كتبت – أماني ربيع

“مسافر زاده الخيال.. والسحر والعطر والظلال

شابت على أرضه الليالي .. وضيعت عمرها الجبال

ولم يزل ينشد الديارَ .. ويسأل الليل والنهارَ

والناس في حبه سكارى.. هاموا على شطه الرحيب

آهٍ على سرك الرهيب.. وموجك التائه الغريب

يا نيل يا ساحر الغيوب..”

في طريق هجرته الطويل إلى الحرية بين أحضان البحر يشق النيل طريقه في صبر وأناة من يعرف هدفه جيدًا تقابله وجوه ووجوه.. حرارة شديدة تبخر ماؤه العذب فتتدلى الغيوم بالسماء في عناقيد تهب الصحراوات الصفراء خضار الحياة.

الشمس تنهار كقلب دامٍ خلف النخيل تتوارى لتغيب بين أحضان هابو، لتعود من جديد نشيطة مشرقة تلقي بنورها على النهر الناعس فتوقظه من سبات طال.

يرق الهواء وتلين الطبيعة كلما صعد إلى أعلى يشعر النيل بألفة عجيبة تغمره وجوه سمراء كالأبنوس أشبه بلوحات فنية حسناوات سمر يتدلين بجلابيبهن المزركشة يغسلن شعورهن وعقيرتهن ترتفع بأصوات عذبة، بينما الرجال في جلابيبهن البيض يشدون أشرعة مراكبهم بحثًا عن الرزق.

حطت رحلتك يا نيل في نوب -نوبو بلاد الذهب كما تعني الهيروغليفية- يتمطى النيل كأنما عثر على وطنه أخيرًا يود لو يتأخر في رحلته إلى البحر فيصغي إلى حكاية عروس الجنوب المصري البديعة.

أصالة وسحر

النوبة قطعة من روح مصر تسكن الجنوب نسيج خاص من الجمال ينسجم مع فسيفساء الروح المصرية المبدعة، التي شوهتها السينما لتختصر شخصية النوبي في السفرجي أو الخادم عثمان ذي اللكنة المضحكة.

لكن إذا ما قررت يومًا أن تذهب وتزور النوبة سيباغتك جمالها الطازج الفذ الذي لا يشبه شيئًا رأيته، يختلط اللون الأسمر مع خضرة النخيل وصفرة الرمال الذهبية وزرقة مياه النيل الصافية وبياض أشرعة المراكب في كرنفال بهيج من الألوان.

والنوبي أصيل في كل شيء لا يشبه أحدًا، حتى في عمارته البسيطة التي تبدو أشبه بالسهل الممتنع، بيوته رحبة أنيقة تتنافس في انسجام مع أترابها في الجمال، ولأنه مصري فموهبته الفطرية في إبداع الجمال حاضرة تبعثر ألوانها في موهبة فطرية فتكسو الأبنية برسومات طفولية أشبه ببنوراما للحياة اليومية في النوبة.

اقترابه من الطبيعة بعناصره التي استمدها من بيئته، جعلته بيت رحالة جابت شهرته الدنيا، فكان ملاذًا لعشاق التجديد بدءًا من المعماري المصري الراحل حسن فتحي الذي رأى في البيت النوبي ملاذًا للمواطن المصري من غلاء غابات الخرسانة الخانقة في المدينة، وعندما سألوه عن تبنيه واهتمامه بالطراز النوبي، قال إنه وجد فيه الحل الأمثل لتوفير بيت لكل فلاح فقير في الريف المصري، بتكلفة اقتصادية منخفضة تتناسب مع دخله بما لا ينتقص من حقه في أن يكون له بيت متين وواسع وجميل.

وصولا إلى المعماري الأمريكي الشهير مايكل جريفث، مصمم مدينة الجونة المصرية بالغردقة التي شيدت بوحي من الطراز النوبي.

ويبدو البيت النوبي، عادة أشبه بكتاب حكايات إنسانية ترويها الألوان والزخارف الفطرية الكريمة في إبداعها مثل كرم بانيها النوبي المصري الأصيل.

موسيقى الألوان

كان النوبي في الماضي يبني بيته عند سفوح الجمال اتقاء لغضب النيل وفيضانه، ويصف الرحالة «ديتون» عمائر النوبة عند زيارته أثناء الحملة الفرنسية عام ١٧٩٨، قائلا: ”الحجارة والرمل والطين تحط الأساس والجدران، بينما جذوع النخل تغطي سقفه الذي يُبنى على هيئة قباب من الطوب اللبن”.

والبيت النوبي تحفة معمارية يجمع في زخرفته تاريخ الحضارة المصرية، طابق واحد يرمي جذوره في الأرض ليترك براحًا إلى السماء التي لا يحب أن يبعده عنها شيء، يقابلك البيت بسور خارجي له بوابة من الطوب اللبن تعلوها باكية يغلقها باب خشبي، تقودك البوابة لفناء داخلي مكشوف يعرف في النوبة باسم «الحوش السماوي» يحتضن غرف المنزل في دفء ويضمن لهم حرية الحركة.

