كتبت – أماني ربيع

منذ العصور القديمة، وقبل اختراع الكتابة، كانت الخطوط والرسوم وسيلة الإنسان الأول لتوثيق حياته ونقل أخباره، إلى الأجيال اللاحقة، كان يحاول أن يتحدث إلينا بخطوطه البدائية وكأن ما مر به إرثا يهمه أن نتعرف عليه، أو جذورا تمتد إلى المستقبل لتربطه بالماضي.

وفي أفريقيا كان هذا هو الحال أيضا، من جداريات مصر القديمة، إلى حجارة جنوب أفريقيا، ثقافات وخبرات ومعارفة وصلت إلى عالم اليوم عبر رسوم الجدران التي تحولت إلى عادات توارثتها الأجيال، كما كان يفعل أهل الريف والصعيد في مصر عند السفر والعودة من الحج، فتتحول واجهات منازلهم إلى لوحة توثق مشهد الحج، بالأدعية وشكل الكعبة المشرفة، بل ووسيلة السفر ذاتها سواء بالطائرة أو الباخرة، مع آية قرآنية عن ركن الحج.

تقاليد ندبيلي إلى العالمية

وفي جنوب شرق أفريقيا استغلت الفنانة التشكيلية إستر ماهلانجو، ذات الخمس وثمانين عاما، لموروثات وتقاليد شعبها من “ندبيلي” لكي تصل إلى العالمية، بحيث باتت أعمالها تعرض وتباع من أستراليا إلى نيويورك، ربما جاءتها الشهرة في وقت متأخر، لكن الفن منحها الحيوية اللازمة للسفر وراء أعمالها التي يشاهدها الملايين على طائرات الخطوط الجوية البريطانية، واللوحات الإعلانية.

لم تقنط ماهلانجو يوما من استخدام الحرف اليدوية التقليدية لشعبها في فنها، واعتبرتها رابطا يجمعها بالأسلاف، وفي كل مرة تتحدث فيها توجه نداءا حماسيا للحكومات والمجتمعات في جميع أنحاء القارة ليلتفتوا إلى أهمية الحفاظ على تقاليد وثقافة هذه المجتمعات في مواجهة تأثير العولمة التي قد تطمس هويتهم شيئا فشيئا.

وقالت ماهلانجو: “أصبحت قلقة من أن الشباب في أفريقيا، بدأوا يفقدون الإحساس بجذورهم”.

وأضافت: ” مندهشة من هروب الناس من ثقافاتهم، ثقافتنا جيدة، يجب أن يعرف الأبناء والأحفاد الجذور التي أتوا منها، إذا لم يتعلم الأطفال الصغار عن ذويهم من الكبار ذلك، سيختفي كل شيء.

يحرص العديد من النجوم والمشاهير العالميين من ذوي البشرة السوداء، مثل أوبرا وينفري، وآشر، وأليشيا كيز، وجون ليجند وغيرهم، على اقتناء أعمال ماهلانجو التي تذكرهم بالقارة التي خرج منها أجدادهم إلى الشتات.

وُلدت ماهلانجو عام 1935 في مزرعة بميدلبورج، وهي بلدة صغيرة في مقاطعة مبومالانجا بجنوب إفريقيا، وتعلمت الرسم في سن العاشرة على يد والدتها وجدتها، ربما لم تتعلم الرسم بطريقة أكاديمية، لكن ربما كان هذا هو سر تفردها، لأن خطوطها نابعة من الوجدان الجمعي الممتد لآلاف السنين، حيث دأبت نساء ندبيلي على رسم الأنماط الهندسية الملونة على جدران منازلهن، والتي تمثل الاحتفال بالأحداث المهمة في محيطهن، مثل حفلات الذفاف.

لكن ماهلانجو، بدأت في تطوير هذا التراث بموهبتها الفنية، وأصبحت ترسم أشياء أخرى، واستخدمت القماش، ودهانات الأكريليك الزاهية، بدلا من الألوان الطبيعية التقليدية أحادية اللون.

إعادة رسم الماضي

يمكن أن نقول أن أعمالها كانت إعادة تصميم وتخيل لفنون ندبيلي عبر أكثر من وسيط، يقول كريج مارك، مدير معرض ميلروز في جوهانسبرج، “استمرت على هذا النهج أكثر من 70 عاما، رسمت فيها بلا كلل، حتى أصبح تأثيرها عالميا.”

ويقيم معرض ميلروز هذا الشهر عرضا خاصا ونادرا للفنانة التي أصبح 95% من أعمالها مع جامعي الفنون الدوليين.

وبحسب صحيفة الجارديان البريطانية، يوضح مارك: ” لمدة طويلة، كان يُنظر إليها في جنوب أفريقيا باعتبارها فنانة نديبيلي التقليدية، ولم يعترف بها إلا مؤخرا، وبات هناك إدراكا لأهميتها الحقيقية كفنانة عالمية معاصرة، لقد أصبحت تقريبا علامة تجارية عالمية.”

