كتب – محمد الدابولي

يبدو أن حبال الصبر السودانية تجاه اعتداءات ميلشيات الشفتا الإثيوبية على الأراضي السودانية واستهدافها لأفراد الجيش السوداني بصفة متكررة قد ذبلت، فلم يعد مقبولًا في الشارع السوداني السكوت عن حجم الإجرام والاعتداء الممارس تجاه الأراضي السودانية انطلاقًا من إثيوبيا.

فالحادث الأخير  الذي نفذته بعض العصابات الإثيوبية يوم الثلاثاء 15 ديسمبر 2020 تجاه أفراد الجيش السوداني في منطقة «جبل أبوطيور» والذي راح ضحيته بعض أفراد الجيش السوداني كان دافعًا قويًّا لتحرك الجيش السوداني واتخاذه خطوات عملية ملموسة تجاه تحرير التراب السوداني من الاستيطان الإثيوبي لمناطق شرق السودان منذ عام 1957.

وضعت قيادة الجيش السوداني نصب أعينها اتفاقية 1902 -الخاصة بترسيم الحدود بين إثيوبيا والسودان- موضع التنفيذ الفعلي، وإعادة بسط السيادة السودانية كاملة على ولاية القضارف عمومًا ومنطقة الفشقة الصغرى على وجه الخصوص، وبناء عليه تم الدفع بتعزيزات عسكرية إلى المنطقة الحدودية مع إثيوبيا، حيث استقبلت الفرقة الثانية الموكل إليها ضبط الحدود مع إثيوبيا قوافل الدعم والمؤازرة من قبيلتي «البني عامر» و«الحباب» المنتشرة في ولايتي كسلا والقضارف.

نجحت التعزيزات والتحركات العسكرية السودانية في بسط السيطرة السودانية على بعض المناطق في الفشقة الصغرى لأول مرة منذ 25 سنة تقريبًا، حيث نجحت القوات في تحرير مناطق معسكر خور يابس وخورشين وقلع اللبان وقرية أم الطيور، وما تزال التحركات العسكرية السودانية مستمرة حتى يتم الإعلان الرسمي عن  بسط السيطرة كاملة على منطقة الفشقة الصغرى وتحريرها من العصابات الإثيوبية المدعومة حكوميًّا.

عام التوتر

تميز العام الحالي بكونه عام التوتر في العلاقات السودانية الإثيوبية على خلفية أزمة منطقة الفشقة، ففي 28 مايو الماضي اعتدت ميلشيات الشفتا الإثيوبية على المشاريع الزراعية السودانية في منطقة بركة نورين والفرسان والاشتباك مع الفرقة العسكرية المتواجدة في المنطقة، ونتيجة هذا الاعتداء قام رئيس المجلس السيادي السوداني «عبدالفتاح برهان» بزيارة ولاية القضارف معلنًا إعادة انتشار الجيش السوداني في المنطقة، فيما أعلن المتحدث الرسمي باسم الجيش السوداني وقتها أن كافة الخيارات باتت مفتوحة أمام الجيش السوداني لاستعادة السيادة السودانية على المنطقة.

استيطان إثيوبي

نجحت أديس أبابا في بسط سيطرتها على مناطق شرق السودان في ولاية القضارف عبر تشجيع مواطنيها على استيطان تلك المناطق وطرد المزارعين السودانيين من أراضيهم مستغلين في ذلك عصابات الشفتا الإثيوبية التي وفرت الحماية الكاملة للمستوطنين الإثيوبيين في السودان، وأيضًا استغلال ضعف الحكومة المركزية في الخرطوم وعدم قدرتها على الدفاع علن أراضيها وانشغالها بالحروب الأهلية الدائرة منذ الثمانينات وإلى اليوم.

بدأت سياسة الاستيطان الإثيوبي في عام 1957 عندما شجعت أديس أبابا مواطنيها من قومية الأمهرا على التوغل داخل الحدود السودانية واستغلال أراضي الفشقة الصغرى (600 ألف فدان) التي تتميز   بخصوبة أراضيها ويشقها ثلاث أنهار  وهم باسلام وعطبرة وستيت.

توسعت إثيوبيا في مطلع التسعينيات في تشجيع مواطنيها على استيطان مناطق الفشقة وطرد المزارعين السودانيين مما أدي إلى اشتباكات دموية بين الطرفين في عام 1992، مما دفع الطرفان الإثيوبي والسوداني إلى الاتفاق على  إخلاء المنطقة من القوات المسلحة للبلدين وإيكال مهمة الدفاع عن المنطقة إلى كتائب الدفاع الشعبي من الطرف السوداني، وكتائب موازية لها من الجانب الإثيوبي.

يفسر البعض أن تلك الاتفاقية كانت بمثابة وثيقة تنازل عن الحقوق السودانية في منطقة الفشقة قدمها الرئيس المعزول عمر البشير  إلى إثيوبيا رغبة منه في استجداء الدعم الإثيوبي لنظامه السياسي الذي كان يواجه في ذلك الوقت أزمات متصاعدة سواء في الحرب في الجنوب أو تدهور علاقاته السياسية والدبلوماسية مع مصر خاصة بعد تورط نظامه في محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك في أديس أبابا في نفس العام.

