كتبت – د. أماني الطويل

مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

ربما يكون من الملامح اللافتة في العلاقات المصرية الجنوب سودانية، أنها سابقة على استقلال دولة جنوب السودان عام ٢٠١١، كما أنها امتلكت مساراتها الخاصة وقنوات تفاعلها تحت مظلة السودان التاريخي قبل وبعد استقلاله عام ١٩٥٦، وربما تكون بعض أسباب هذه الوضعية هي حالة الصراع التي كانت قائمة بين كل من مصر وبريطانيا في آتون معارك الاستقلال الوطني عن الاستعمار في منتصف الخمسينات من القرن الماضي والدور الذي لعبته مصر حتى تقاوم المشروع البريطاني في منح شمال السودان استقلاله، ومنعه عن جنوب السودان ليظل تحت سلطة الحاكم العام البريطاني، كما لعب الدعم الثقافي المصري للجنوبيين في السودان أيضًا دورًا مركزيًّا في جعل مسارات العلاقات الرسمية الحالية علاقات تتسم بنوع من القبول والدفء، ذلك أن مصر قد بدأت نشاطها الثقافي في جنوب السودان بإنشاء مدارس في ملكال ومناطق أخرى من الجنوب اعتبارًا من عام ١٩٥٣، كما كان لبعثات الأزهر خلال الستينيات دورًا مشهودًا في الرعاية الروحية للمسلمين من الجنوبيين والذين يشكلون تقريبًا ٢٠٪ من السكان حاليًا، كما يضاف ثالثًا الاهتمام المصري بالمنح الدراسية للجنوبيين منذ فترة طويلة، ذلك أن معظم النخب السياسية الجنوب سودانية تخرجت من جامعتي القاهرة والزقازيق، وهي السياسية المصرية الممتدة حتى الآن؛ إذ ينتشر الطلبة الجنوب سودانيين في الجامعات المصرية بمعدل يزيد عن ٦ آلاف منحة دراسية.

ويملك جنوب السودان لمصر قبل وبعد استقلاله أسبابًا متعددة لتكون دولة ذات أهمية استراتيجية، خصوصًا مع ما تملكه من معطيات في إطارين الأول المنظومات التعاونية التنموية القائمة على التوسع الزراعي والرعوي في دول حوض النيل وكذلك مشروعات تجميع الفواقد المائية في عدد من المستنقعات وزيادة الموارد المائية القابلة للاستخدام البشري في نهر النيل.

وتملك جنوب السودان أهمية كبيرة في استقرار/ أو عدم استقرار دول القرن الأفريقي وحوض النيل نظرا لحالة التشابك القبلي والعرقي بين جنوب السودان وجيرانه، وهذا الاستقرار له أهميته القصوى في ضمان الأمن الإقليمي، ويعد عنصرا من عناصر الأمن القومي المصري.

في هذا السياق تهتم هذه الدراسة بمحورين الأول طبيعة الدعم والاهتمام الذي تحظى به جنوب السودان على المستوى السياسي والاستراتيجي من مصر، وذلك في ضوء معادلات التنافس الإقليمي، وكذلك معادلات الاستقرار في دولتي السودان، وهو ما وضح خلال زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مؤخرًا لجنوب السودان، أما المحور الثاني فهو مجالات التعاون المصري الجنوب السوداني وآفاقها في التوقيت الراهن.

أولًا: التفاعل المصري الاستراتيجي مع جنوب السودان:-

واجهت مصر عددًا من المآزق الحرجة في تقدير مواقفها الاستراتيجية في أعقاب توقيع اتفاقية نيفاشا عام ٢٠٠٥ بين شمال وجنوب السودان، وفتحت الباب لاحتمال استقلال دولة جنوب السودان، وهو الاحتمال الذي كان مرجحًا في القاهرة في ضوء بيئة الاحتقان التي كانت متواجدة بين الطرفين في هذا التوقيت، وذلك إلى حد اندلاع الحرب بين شمال وجنوب السودان في أعقاب استقلال الأخيرة، فضلا عن طبيعة الدعم الأمريكي لاستقلال جنوب السودان.

ويمكن القول: إن تجليات هذا المأزق قد تبدت في عدد من العناصر نجملها في التالي:

١- ظهور مهددات استراتيجية للأمن القومي المصري بكافة عناصره، ذلك أن الاحتمالات المفتوحة على فوضى شاملة في السودان أو سيناريوهات التفتيت والتجزئة المستندة إلى منهج نيفاشا في تقاسم الثروة والسلطة, إضافة إلى أن وجود أدوار خارجية في تأجيج هذه الصراعات، بما يعني وجود بيئة محيطة بمصر تحمل عناصر عدم الاستقرار، وربما مهددات استراتيجية بما تنطوي عليه من نشوء صراعات مسلحة جزئية أو شاملة، وربما تنشيط عناصر الإسلام السياسي المتطرفة في السودان.