بعد سنوات من العمل في المتاحف الثقافية الإقليمية في جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري، جاءت انطلاقة ماهلانجو عندما عُرضت أعمالها بمركز بومبيدو في باريس عام 1989، وبعد عامين تم تكليفها بإعادة طلاء سيارة BMW في ألمانيا، ومنذ ذلك الوقت تراكمت لديها الجوائز.

تبدو علاقتها بالسيارات علاقة خاصة، ففي عام 2016، قدمت السلسلة السابعة من BMW Art Car، في معرض Frieze Art Fair ، بلندن.

وبحسب مجلة ” artafrica” كتبت الناقدة الفنية بيترا ماسون عن هذا المعرض قائلة: “في السابق كانت السيارات المرسومة تعتبر ألعابا للأطفال، لكن الآن، أصبحت أعمالا فنية مرموقة، تشبه أعمال آندي وارهول، وروبرت روشنبرج، وروي ليشتنشتاين، وفرانك ستيلا، وديفيد هوكني  ومؤخرًا جيف كونز، لذا فإن الفنانة مالانجو ليست أول امرأة تضاف إلى تلك القائمة فحسب، بل كانت ولا تزال الأفريقية الوحيدة فيها.”

 باعتبارها إحدى فنانتين تم تضمينهما في مجموعةJean Pigozzi  للفن الأفريقي المعاصر، طُلب من ماهلانجو رسم سيارة Fiat 500 جديدة لمعرض “لماذا أفريقيا؟” في تورينو بإيطاليا، ثم أصبحت أول فنان جنوب أفريقي يتم تكليفه بتصميم عمل فني لمعرض إحدى سيارات Rolls-Royce Phantoms الجديدة، حيث تم تصميم كل سيارة فانتوم بصندوق زجاجي مُدرج في لوحة القيادة يسمح بإضفاء الطابع الشخصي عليها بشكل إبداعي، وتم الكشف عنه خلال أسبوع كيب تاون للفنون 2020 في معرض ميلروز.

مثلت جنوب إفريقيا في الخارج كسفيرة ثقافية، ترسم ديكورات وسيارات وزجاجات مشروبات، بإمكانها تحويل أي شيء تطاله يداها إلى لوحة فنية، وتبدو أعمالها دوما مثل وليمة فنية ملونة.

وفي كل الشراكات التي تتعاون مع فنها كعلامة تجارية، لا تُعرض أعمالها فحسب، بل تُعرض شخصيتها أيضا، لأجيال مفطومة على الشبكات الاجتماعية، ومحركات البحث، تبدو السيدة العجوز القبلية الهادئة نفسها كلوحية فنية بملابسها ومحوهراتها، وأينما كانت، باريس أو نيويورك أو سيدني، يرى الجميع جذورها المغروسة في أفريقيا ومجتمعها المحلي في ندبيلي، ربما لهذا يسعى إليها الجميع، حيث جذبت تقاليدها الملونة الانتباه.

هكذا لن نختفي

بمرور الوقت، حظى الفن في جميع أنحاء أفريقيا، باهتمام دولي متزايد، وبخاصة في السنوات الأخيرة، وباتت هناك أعمال جديدة كل يوم تظهر في المعارض الفنية العالمية، وتتحدث عنها وسائل الإعلام المتخصصة، وتسعى وراءها المؤسسات الكبرى.

هذا الازدهار، فتح المجال لظهور مجموعة من المؤسسات الجديدة، في كيب تاون، وتم افتتاح متحف فني جديد وواسع، هو الأكبر في أفريقيا عام 2017، ووُصف متحف “زيتز” للفن المعاصر في أفريقيا بأنه “متحف أفريقيا الحديثة”،  هذا بخلاف متاحف مراكش ولاجوس.

لكن ورغم ذلك، كان تمويل القطاعات الثقافية والحكومات للفنانين محدودا جدا، ثم اصبح شبه منعدم مع جائحة كورونا، حيث يعاني الفنانين بشدة من نقص الدعم المادي.

من جهتها قامت، مالاهانجو، بتأسيس مدرسة في مسقط رأسها بمبومالانجا، لتعليم الفتيات من المجتمع المحلي، الرسم بالطريقة التقليدية.

تقول: ” قمت بتعليمهم، وأحب فعل ذلك، لكن الجهود الفردية وحدها لن تجدي، لابد من المزيد من الدعم من قبل الحكومات، نحن بحاجة إلى تعزيز الفن والثقافة الأفريقية جول العالم، وبهذه الطريقة لن نختفي.”

من نشاطها وحماسها عند ظهورها الدائم في الأماكن العامة بالملابس التقليدية والمجوهرات التي تميز ندبيلي، تخبرنا ماهلانجو أنها لن تتوقف عن الرسم والسفر، والتحدث باسم الفن الأفريقي، رغم سنها المتقدمة.