كتب – محمد الدابولي

تأسس الاتحاد الأفريقي في يونيو 2002 لأجل مساعدة الدول والشعوب الأفريقية في تخطي أزماتها الداخلية والتي ابرزها تفاقم الصراعات والأزمات الداخلية من ناحية، ودعم وإرساء قيم الديمقراطية والسلام المجتمعي ومساعدة تلك الدول في تحقيق اندماجها الاجتماعي المنشود، ولتعاظم أهمية تحقيق السلم والأمن الأفريقي أسست الدول الأفريقية «مجلس السلم والأمن الأفريقي» في عام 2004 ليكون أحد الأجهزة الرئيسية التابعة للاتحاد الأفريقية ومهمته الأساسية تحقيق السلم والأمن في القارة.

مرت دول القارة الأفريقية منذ عقد الاستقلال وإلى اليوم بالعديد من أنماط الصراعات السياسية مثل التمردات، الحروب الأهلية والنزاعات الحدودية بين الدول الأفريقية وبعضها البعض، الأمر الذي أودى بالكثير من تلك الدول إلى حافة الهاوية وأفقد حكوماتها الوطنية على بسط سيطرتها السياسية على العديد من أقاليم تلك الدول وتحولها إلى دول فاشلة لا تتخطى مساحة سيادتها خارج حدود العاصمة ولنا في الحالة الصومالية إبان الحرب الأهلية خير مثال على ذلك وكذلك التجربة الليبيرية والإيفوارية.

منذ انتهاء الحرب الباردة تضاءلت فرص الحروب بين الدول الأفريقية نظرًا لتدخلات المجتمع الدولي والأفريقية في إيقاف تلك النزاعات باستثناء بعض الحالات مثل الحرب الإثيوبية الإرتيرية (1998 – 2000)، وفي المقابل تعاظمت الحروب الأهلية والتمردات الداخلية في العديد من الدول الأفريقية، كما برز نمط آخر  من الصراعات والحروب وهو المتعلق بمواجهة التنظيمات الإرهابية والتي برز تأثيرها خلال السنوات الماضية في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.

أسباب الصراع

تنوعت التعريفات المفسرة للصراعات السياسية داخل المجتمعات على أن أغلبها اتفق على أن الصراع هو حالة من عدم تقبل الآخر وانعدام فرص التعاون ووجود تضارب في المصالح والرغبات بين فردين أو جماعتين سياسيتين، الأمر الذي يدفع تلك الجماعات إلى محاولتها لاستثار المنافع لنفسها دون غيرها واستئصال حقوق ومزايا الجماعات الأخرى، الأمر الذي يدفع تلك الجماعات إلى الدخول في أتون الصراع المسلح والذي يبدأ عادة بالتوتر السياسي والتراشق والإعلامي ثم تعقيد الأزمة وأخيرا الحرب التي تدمر كل شيء.

تسكين الحرب

تطور مراحل الصراع السياسي يتوازى مع أيضا محاولات لإنهاء الحرب وإقرار السلام بين الأطراف المتحاربة، وعادة ما تدخل أطراف دولية وإقليمية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لأجل تحقيق ذلك، ومما يثير الأمر هو حدوت انتكاس عملية السلام والعودة مرة أخري إلى الحرب، ويرجع السبب في ذلك إلى عيوب تضمنتها عملية إحلال السلام، فضلا عن انعدام الثقة لدي الأطراف المتحاربة والتشكيك الدائم في نوايا الأطراف الأخرى وأن عملية السلام لم تراع مصالحهم وغير ذلك من الأسباب.