٢- حرمان مصر من تنمية وتطوير حصتها من مياه النيل في ضوء حالة الفقر المائي التي وصلت إليها, فعلى الرغم من أن موارد مصر من مياه النيل المتدفق من جنوب السودان لا يتجاوز 15%، إلا أن عدم استقرار الجنوب أو وجود نفوذ لاعبين إقليميين منافسين لمصر يعني حرمان مصر من استمرار العمل في عدد من المشروعات المائية المرتبطة بتطوير حصتها من مياه النيل مثل مشروع قناة جونقلى الذي من المتوقع أن تبلغ العوائد المصرية منه في حال تنفيذه حوالي 7 مليارات متر مكعب من المياه، وفي هذا السياق هناك تنافس بين كل من مصر وإثيوبيا على دولة الجنوب في ضوء رغبة إثيوبيا أن تنضم السودان إلى مطالب دول منابع النيل ضد كل من مصر وشمال السودان في أي مفاوضات مستقبلية بشأن مشروعات زيادة موارد النهر القابلة للاستخدام, أو تدشين إطار قانوني جديد بشأن تقسيم حصص المياه[1].

وكذلك الرغبة في ضمان موقف مساند لإثيوبيا في أزمة سد النهضة

٣- الضغوط المرتبطة بتدفق اللاجئين السودانيين في حالة نشوء صراعات مسلحة سواء بين طرفي اتفاقية نيفاشا أي شمال وجنوب السودان أو في نطاق أي منهما، بما يخلقه ذلك من تصاعد الطلب في مصر على المساكن والسلع الغذائية, وتصاعد الضغوط على البنى التحتية.

وطبقًا لهذه المعطيات يبدو الموقف المصري في سعيه لضمان استقرار مؤسسة الدولة في السودان من ناحية، وضمان المصالح المصرية فيها من ناحية أخرى، أمام توازنات حرجة, ففي الجنوب توجد شروط تأمين تدفق المياه متضمنة مشروعات مستقبلية تحتاجها مصر بشدة بعد أن وصلت إلى حد الفقر المائي. وفي الشمال هناك علاقات لا يمكن فصمها، وتحالفات مطلوبة مع المركز الحاكم لجميع التفاعلات الداخلية، والذي يعني انهياره تفتت الدولة، ويعني خسرانه لصالح الجنوب فقدان الحليف الأساسي في مواجهة دول منابع النيل التي تسعى لتقسيم جديد للمياه، لا تقدر مصر -لا حاليًا ولا مستقبلًا- على تكاليفه الباهظة[2].

من هنا تبلور الموقف الاستراتيجي المصري في نقطتين؛ هما الحرص على خلق علاقات تعاونية لا صراعية بين شمال وجنوب السودان، بما يعني ضمان الاستقرار في كل السودان التاريخي بما له تأثير على الأمن الإقليمي والمصالح المصرية، وأيضًا فتح فرص لمجالات التعاون التنموي مع كلا الدولتين، من هنا تبلور الموقف المصري في ضرورة تحقيق القاهرة لحالة من التوازن الدقيق في العلاقات مع كلا الدولتين، والسعي إلى إبراز القيمة الاستراتيجية لدولتي السودان لبعضهما البعض، في هذا السياق تم بلورة ورش عمل بالقاهرة في شهري إبريل وأغسطس من عام 2010 تسعى لمصلحة سودانية أساسية، وهي إبراز الاستقرار وتنمية التعاون بين دولتي السودان، خاصة وأن مناطق التماس الحدودي التي اندلعت بسببها الحرب بينهما تنطوي في حالة التعاون على منافع مؤكدة للطرفين كما تنطوي في حالة الصراع على تكاليف باهظة، حيث يعيش في مناطق التماس حوالي 8 ملايين نسمة, كما أنها تحوز على المناطق الأساسية لإنتاج النفط فضلًا عن الإمكانيات الزراعية والرعوية.

وبطبيعة الحال يذهب التقدير المصري إلى أن هذه العلاقات التعاونية سوف تنعكس إيجابًا على قدرات القاهرة في إدارة علاقات متوازنة مع الطرفين، ذلك أن تكاليف علاقات صراعية في السودان باهظة على مصر.

