحم الشباب والأسر في الشوارع للتصوير أو الصلاة، حيث يعتبر مجرد السير فيه نزهة تربط المصريون في الحاضر بتاريخهم الماضي.

أما صلاة التروايح التي تجعل الشوارع عبقة بنور القرآن، فهي قصة حب ووصل بين المسلمين وربهم في مصر، حيث تفتح المساجد أبوابها للمصلين الذين يتوافدون للصلاة التي يتم ختم القرآن خلالها على مدار 30 يوما، وتتسم صلاة التروايح في رمضان بالخشوع الشديد، خاصة مع اختيار إمام بصوت جميل يقرأ أيات الله فتهتز القلوب معه، ويعتبرون التراويح فصحة لتجديد الوصل مع الله والإمداد بالطاقة.

ومن المساجد الشهيرة التي يحرص المصريون على الصلاة فيها ولو مرة خلال رمضان مسجد عمرو بن العاص في منطقة مجمع الأديان وهو أول مسجد شيد في مصر وأفريقيا، ويتسم بسحر خاص ويفده المسلمون  في عادة قديمة بخاصة في ليلة 27 رمضان التي يعتقدون أنها ليلة القدر، والجمعة الأخيرة في رمضان، يأخذون إفطارهم ويبدءون في إحياء الليلة بالقرآن والصلاة حتى مطلع الفجر.

ويقول المؤرخ الجبرتي في القرن الثامن عشر أن الأمراء وأهل القاهرة والفسطاط وبولاق كانوا يحرصون على الصلاة في مسجد عمرو بن العاص، ونظرا للحشود الكبيرة التي تتجمع من أجل الصلاة، كان التجار والصناع يعبترونها فرصة لعرض بضاعتهم.

تحرص الجوامع خلال رمضان على انتقاء الأفضل صوتا لرفع الآذان وإمامة الصلاة، فالصوت العذب طريق إلى خشوع القلب والروح، ولعقود تمتعت مصر بأجمل الحناجر التي شدت بتلاوة القرآن أو بإنشاد التوشايح والابتهالات.

ومن الأصوات الرمضانية التي ارتبط بها المصريون قبل الإفطار هو صوت الشيخ محمد رفعت لقراءة قرآن المغرب، يعتبره الكثيرون سيد قراء هذا الزمان، ويُعتبر صوته إيذانا بدنو الإفطار، يخلق في الشارع حالة غريبة من الخشوع وعلى موسيقى حنجرته العذبة يوزع الشباب في الشوارع التمور وأكواب التمر هندي والعصير للصائمين اللذين لايزالون في الطريق إلى بيوتهم في عادة جميلة، حيث يجمع الشباب أنفسهم ويعدون العصير ويشترون التمور من أجل توزيع الطعام على كل من تعذر عليه الإفطار في منزله، بحيث لا يبقى جائع في الشارع.

وبخلاف الشيخ محمد رفع كان صوت المنشد سيد النقشبندي، دائما، صديقا لأسماعنا في شهر رمضان، بتواشيحه العذبة عند صلاة الفجر وقبل الإفطار، هو شيخ المداحين الذي كان يحلق بنا إلى السماء ويقربنا إلى الله، لُقب بكروان السماء والصوت الخاشع، ليصبح من علامات الإنشاد الديني في العالم العربي والإسلامي.

ولا ننسى من العادات المصرية الأصيلة في رمضان، موائد الرحمن وهي عادة سنوية حيث يجتمع فرد واحد مقتدر أو عدة افراد لإعداد مائدة في الحي الذي يعيش فيه يقدم فيها طعام الإفطار مجانا لغير القادرين وعابري السبيل والعاملين في المحلات الذين لا يستطيعون الإفطار في منازلهم، وهي من الأمور الجميلة التي تنشر المحبة والتآخي بين المصريين، حيث يتسابق المسلمون لفعل الخير ومساعدة الفقراء.

وبخلاف مائدة الرحمن يقوم المصريون أيضا من الموسرين بإعداد “حقيبة رمضانية” التي تضم سلع غذائية من بقول وأرز ولحوم وتوزيعها على الفقراء، وكذلك جمع التبرعات لبناء المستشفيات وعلاج المرضى ومساعدة المحتاجين.

رغم الحزن الذي ينتاب المصريين مع قرب انتهاء شهر رمضان، إلا أن فرحة استقبال العيد تمنحهم بعض التعزية، إذ تبدأ الأفران في الاستعداد لخبر “كعك العيد” والبسكوت والغريبة وأنواع الحلوى المختلفة بجانب حبوب الترمس التي تقدم في العيد، بينما يحلم الأطفال بملابس العيد الجديدة وألوانها المبهجة والأحذية البراقة، ليرتدوها صباح أول أيام العيد عند الصلاة، وهكذا كما حل رمضان بالفرحة يغادر أيضا بفرحة.