لكن ما يلفت النظر ليس انتكاس عملية السلام والعودة مرة أخرى لحالة الحرب وإنما إرساء السلام مع طرف لأجل فتح جبهة حرب جديدة مع أطراف أخرى، وكأنها محاولة لتسكين صراع قديم لفتح صراع جديد، وعادة ما نجد تلك الحالة في الصراعات والحروب الأهلية، إذ يلجأ النظام السياسي في بعض الحالات إلى تسكين أوضاعه مع عدو قديم من أجل فتح جبهة حرب جديدة مع عدو جديد يرى أنه المهدد الحقيقي لمصالحه السياسية، وفيما يلى سيتم التطرق إلى أبرز حالات تسكين الصراعات لفتح جبهات صراعية أخرى وهي كالتالي:

  • تسكين الصراع في القرن الأفريقي: شهدت منطقة القرن الأفريقي وتحديدا في عام 1998 اندلاع الحرب الحدودية بين إرتيريا وإثيوبيا حول منطقة بادمي،  ورغم انتهاء حالة الحرب بين الطرفين في عام 2000 إلا أن حالة التوتر والصراع ظلت قائمة بين الطرفين حتي عام 2018، وهو العام الذي شهد تحولات جذرية في منطقة القرن الأفريقي بدأت مع احتجاجات قومية الأورومو في إثيوبيااعتراضا على السياسات الحكومية المعتدية على حقوقهم التاريخية والسياسية، الأمر الذي تكلل في ربيع 2018 باستقالة الحكومة الإثيوبية بقيادة «ديسالين» وتصعيد الأورومي الأصل «أبي أحمد» ليكون أول رئيس وزراء أورومي لإثيوبيا.

مثلت عملية تولي «أبي أحمد» تحولا كبيرا في منطقة القرن الأفريقي، إذ لم يكتفي بالإطاحة برموز النظام السياسي المحسوب على رئيس الوزراء الراحل «ميليس زيناوي»، بل تطور الأمر إلى تخطي سياسات زيناوي في منطقة القرن الأفريقي خاصة العلاقة مع إرتيريا، إذ رأى أبي أحمد ضرورة تصفير وتسكين الصراع السياسي مع أسمرة والدخول توا في عملية السلام وهو ما تحقق فعليا في 5 يونيو 2018 وذلك عندما قرر أبي أحمد على الدخول في عملية السلام وانسحاب الجيش الإثيوبي من مناطق الصراع مع إرتيريا وتبادل الزيارات الرئاسية بين أبي أحمد وأسياس أفورقي رئيس إرتيريا، وبناء على جهود أبي أحمد في إرساء السلام مع إرتيريا توج بجائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2019.

لكن هل عملية السلام مع إرتيريا؟ كانت لأجل السلام واحقاق الأمن، أم كانت هناك دوافع أخري، في هذا الإطار يشير الكاتب والناشط من قومية التيجراي «يوسف غبريحيوت» في مقالته المعنونة The ‘peace’ that delivered total war against Tigray والمنشورة على موقع ethiopia-insight تحدث فيه على أن السلام مع إرتيريا كان لبداية حرب مفتوحة مع إقليم التيجراي، إذ يرى «جبريحيوت» أن عملية السلام مع إرتيريا كانت هدفا لأجل فرض الحصار علي إقليم التجيراي وعزله عن باقي مكونات المجتمع الإثيوبي.

ولعل وجهة نظر الكاتب التيجراي اتضحت بصورة كبيرة مع اندلاع الحرب الأخيرة التي اندلعت في الرابع من نوفمبر  2020 والتي أسفرت عن تمكن الجيش الإثيوبي من تدمير مراكز القوى وتمركزات جبهة تحرير التيجراي في مدينة ميكلي عاصمة الإقليم المشتعل واعتقال العديد من القيادات البارزة في الجبهة، ويلاحظ من الحرب الأخيرة تعاظم التعاون العسكري والسياسي بين أديس أبابا وأسمرة، إذ شاركت إرتيريا في الحرب بتأمين حدودها ومنع أية محاولات لجبهة تحرير التيجراي في استغلال أراضيها في مواجهة الجيش الإثيوبي، الأمر الذي في النهاية إلى اتهام جبهة تحرير التيجراي للجانب الإرتيري بمعاونة أبي أحمد في الحرب على الإقليم، وبناء على الدور الإرتيري في الحرب الأخيرة تعرضت العديد من المواقع والأهداف في إرتيريا لرشقات صاروخية أطلقت من اقليم التيجراي الإثيوبي.

