كتبت – أماني ربيع

لم يتوقع للفتى الذي نشأ في بيئة متواضعة ببلدة صغيرة في داكار عاصمة السنغال، أن يكون أول مدير أفريقي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»، منذ تأسيسها في نوفمبر 1945.

انتخب مبو، الذي يحتفل هذا الشهر ببلوغه عامه المائة، لولايتين من عام 1974 حتى عام 1987، وكانت فترة ولايته مربكة للغرب الذي أراد بسط هيمنته على الثقافة كما فرضها سياسيا، وكان مبو على وشك النجاح في إدارة اليونسكو لولاية ثالثة، لكنه خسر في انتخابات بدا وكأنها لعبة للتخلص منه بشكل ديموقراطي أنيق، من أجل تدجين المنظمة وإعادتها إلى سيطرة الغرب.

مئوية البروفيسور

وبمناسبة مئوية البروفيسور مبو أقيمت في متحف الحضارات السوداء في دكار، احتفالية كبيرة بهذه الذكرى تحت رعاية ولرئيس السنغالي ماكي سال، والملك محمد السادس ورؤساء دول:غينيا، ألفا كوندي، والنيجيري محمدو إيسوفو، والبوركينابي روش مارك كريستيان كابوري.

وخلال الاحتفالية تم افتتاح معرض عن حياة وعمل مختار مبو، كما تضمن برنامج الاحتفال ندوة عبر الإنترنت، نظرا لظروف جائحة كوفيد 19، ركزت بالخصوص على مواضيع متعلقة بـ “الرؤية الديناميكية للتعليم” عند أحمدو مختار مبو ، و”تساؤلات حول الثقافات الأفريقية” و”رسالة للشباب في حياة وعمل أحمدو مختار مبو”.

وقال الدكتور مبو في كلمته بهذه المناسبة، إنه ممتن للغاية وشاكر لكل من ساهم في تنظيم الحدث، ومن جهته عبر رئيس السنغال عن تمنياته بالصحة للبروفيسور الكبير وعن امتنان الأمة السنغالية لمكانته ومسيرته الرائدة.

وقال إن البروفيسور أحمدو مختار امبو الذي وصفه بـ “رجل الفكر والعمل” ، يعد ” نموذجا للمواطن المتميز بالنسبة للأجيال الشابة ولكن قبل كل شيء مثال للكرامة والنزاهة والكرم والوطنية والمحبة لأفريقيا”.

وتحدث في هذه المناسبة أيضا، الرئيس المالي السابق ألفا عمر كوناري ، بالإضافة إلى العديد من الشخصيات الأخرى منها المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي ، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي محمد موسى فقي.

وسلط المتحدثين الضوء على المسيرة المهنية الكبيرة للمدير العام الأسبق لليونسكو ومساهمته الكبيرة في تكريس الحفاظ على القيم النبيلة للثقافة والتراث .

وستتضمن احتفالية المئوية أيضا، ندوات وفعاليات عبر الإنترنت سيتم تنظيمها خلال أشهر مارس وأبريل ومايو.

لكن من هو رجل الاحتفالية الكبير، وما هي إنجازاته كي يعرفها شباب اليوم..

رحلة مناضل

ولد أمادو مختار مبو عام 1921،  تطوع مبو بالجيش الفرنسي، وخدم في فرنسا وشمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية، لكن ورغم بداياته البسيطة، نجح عام 1947 في اجتياز البكالوريا وسافر ليصبح طالبا بجامعة السوربون في باريس، ليتخرج عام 1951 بعد دراسته لعلم الجغرافيا.

فور تخرجه عمل بتدريس التاريخ والجغرافيا في السنغال، وبدأ عمله مع منظمة اليونسكو عام 1953، وشارك ببرنامج محو الأمية « Le Service de l’Education de Base».

 ثم تولى مسؤولية إدارة التعليم الأساسي بالبلاد من عام 1952 وحتى عام 1957، ثم أصبح في عام 1957 وزير التربية الوطنية والثقافة في أول حكومة سنغالية وطنية تتولى الشؤون الداخلية للبلاد، فيما عرف بفترة الحكم الذاتي الداخلي «1957- 1958»، واستقال بعدها ليصبح حرا في النضال من أجل استقلال بلاده عن الاستعمار.

وبعد حصول السنغال على الاستقلال، أصبح وزيراً للتربية من عام 1966 وحتى عام 1968، ثم وزيراً للثقافة والشباب من عام 1968 وحتى عام 1970.