في ضوء هذا التوازن قاومت القاهرة بعض الأفكار المصرية في سياق النخبة تفترض سيادة استمرار للسيناريو الصراعي في السودان، وفي هذا السياق طَرَحَت أفكارًا من قبيل مطالبة دوائر صناعة القرار بترجيح خيار علاقات متميزة بالشمال مقابل الجنوب، وذلك بخلق علاقات تصل إلى حد الكونفدرالية بين مصر والسودان[3]، وذلك لاعتبارات متعلقة بالجوار المباشر والضرورات المرتبطة باستقراره, لكن هذا الطرح لدينا عليه تحفظات أساسية، منها ما هو متعلق بطبيعة هذا التحالف من كونه على أسس إثنية أي بين الشمال العربي المسلم, وبين مصر التي تحمل هويتها ذات المفردات، وهو الأمر الذي يعني بالضرورة بلورة تحالفات مضادة على أسس إثنية مخالفة (أفريقية) سوف تستجلب دعمًا غربيًّا وإسرائيليًّا, وينتج عنه اندفاع دولة الجنوب للتخندق في هويتها الأفريقانية. ويعني هذا أيضا خلق مشكلات وعداوات لمصر لا معنى ولا ضرورة لها في الساحة الأفروعربية عمومًا, وفي نطاق دول حوض النيل خصوصًا.

ثانيًا: اتجاهات السياسيات المصرية إزاء جنوب السودان

أ- على المستوى السياسي

استمرت مصر في دعم العلاقات التعاونية بين شمال وجنوب السودان، ومن هنا ساعدت في دعم الاتجاهات الداخلية أن تكون كل من الخرطوم وجوبا داعمتان لبعضهما البعض، وذلك بديلًا عن أن تكون إثيوبيا هي الراعي لحل أزماتهما على الصعيد الثنائي أو أزمات كل منهما على الصعيد الداخلي.

في هذا السياق خاضت مصر تضاغطًا سياسيًّا مع إثيوبيا التي قاومت وجود مصر في قوات حفظ السلام بجنوب السودان، وذلك خلال عامي ٢٠١٣- ٢٠١٤، ولكن نجت مصر في الأخير في تحقيق أهدافها، وذلك في إطار قرار الأمم المتحدة في مايو ٢٠١٣ بزيادة قوات حفظ السلام بجنوب السودان إلى ٥٣٠٠ عنصر[4].

في هذا السياق شجعت مصر إقرار السلام في جنوب السودان عبر التواصل مع طرفي الصراع سلفا كير ورياك مشار، واهتمت بطرح الموضوع على مجلس السلم والأمن الأفريقي كما التقى الرئيس السيسي بالطرفين لدعم عملية السلام بينهما بعد اندلاع صراعات عسكرية أخذت طابعًا قبليًّا عنيفًا في يناير ٢٠١٣ أسفرت عن نزوح مئات الآلاف فضلًا عن كثير من الضحايا، وانتهت بتوقيع اتفاق للسلام عام ٢٠١٧، فدعمت القاهرة أن تكون محطات توقيعه الأساسية بالخرطوم، ودعمه بشكل شخصي الرئيس السابق عمر البشير إلى الحد الذي أثار هاجسًا بجوبا بشأن فرص استمرار الدعم السوداني لاتفاق جنوب السودان بعد قيام الثورة السودانية وخلع البشير عن سدة الحكم وعقدت ورشة عمل بجوبا بهذا الشأن[5]، كما استمرت مصر في متابعة سير هذه الاتفاقية في الاتحاد الأفريقي عبر ممثلها في الاتحاد سفيرها في إثيوبيا مطالبة المجتمع الدولي بالوفاء بتعهداته المالية في رعاية الاتفاقية ومتابعة تنفيذ الاتفاقية[6].

وعلى صعيد موازٍ بذلت القاهرة مجهودًا كبيرًا بشأن مقاومة رعاية إثيوبيا لاتفاق السلام السوداني، ودعمت جوبا في أن تكون هي عاصمة رعاية اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية السودانية، وهو الأمر الذي يفسر رفض إثيوبيا واسطة د. عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني بين آبي أحمد والتيجراي في مطلع نوفمبر ٢٠٢٠.