  • تسكين الصراع لأجل السيطرة على السلطة: يعدمن أبرز صور تسكين الصراعات الداخلية في أفريقيا، إذ قد يلجأ رأس النظام السياسي في مرحلة ما إلى تسكين الصراع الدائر في البلاد ليس لتحقيق السلم والأمن الداخلي ولكن من أجل الاحتفاظ بالسلطة لأكبر فترة ممكنة، وفي هذا الإطار  يتضح نموذج دولة ساحل العاج خاصة مع رئيسها السابق «لوران جباجبو» ورئيسها الحالي «الحسن وتارا»، فجباجبو على سبيل المثال كان يعد من أبرز معارضي النظام السياسي في ساحل العاج طوال حقبة هوفييه بوانيهوهنري كونان بيديه ومطالبًا بإجراء الانتخابات الرئاسية والتعددية السياسية في البلاد.

ومع تولي جباجبو السلطة في عام 2000، دخلت البلاد في أتون حربا أهلية على خلفية مقتل قائد الانقلاب السابق في البلاد «روبرت جوي» في سبتمبر 2002 الأمر الذي أدي إلى اندلاع أعمال عنف وتمرد تطورت الأمور في مرحلة لاحقة إلى حرب أهلية ضروس أفقدت جباجبو السيطرة عن الكثير من أقاليم البلاد؛ إذ نجحت القوات المتمردة في السيطرة على الأقاليم الشمالية المحاذية للحدود مع بوركينافاسو، ودخلت الحكومة وقتها في مفاوضات سلام مع الجماعات المتمردة عرفت باسم اتفاقات ماركوسي أسفرت عن توقيع اتفاق انهاء الحرب في يوليو 2003 وتكللت اتفاقات ماركوسي بالنجاح في نوفمبر 2004 حينما بدأت الأطراف الإيفوارية في الدخول في عملية السلام.

يبدو أن دوافع «جباجبو» في دفع عملية السلام في بلاده لم تكن من أجل تكن من أجل انهاء الحرب واقرار  السلم بل من أجل توسيع سيطرته على الحكم، فرغم تجربته الشخصية في صفوف المعارضة إبان حكم هوافييه بوانييه ومعاناته من انسداد الأفق السياسي في البلاد ومنع عملية تداول السلطة لجأ جباجبو إلى غلق المجال السياسي بدأ من محاولة منع الشماليين من حقوقهم السياسية منع رموزهم السياسية من الترشح في الانتخابات بحجة أن أصولهم العرقية تعود إلى بوركينافاسو وليس ساحل العاجالأمر الذي أدخل البلاد في حرب أهلية ثانية في عامي 2010 و2011 حينما رفض جباجبو الاعتراف بنتائج الحرب الانتخابات الرئاسية والتي أسفرت عن فوز مرشح الجماعات المنتشرة في شمال البلاد “الحسن وتارا” برئاسة البلاد.

وأخيرًا.. من التجربتين السابقتين يتضح لنا أن دوافع مفاوضات وعمليات السلام لإنهاء الحروب في أفريقيا ليست في الغالب لأجل اقرار السلم والأمن، بل عادة ما تحمل دوافع أخرى في طياتها وأغلبها يكون من أجل فتح جبهات قتالية جديدة، لذا يجب على القائمين علي مبادرة «إسكات البنادق»، و«مركز الاتحاد الأفريقي إعادة الأعمار بعد النزاعات» ضرورة مراعاة الدوافع الحقيقة التي تلجأ إليها بعض الأطراف في تسكين صراع ما في أحد المناطق والحيلولة دون استغلال تسكين هذا الصراع لأجل الدخول في صراعات جديدة.