انتُخب عضواً في المجلس التنفيذي لليونسكو عام 1966، وعُيّن مساعداً للمدير العام للمنظمة عام 1970، ثم شغل منصب المدير العام لليونسكو عام 1974، وأعيد انتخابه لولاية ثانية عام 1980.

في عام 1966 ، أصبح مبو عضوًا في المجلس التنفيذي لليونسكو وعمل مرتين، بين عامي 1966 و 1968، كمندوب رئيسي للبعثة السنغالية إلى اليونسكو، وفي عام 1970 أصبح المدير العام المساعد للتعليم في اليونسكو.

بعد أربع سنوات ، وهو في سن 53 ، أصبح مختار مبو، المدير العام لليونسكو ، ليصبح أول أفريقي أسود يرأس منظمة تابعة للأمم المتحدة، وأعيد انتخابه بالإجماع لولاية ثانية مدتها سبع سنوات في سبتمبر 1980.

حرب ثقافية

ورغم نجاح وخبرة مختار إمبو في مجال التنمية الثقافية بالمجتمعات النامية، كانت قيادته لمؤسسة كبيرة بحجم اليونسكو تابعة لمنظمة دولية عظمى كالأمم المتحدة مثارا لانتقادات الغرب، إلى حد انسحاب بعض الدول الكبرى من المنظمة حتى لا يتم انتخابه لولاية ثالثة.

حاول مبو خلال فترة عمله باليونسكو أن يخلص الثقافة من الهيمنة الغربية، وشهدت فترة توليه إدارة اليونسكو نشاطا ثقافيا كبيرا في مجاات الثقافة والإعلام والتبادل الفكري، وكان يهدف إلى أن تكون المنظمة مكانا لكل دول العالم دون تفضيلات، وأن تجد كل ثقافات العالم نفسها ممثلة في فضاء اليونسكو دون تمييز، وهو ما عكسته برامج وتوجهات المنظمة خلال تلك الفترة، وهو الأمر الذي أشعل الخلاف بينه وبين الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الحد الذي دفع الأخيرة للانسحاب من المنظمة.

كان مشروع مبو بالأساس هدفه منع هيمنة الدول الغربية وتحكمها في وسائل الإعلام والأخبار وتحويل الدول النامية إلى مجرد مستقبل، وقام بوضع نظام دولي جديد للمعلومات والاتصالات «NWIOCO»، يمنع الإعلام من الانحياز لوجهة النظر الغربية ومصالحها، وطالب بنزع السلحة النووية، واعتبار الصهيونية شكل من أشكال العنصرية، وطالب بحصول فلسطين على العضوية الكاملة باليونسكو، لتكون أول عضوية كاملة تحصل عليها فلسطين في منظمة أممية.

اعتبرت الولايات المتحدة والدول الغربية، هذه القرارات ذات الميول السياسية مناهضة للغرب، وتحيد عن المهمة الأساسية لليونسكو، ونظرًا لقلقها مما اعتبرته سوء إدارة وتحيز مناهض للغرب من قبل اليونسكو، طالبت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان بإصلاحات كبيرة ، وفي يوليو 1983، أعلن ريجان أنه ستكون هناك “مراجعة شاملة” للمشاركة في اليونسكو، ثم أعلن الانسحاب من المنظمة بحلول ديسمبر 1984.

بانسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو، فقدت المنظمة مصدرا مهما للتمويل، حيث كانت تساهم بنسبة 25% من الميزانية، هذا الانسحاب المفاجئ أحدث خللا في أنشظة وبرامج المنظمة، لكن بكل قوته كافح مبو لاستمرار عمل المنظمة وأداء دورها، ولعل ما ساعده في ذلك هو الفرصة التي أفسحتها أمريكا دون قصد لفرنسا كي تلقي بقلها الثقافي والحضاري والاضطلاع بدور أكبر في المنظمة التي يقع مقرها في باريس.

وفي الوقت الذي شكل أوج الحرب الباردة، دعم الاتحاد السوفييتي المنظمة، وكذلك اليابان، كما ازداد تواجد الدول النامية باليونسكو قوة،

واعتبرت فترة إدارته لليونسكو فرصة أعطت صوتًا مهمًا للدول النامية، ونمت عضوية المنظمة خلال إدارته من 135 إلى 158 دولة.

ومع ذلك استمرت المنظمة في أداء دورها في خدمة الثقافة العالمية، رغم الصعوبات المالية، ومن أنشطتها في ذلك الوقت: تشجيع الحوار بين الثقافات وتبادل التكنولوجيا والمعلومات، محاربة الفقر والأمية، رعاية التراث الحضاري والإنساني، والتأكيد على أهمية العلم واحترام عقائد الشعوب، والسعي لمواجهة تحديات العولمة.