ويمكن التعرض لمجهودات القاهرة تفصيلًا، وهي التي احتضنت اجتماعين للقوى السياسية والحركات المسلحة السودانية على مدى ثلاثة أسابيع مقسمين بين شهري سبتمبر وأكتوبر ٢٠١٩، وقد حضر هذه الاجتماعات في منتجع العين السخنة، القوي السياسية السودانية في إطار تحالف نداء السودان، ومنها حزب الأمة القومي بزعامة المرحوم السيد الصادق المهدي، كما حضرت الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال برئاسة مالك عقار، وحركة تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي، وحركة جيش تحرير السودان – المجلس الانتقالي برئاسة الهادي إدريس، وحركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم، وتجمع قوى تحرير السودان برئاسة الطاهر حجر، والحركة الشعبية – قطاع الشمال برئاسة عبد العزيز الحلو.

وقد اهتمت هذه الاجتماعات بتوحيد فصائل الجبهة الثورية وترتيب أجندة التفاوض بين الأطراف طبقا للأولويات التي يطرحونها، وفي ضوء خبراتهم التراكمية في التفاعل السياسي مع الخرطوم، وكذلك متطلبات تحقيق السلام على المستويين المالي واللوجستي، وهي ملفات شارك فيها كل من دولتي الإمارات وتشاد.

ويمكن القول: إن القاهرة قد ركزت مجهودها فيما يتعلق بلمف الترتيبات الأمنية الذي هو تقليديًّا من أعقد الملفات في أي اتفاقية للسلام -خصوصا في أفريقيا عمومًا، والسودان خصوصًا- وذلك لسببن الأول أنه غالبًا ما تكون الحركات المسلحة أو المتمردة لها انتماءات عرقية أو جهوية أو الاثنين معًا، مغايرة للدولة، وهؤلاء يطلق عليهم في السودان قوى الهامش، أما السبب الثاني فهو فقدان الثقة بين الأطراف والقائم على خوضهم لعمليات عسكرية ضد بعضهم البعض، فتكون ذاكرة الجميع محملة بالضغائن والآلام الإنسانية، وقد كانت وجهة النظر السائدة في ملف الترتيبات الأمنية، ترتبط بإعادة دمج قوات الحركات داخل جيش نظامي واحد، وأن يضم داخل أعضائه جميع المكونات السودانية، وتوزع المناصب بين الجميع دون تفرقة.

ورأى آخرون ضرورة أن يكون الاندماج مبنيًّا على أسس تبدأ منذ تغيير إجراءات القبول بالكليات العسكرية، ومرورًا بتطبيق سياسة التمييز الإيجابي لقوات هذه الحركات بما يساهم في تسريع دمجها، على أن يكون ذلك في ظل وجود باقي المجموعات المسلحة؛ مثل الدعم السريع والدفاع الشعبي وحتى بعض جيوش القبائل التي تمتلك السلاح.

في هذا السياق انحاز عبدالعزيز الحلو زعيم الحركة الشعبية قطاع الشمال، والذي يملك أكبر القوات العسكرية، ولم ينضم لاتفاق جوبا بعد إلى ضرورة الربط بين ملف السلام وملفات المساواة والمواطنة الأخرى والمرتبطة بالدمج في مؤسسات الدولة السياسية بجانب تمكين أبناء الهامش من الثروات الاقتصادية في مقابل إحداث تقدم بالتوازي من حيث تقليص أعداد القوات العسكرية ودمجها خطوة تلو الأخرى داخل المؤسسة العسكرية الوطنية، ويدعم ذلك  عبدالعزيز الحلو الذي يمتلك أكبر قوة مسلحة.

وبطبيعة الحال ينحاز المنتمين للمؤسسات العسكرية إلى تسريح غالبية هذه الجيوش غير المدربة والمستعدة للمشاركة في المؤسسات النظامية، مع ضم من هم أصحاب كفاءة داخل الجيش السوداني، لأن التوصل إلى سلام يغني الحاجة إلى وجود السلاح بيدهم من الأساس، كما أن دمجهم يؤدي بشكل تدريجي إلى التخلي عن السلاح.

وفي إطار هذا التباعد بين وجهتي نظر المركز السوداني وقوي الهامش بذلت الجهات الأمنية المصرية مجهودات على مدي عام، عبر وفود متخصصة تواجدت في جوبا عاصمة جنوب السودان، كما زار جوبا السيد رئيس المخابرات المصرية عباس كامل أكثر من مرة في إطار اتفاقية سلام جوبا، وهي التي خلصت في ملف الترتيبات الأمنية إلى تشكيل قوات مشتركة تحت اسم القوى الوطنية لاستدامة السلام في دارفور، مهمتها حفظ الأمن وحماية المدنيين ونزع السلاح في الإقليم، على أن تتكون هذه القوى من الجيش والشرطة والدعم السريع وقوات من حركات الكفاح المسلح.