ولأن النوبي كريم بطبعه لا ينسى المندرة المخصصة لاستقبال الضيوف، تجاورها غرف النوم أو «القباوي»، ثم ينزوي في أحد الأركان «المخزن» الذي يحتوي احتياجات المنزل من غلال، ثم المطبخ أو «الديوكة»، فالحمام، وفي مواجهة بوابة المنزل في الفناء ترى «المزيرة» الخاصة بوضع «أزيار» الماء، والتي تضم ٣ عيون يوضع بكل منها «زير» مخروطي الشكل.

وتحترم العمارة النوبية خصوصية المرأة في مجتمع متحفظ، فنجد باب «نقادة» -كما يعرف عند عرب العليقات- أو «السر» -كما يعرف عند الكنوز والفديجا- وهو باب رئيسي خاص بدخول النساء والخروج منه، دون المرور بجوار المندرة.

أما نقوش المنزل النوبي فهي قصة بذاتها يتجلى فيها عشق النوبي لمزيكا اللون وأناقة الزخرف، في نقوش شبه غائرة تجمع أشكالًا هندسية برسومات للكواكب والنجوم، وترشق في الجدران أطباقًا خزفية باللونين الأزرق والأبيض اللذين يحملان دلالات تراثية لدى النوبي لمنع السحر والحسد.

شاشة موسمية

ولا تغيب لمسات المرأة النوبية فتجدها ممثلة في النظافة الشديدة التي تميز البيت النوبي، واهتمامها بالتفاصيل التراثية من سلال الخوص الملون وأشغال الخرز وأبسطة الصوف «الكليم» الملونة الجميلة.

بينما تؤدي الشـَالـوب -Elshalop او الأُولاَويـِر Olawir في البيوت النوبية دور الثلاجة، وهي عبارة عن وعاء من الجريد المزخرف لحفظ الطعام في الهواء الطلق يعلق في سقف البيوت ويبدو أشبه بثريات مدلاة.

وتزين جدران البيوت من الداخل برسومات نابعة من البيئة، فعلى الحائط الذي يوضع أسفله الزير يرسم منظرًا عامًّا للنيل والنساء يملآن منه الجِرار، وفي حوش البيوت يُرسم منظر لفرح نوبي أو رقصة أراجيد.

التمساح أحد الرموز المفضلة لدى النوبيين يرسمه على مدخل البيت اعتقادًا منهم في خرافة تقول إنها قادرة على طرد الشياطين والأرواح الشريرة، بينما ترسم بعض البيوت على جدرانها صورة صبي يرتدي البدلة العسكرية في إشارة إلى تقدم أحد الأبناء للخدمة العسكرية أو التحاقه بالجيش.

وجدران البيت النوبي أشبه بشاشة موسمية تتغير بتغير أحوال أهل البيت، فإذا خرج أحد أفراد المنزل إلى الحج ترسم لوحات للموكب المسافر إلى مكة مرافقًا لمحمل كسوة الكعبة الشريفة، جمل، طائرة، أو سفينة، رجل يقيم الصلاة أو يقرأ القرآن، وهكذا إذا ما جاء مولود جديد أو تمت مراسم زواج أو غيرها.

غرب سهيل

ومن أشهر نماذج البيوت النوبية قرية غرب سهيل التي حافظ أهلها على استمرارية التراث والعادات النوبية التي يتوارثها أهل النوبة جيلًا وراء جيل خوفًا من اندثارها، وبنيت بيوت القرية على تل مرتفع عن شاطئ النيل بما يقرب من 10 أمتار، ويكون الذهاب إليها صعودًا عبر درجات سلالم صخرية.

عند ذهابك للقرية التي أصبحت واجهة سياحية جاذبة، رغم حداثة عهدها بالسياحة فقد بدأت عام 2004، سترى المنازل أشبه بمتاحف معمارية مفتوحة حولها محال الهدايا التذكارية المصنوعة يدويًّا، من الطواقي المنسوجة بالخيوط الملونة وعقود الخرز والشيلان المزركشة وغيرها من المنتجات التي تنسجها الفتيات والسيدات النوبيات أمام المنازل الخلابة.

هذا بخلاف التوابل ومنتجات العطارة مثل الفول السوداني والكركديه والحناء والتمر، بينما الدكك الخشبية متناثرة أمام المنازل لجلسات العصاري أمام النيل، وأشبه بمقاهي تقدم المشروبات للسائحين.

ويؤدي اختلاط المنازل بالمحال إلى شعور دافئ لدى الزائرين بأنهم ضيوف في بيوت أصدقاء أكثر منهم في زائرين في منطقة سياحية، فالمنطقة أصبحت نموذجا مختلفا بعيدا عن السياحة الأثرية التقليدية لزيارة المعابد والآثار الفرعونية، فالسياح يختلطون مع أهل القرية بما جعلها “تريند” لدى المجلات السياحة العالمية لفرادة ما تقدمه.

 بالإضافة للسياحة العلاجية التي تتعلق بأمراض العظام والروماتيزم وغيرها من الأمراض التي تتطلب الدفن في الرمال الدافئة، وهي وجهة محببة في الشتاء لاعتدال جوها في ذلك الوقت.

واستطاعت القرية أن تحجز مكانًا لها بكل البرامج السياحية، خاصة مع تزايد عدد الفنادق بها والتي أصبحت جذابة للمشاهير ونجوم الفن والرياضة، كما أنها أصبحت رائجة لدى صناع السينما والتلفزيون لتصوير أعمالهم.

وهكذا صنع أهل النوبة من بيوتهم متاحفا للجمال والدفء والكرم.