كما قامت المنظمة في عهد مبو، بجهود رائدة للحفاظ على التراث العالمي من خلال لجنة التراث العالمي التابعة لها؛ حيث أصبح على قائمتها 690 موقعا في جميع أنحاء العالم.

حملة تشويه

استمر النقد الموجه لـ مبو، وكيف كان يدير اليونسكو – مع مغادرة كل من بريطانيا العظمى وسنغافورة المنظمة والعديد من الدول الأخرى التي أبدت تحفظات بشأن استمرار العضوية، بسبب إدعاءات حول مخالفات مالية وإدارية.

وصف مبو هذه الانتقادات بأنها “حملة تشويه حقيقية” يمكن أن يكون لها عواقب دولية بعيدة المدى، وفي مقابلة مع جون أوليري في ملحق التعليم العالي بلندن تايمز، أدان مبو هذا النزوح الجماعي وقال، “إذا غادر واحد أو اثنان أو ثلاثة أو حتى عشرة (دول) ، طالما أن الآخرين لديهم الإرادة لمواصلة التعاون الدولي ، لن يؤثر ذلك على المنظمة “.

مع استمرار تصاعد الانتقادات، أعلنت 26 دولة قرارها في فبراير 1986 بمعارضة إعادة انتخاب مبو لولاية ثالثة كمدير عام لليونسكو، وفي أكتوبر أعلن مبو بصورة مفاجئة أمام  المجلس التنفيذي لليونسكو أنه لن يترشح لولاية ثالثة، وقال: “من الضروري، وبغض النظر عن تكلفة ذلك، إخراج اليونسكو من العاصفة مع الحفاظ على وفائها بالديمقراطية”، بحسب نيويورك تيامز.

لكن  سرعان ما غير مبو رأيه وأعلن الترشح لولاية ثالثة، قوام بحملة، لكن عند اجتماع المجلس التنفيذي المكون من خمسين عضوًا في سبتمبر عام 1987 ، لم يتمكن من حشد الأغلبية اللازمة، وفي في 17 أكتوبر، قبل الاقتراع الخامس سحب مبو اسمه، بناءً على دعوة مندوبين من الكتلة السوفيتية كانوا قلقين بشأن النزوح الجماعي للدول من اليونسكو إذا أعيد انتخاب مبو. ف

في اليوم التالي ، تم اختيار فردريكو مايو زارجوسا، عالم الكيمياء الحيوية الإسباني ووزير التعليم السابق، ليكون المدير العام الجديد لليونسكو، وصوت لصالح مبو 20 عضوًا من أعضاء المجلس التنفيذي، معظمهم من الدول الإفريقية والعربية.

دفع مبو ثمن رفض تحويل نفسه ومنظمة اليونسكو إلى لعبة في يد النظام الدولي، فلم يجار الكبار، وسعى لتحقيق أهداف اليونسكو وتخليصها من أكاذيب وألاعيب السياسة، وهو ما جعله متهما بمعاداة الغرب وتهديد مبادئ الحريات والديموقراطية، ومن أجل ذلك سعى الغرب حثيثا لإفلاس المنظمة للضغط من أجل إقالته.

تكريمات ومؤلفات

حتى الآن لم تكتب سيرة ذاتية عن حياة أحمد مختار مبو، لكنه ألف بعض الكتب منها:”- مسح أولي لقرية “جايا” وقرى “سينوديبو وديمباكان”، 1955-1956، “انتحار أم بقاء؟ تحدي عام 2000″ عام 1978، ، و”من التشاور إلى الإجماع: اليونسكو وتضامن الأمم” عام 1981، “زمن الشعوب” عام 1982، “أي مستقبل لأفريقيا” عام 1990، “الجماعية والعلوم والتكنولوجيا في البلدان النامية: من أجل نهضة علمية لأفريقيا” عام 1992.

وحصل مبو على العديد من الأوسمة والتكريمات تقديرا لمساهماته في مجال التنمية الثقافية منها: وسام جوقه الشرف من رتبه قائد، نيشان الفنون والآداب من رتبه قائد، الدكتوراه الفخرية من جامعة شيربروك، الدكتوراه الفخرية من جامعة البوليتكنيك فى كاتالونيا، الدكتوراه الفخرية من جامعة لافال، الدكتوراه الفخرية من جامعة بكين.