وأكد اتفاق الترتيبات الأمنية على معاملة شهداء الحركات المسلحة، خلال فترة الحرب في دارفور، أسوة بشهداء الجيش السوداني، كما نصّ على تشكيل لجنة خاصة لمتابعة ملف أسرى الحركات المسلحة ومفقوديها، وإجراء المحاسبات القانونية حال ثبوت تصفية المفقودين وعدم معاملهم كأسرى حرب، وكذلك تم الاتفاق على معالجة جرحى الحركات المسلحة في دارفور ورعايتهم.  

وحول هيكلة القوات المسلحة، اتفقت الأطراف على إجراء إصلاحات تدريجية في تلك القوات، بما يضمن تمثيل كل الأقاليم، وخاصة المهمشة، وفي كل الرُّتب بما في ذلك العليا منها، كما نص الاتفاق على تكوين عقيدة عسكرية جديدة للقوات المسلحة السودانية تستوعب التنوع العرقي والجهوي السوداني.

ب- على المستوى التنموي

حرصت القاهرة على بناء علاقات تعاونية منفصلة مع جنوب السودان حتى قبل استقلاله عام 2011، وقد دشّن هذا الملف بزيارة من جانب رئيس الجمهورية الأسبق حسني مبارك إلى جنوب السودان عام 2008, حيث تتراكم هذه العلاقات التعاونية لتصل قيمتها حوالي ملياري دولار[7]، وذلك في مجالات دعم البنى التحتية خاصة بالمجال الصحي، وافتتحت وزيرة الصحة المصرية مؤخرًا توسعة للمستشفى المصري بجنوب السودان، كما قدمت مصر 19 طنًّا من المـُساعدات الطبية اللازمة لـمُواجهة جائحة كورونا، بجانب جسر جوي لنقل 82 طنًّا من المساعدات الإغاثية العاجلة لتجاوز الأثر المدمر للفيضانات الأخيرة، وذلك فضلًا عن زيادة عدد وحدات غسيل الكلى من وحدتين إلى ثمانية، وإرسال وفد طبي لتشغيل مركز الغسيل الكلوي لمدة شهرين اعتبارًا من أبريل 2018، وتدريب طاقم طبي جنوب سوداني على تشغيله، فضلًا عن إرسال قافلة طبية إلى مدينة ”واو”

أما على مستوى وزارة الري فقد تم التعاون الثنائي عام ٢٠٠٦؛ أي في أعقاب عقد اتفاقية نيفاشا عام ٢٠٠٥ وقبل استقلال الدولة، وقد قام د. محمد عبدالعاطي -وزير الموارد المائية والري- بزيارة لجنوب السودان، في سبتمبر الماضي، وذلك لتفقد سير العمل في مشروعات محطات الآبار الجوفية التي تقيمها الوزارة حاليًا في مدينة جوبا لخدمة الأهالي والمواطنين بجنوب السودان، حيث دُعّمت مذكرة تفاهم ٢٠٠٦ ببروتوكول التعاون الفني بين البلدين في 28 مارس 2011، وهو البرتوكول الذي أسفر عن تنفيذ ثلاثة مشروعات بجنوب السودان مع شركة المقاولون العرب بمنحة مصرية قيمتها 7.2 مليون دولار، وتتضمن المشروعات الثلاثة إنشاء مرسى نهري في مدينة بانتيو عاصمة ولاية الوحدة لربط الولاية بولاية غرب بحر الغزال ملاحيًّا، وتأهيل 3 محطات لقياس المناسيب والتصرفات بحوض بحر الغزال، بالإضافة إلى إنشاء محطة طلمبات على نهر الجور بمدينة واو عاصمة ولاية بحر الغزال لتوفير مياه الشرب.

وقد تعززت العلاقات الثنائية بين مصر وجنوب السودان بتوقيع اتفاقية التعاون الفني والتنموي في نوفمبر 2014 بالقاهرة، بحضور رئيسي الدولتين.