وبعد ذلك لجأ النظام الإثيوبي إلى امتصاص الغضب السوداني من ارتفاع حالة الاعتداءات الإثيوبية عبر الدخول في سلسلة من المفاوضات والتفاهمات التي لا نهاية لها، ففي ديسمبر 2013 تم التوقيع على اتفاق بين الجانبين لاتخاذ التدابير اللازمة  لتأمين حدود الدولتين، وفي عام 2014 تم الاتفاق على تشكيل قوة مشتركة لمراقبة الحدود وفي عام 2018 تم الاتفاق أيضا على تشكيل لجنة مشتركة لتأمين الحدود وذلك عقب هجمات لميلشيات الشفتا على الحدود السودانية، وفي يناير 2020 جرت مباحثات بين وزير الدفاع السوداني والسفير الإثيوبي في الخرطوم حول سبل تسريع تشكيل القوة المشتركة التي تم الاتفاق عليها في عام 2018 لضبط الحدود بين الجانبين.

عزم سوداني

التحركات السودانية الأخيرة يغلفها الحزم والإصرار على ضبط الحدود وإرسال رسالة واضحة للجانب الإثيوبي بأن الخرطوم لن تسكت مرة أخرى على تلك الاعتداءات، كما يتضح لنا أن المجلس السيادي السوداني في تحركه الأخير تجاهل اتفاقية 1995 المكبلة لجهود الجيش في ضبط الأمن في ولاية القضارف، كما أن سياسة التسويف الإثيوبية لم تعد تجدي نفعًا مع الخرطوم.

ويتضح من التحركات الأخيرة عن تزايد احتمالات بسط سيطرة الجيش السوداني على الحدود مع الجانب الإثيوبي بشكل كامل وطرد مزارعي الأمهرا وعصابات الشفتا، وهو ما قد يضع النظام الإثيوبي تحت ضغط سياسي داخلي من قومية الأمهراالتي كانت تري توغلها في الأراضي السودانية عوضًا لها عن فقدانها السلطة والحكم في أديس أبابا.

التحرك السوداني الأخير ما كان له أن يتم بعيدًا عن التطورات الداخلية  والخارجية السودانية، فلأول مرة منذ استقلال السودان يتخذ الجيش السوداني خطوات ملموسة تجاه الاعتداءات الإثيوبية، فنتيجة رفع اسم السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات الدولية باتت قيادة الجيش السودانية أكثر تحررًا في اتخاذ القرارات التي من شأنها الدفاع عن السيادة السودانية كما أنه من المحتمل أن يشهد الجيش السوداني عملية تطوير وتحديث على المستوى التدريبي والتسليحي، وهو ما سينعكس على تأمين الحدود الشرقية مع إثيوبيا.

مآزق إثيوبية

يعيش النظام الإثيوبي مآزق سياسي كبير خاصة أنه لتوه خارج من حرب أهلية ضد قومية التيجراي نجح خلالها في السيطرة على مدينة ميكلي عاصمة الإقليم وهزيمة حركة تحرير التيجراي، مستعينًا بذلك بميلشيات قومية الأمهرا التي كان لها العامل الحاسم في حسم معركة التيجراي.

ميلشيات الأمهرا حاليًا باتت في مواجهة مع الجيش السوداني، الأمر الذي سيشكل ضغطًا على حكومة أبي أحمد التي تدين بالفضل للأمهرا في حسم معركة التيجراي، لذا يدور تساؤل: هل من الممكن أن تنجرف القيادة الإثيوبية إلى حرب إقليمية مع السودانية إرضاءً لميلشيات الأمهرا.

يبدو أن الجانب الإثيوبي سيحاول امتصاص الأزمة عبر تفسير الحوادث الأخيرة على أنها فردية ولا تمس جوهر العلاقات بين البلدين، وهو ما وضح في تغريدة أبي أحمد حول الحادث من ناحية، وتوجيه الاتهامات للقاهرة بالوقوف وراء تسخين الأوضاع في الفشقة، خاصة بعد المناورات المصرية السودانية المشتركة نسور النيل وسيف العرب التي جرت في نوفمبر 2020، كما يدرك النظام الإثيوبي حاليًا أن السودان بات يتمتع بقبول قوي في المجتمع الدولي خاصة بعد رفع اسم السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب واستعداد العديد من القوى الدولية لفتح علاقات جديدة وجيدة مع الخرطوم.

ماذا يجب أن يحدث؟

لحل الأزمة في شرق السودان والحيلولة دون تطورها ينبغي على الطرفين إلغاء معاهدة 1995 وإعادة انتشار قوات البلدين على الحدود لضبط الأمن والحدود، كما يجب على الجانب الإثيوبي ضبط ميلشيات الشفتا ومنعها من مهاجمة الحدود السودانية، وفي الجانب الآخر ينبغي على الحكومة السودانية استغلال رفع العقوبات عن البلاد في تطوير وتسليح الجيش السوداني ليكون قادرًا على صد تلك الهجمات، كما يجب التوسع في عملية الاستثمار في تلك المناطق لجذب الأيدي العاملة السودانية.