في هذا السياق تم افتتاح محطة قياس المناسيب والتصرفات بمدينة “منجلا” الواقعة على بحر الجبل والتي يرجع تاريخ إنشائها إلى عام 1905، حيث تم تأهيلها وتزويدها بأحدث الأجهزة والمعدات لتوفير البيانات والمعلومات للمشروعات التنموية، كما تم تزويدها ببئر جوفي مزود بشبكة صنابير عمومية لخدمة المواطنين في الحصول على مياه الشرب النظيفة في المدينة. وأيضًا تم الانتهاء من تنفيذ محطة مياه بمدينة “واو” لتوفير الاحتياجات المائية للاستخدامات المنزلية والثروة الحيوانية والأهالي، وتقوم مصر حاليًا بإنشاء مشروع المرسى النهري بمدينة كواجوك عاصمة ولاية “جوجريال” بجمهورية جنوب السودان، الذي يهدف إلى تنشيط الملاحة النهرية بين المدن الرئيسية في حوض بحر الغزال وتعزيز التجارة البينية بينها ضمن حزمة من مشروعات تنموية تتماشى مع متطلبات المرحلة الحالية لجوبا بمنحة مصرية قدرها 26.6 مليون دولار.

في المجال الزراعي بدأت مصر في إنشاء مزرعة نموذجية على مساحة لإنشاء مزرعة نموذجية مشتركة على مساحة 200 هكتار، تقوم على نظام الري في موقع ملائم وقريب من مصدر دائم لمياه الري بجنوب السودان. يستهدف انشاء المزرعة النموذجية المشتركة إلى الارتقاء بأساليب البحث والعمل على تحسين الإنتاج الزراعي والحيواني باستخدام التقاوي عالية الإنتاجية، والسلالات الحيوانية عالية الجودة وتطبيق الأساليب الزراعية والتكنولوجية المصرية المتطورة، هذا إلى جانب التعاون في مجال الحجر الزراعي والبيطري، وتدريب الكوادر في دولة جنوب السودان على الانماط الزراعية الحديثة.

وفيما يخص مجالات الطاقة، فإن مصر تسعى لإنشاء سدود توفر مياه الشرب لمواطني جنوب السودان وقد طرحت دراسات للجهات الدولية لتمويل إقامة سد متعدد الأغراض في جنوب السودان بتكلفة ملياري دولار، وذلك من أجل توليد الكهرباء وتوفير مياه الشرب لأكثر من 500 ألف نسمة. ويجري العمل حاليًا على العمل على تصميم وتخطيط مشروعات توليد الكهرباء من الطاقة المائية، وكذا شبكات كهرباء الريف، بالإضافة إلى تقييم مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة سواء كانت مائية أو رياح أو شمسية، كما تتضمن مذكرة التفاهم دراسات الربط الكهربي وتخطيط شبكات الجهد العالي والمنخفض، بالإضافة إلى برامج كفاءة الطاقة[8]

إجمالًا تبدو العلاقات المصرية الجنوب سودانية ذات أهمية استثنائية للبلدين وربما هذا ما يفسر توقيت زيارة الرئيس المصري للسودان، والتي تواكبت مع الحرب في إثيوبيا بين أديس أبابا وقومية التيجراي، وهو الأمر الذي يعكس هشاشة لأوضاع في منطقة القرن الأفريقي بشكل عام، وهو الأمر الذي ينعكس بدوره على أمن البحر الأحمر صاحب التأثير على كل من الخليج ومصر على الصعيدين الأمني والاقتصادي، وهو ما يطلب درجة عالية من التنسيق، والتناغم في السياسات حتى يستطيع النظام العربي الدفاع عن مجاله الحيوي بفاعلية وكفاءة أصبحا مطلوبين أكثر من أي وقت مضى.


[1]– د. أليو جارنج أليو, النظام القانوني لحوض النيل أثر استقلال جنوب السودان, الخرطوم 2010, ص ص 186- 188.

[2]– د. أماني الطويل, توازنات الموقف المصري في السودان, جريدة الأهرام 4 سبتمبر 2010.

[3]– د. عبد المنعم سعيد، نظرة أخرى على المسألة السودانية، جريدة الأهرام 8/ 11/ 2011.

[4]– https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/05/130529_sudan_abyei

[5]– Dr. Amani el Taweel, Current challenges to the South Sudan Peace Agreement،paper for South Sudan Centre for policies&Steratgic Stidies .Juba April 2019

[6]– https://www.elwatannews.com/news/details/4981077

[7]– حوار مع سفير مصر في جنوب السودان بجريدة الشروق المصرية متاح على:

https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=22092020&id=f96e71bb-133a-48f2-a350-09fba79366c3

[8]– العلاقات المصرية الجنوب سودانية، هيئة الاستعلامات المصرية متاح على:

https://sis.gov.eg/Story/53913/-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9?lang=ar