كتب – د. أيمن شبانة

أستاذ مساعد العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة

 

في الرابع من نوفمبر2020، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الحرب على إقليم  تيجراي، بهدف إخضاعه لسلطة الدولة المركزية، بعد إقدام حاكمه على إجراء انتخابات تشريعية في الإقليم بالمخالفة للدستور الفيدرالي، وبينما تمسك آبي أحمد بمواصلة الحرب، رافضًا كافة الوساطات الدولية والإقليمية للاحتكام لمائدة التفاوض، اتجه حاكم تيجراي لتوسيع جبهات القتال، بتوجيه الضربات الصاروخية للداخل “إقليم أمهرة”، والخارج “العاصمة الإرتيرية أسمرة”، الأمر الذي يثير المخاوف من وقوع أكبر دولة بالقرن الأفريقي، ورمانة ميزان الاستقرار بالإقليم، في براثن الحرب الأهلية، بما يقوض الاستقرار السياسي والأمني في الإقليم ككل.

وعلى ذلك، تسعى هذه الدراسة لتحديد طبيعة الصراع الدائر حاليًّا في إثيوبيا، ورصد العوامل التي أدت لاحتدام الصدام بين الحكومة المركزية وحكومة تيجراي، وكيفية إدارة الصراع، وما قد يترتب عليه من نتائج، والسيناريوهات المحتملة لتسوية الصراع، وأثرها على الاستقرار السياسي والأمني في إثيوبيا.

أولًا- الإرث التاريخي للصراع الإثيوبي الراهن:

يعتبر الصراع الدائر حاليًا في إقليم تيجراي امتدادًا لإرث الصراع التاريخي بين القوميات الإثيوبية، من أجل السيطرة على السلطة والثروة بالبلاد، حيث ترجع نشأة إثيوبيا إلى مملكة أكسوم القديمة التي تأسست في مرتفعات تيجراي الشمالية في القرن السادس قبل الميلاد، قبل أن تحل بها الفوضى، التي لم ينقذها منها سوى اعتلاء الأسرة السليمانية عرش البلاد عام 1270م لتدخل البلاد مرحلة النهضة الوسطى، التي أصبحت خلالها اللغة الأمهرية هي اللغة الرسمية لملوك الحبشة وهو (الاسم القديم لإثيوبيا حتى  عام 1941).

دخلت البلاد العصر الحديث منذ عام 1855م، في عهد الأباطرة ثيودور، يوحنا الرابع، منليك الثاني، هيلاسيلاسي، حيث تم نقل العاصمة إلى أديس أبابا، مع الاتجاه للتوسع جنوبًا، عن طريق الغزو، والتوسع شمالًا عبر توقيع الاتفاقات مع الدول الاستعمارية الأوروبية، حيث تأسست الإمبراطورية الحبشية كدولة -وليس كأمة- تضم مجتمعًا تعدديًّا، يتكون من 85 جماعة إثنية، أكبرها جماعة الأورومو (40% من السكان)، وأكثرها تحكمًا في السلطة الأمهرة (25% من السكان).

لكن حكام البلاد من الأمهرة اتجهوا لقهر الجماعات الأخرى، والتمييز بينهم في توزيع الثروة والسلطة، على أسس عرقية ودينية وثقافية، مع إدماجهم داخل الدولة عن طريق الأساليب الإكراهية غير الوظيفية. وهو ما حال دون نضوج تجربة التعايش السلمي وتحقيق الاندماج الوطني، وأدى لتفجر المشكلة القومية بالبلاد، فاضطرت أغلب القوميات المضطهدة لتكوين حركات للتحرر المسلح، تطالب بالانفصال عن الدولة المركزية والاستقلال. ومن أهمها: حركات التحرير في تيجراي وإريتريا وأورومو والعفر والصومال الغربي (أوجادين).

نجحت التحالفات بين الحركات المسلحة في إسقاط كل من النظام الإمبراطوري (هيلاسيلاسي 1974)، ونظام الدرج (منجستو هيلاميريام 1991)، ليؤول الحكم إلى الجبهة الديموقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا، التي ضمت كلًّا من: جبهة تحرير تيجراي، وحركة أمهرة الديمقراطية الوطنية، والمنظمة الديموقراطية لشعب أورومو، والجبهة الديمقراطية للشعب الجنوبي الإثيوبي.

كان د. ملس زيناوي الذي ينتمي إلى التيجراي، هو الشخصية الأبرز داخل الجبهة، مما منحه الجدارة لتولي رئاسة الحكومة (1994- 2012)، في نظام برلماني يأخذ بالفيدرالية القومية، حيث كانت البلاد تنقسم إلى تسعة أقاليم، تتمتع بالحكم الذاتي، فيما يعرف إقليم تيجراي في إطارها باسم المنطقة رقم (1).

تمتعت تيجراي في عهد زيناوي بأوضاع بالغة التميز على كافة مستويات ومؤسسات الحكم المدنية والعسكرية بالدولة، رغم انتمائهم إلى الأقليات، حيث يأتي الإقليم في المرتبة الخامسة من حيث عدد السكان، بنسبة (6% من الشعب الإثيوبي). وبالرغم من ذلك فقد أصبحت قوات تيجراي هي عماد الجيش الإثيوبي بعد إسقاط نظام منجستو هيلاميريام. وأضحى أغلب قادة الاستخبارات والأجهزة الأمنية الأخرى ينتمون للتيجراي. كما بات التيجراي يتحكمون في تعيين آباء الكنيسة الأرثوذكسية، وأعضاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بما لديهم من سلطة روحية قوية في إثيوبيا.   

حافظ التيجراي على تميزهم نسبيًّا في عهد هيلاميريام ديالسن الذي خلف زيناوي في رئاسة الوزراء (2012- 2018). ويعود ذلك إلى أن الأخير لم يكن من أعضاء الجبهة الثورية الحاكمة. كما أنه ينتمي إلى أقلية الولايتا الجنوبية (2.3% من السكان)، ويتبع المذهب البروتستانتي في دولة تتمتع فيها الكنيسة الأرثوذكسية بسلطة روحية طاغية التأثير في الحياة السياسية، لكن جاء انتخاب آبي أحمد رئيسًا للوزراء في أبريل 2018 ليقلب الأمور رأسًا على عقب.

ثانيًا- الخلاف السياسي بين النظام الإثيوبي وحركة تيجراي:

لم ينتظر آبي أحمد طويلًا حتى أعلن خلال أدائه لليمين الدستورية عن سياسة إصلاحية ترمي لمحاربة الفساد، وإرساء السلام عبر “تصفير المشكلات”، وفتح قنوات للحوار مع المعارضة، ودعوة معارضي الخارج للعمل من الداخل، والإفراج عن المعتقلين، ورفع اسم بعض الحركات المسلحة من قائمة الإرهاب، وتعزيز حقوق الإنسان والاهتمام بقضايا المرأة، وإمكانية توقيع اتفاق للسلام والمصالحة مع الجارة الشمالية “إريتريا”.

لذا فقد توجس قادة تيجراي من سياسات رئيس الوزراء الجديد، واعتبروه بمثابة تهديد حقيقي لمراكزهم السياسية ومكتسباتهم المالية، في وقت يتمسك فيه التيجراي بالبقاء ضمن معادلة السلطة حرصًا على الاستفادة من الموارد الطبيعية للبلاد، والاستئثار بالنصيب الأكبر من المساعدات السنوية التي تتلقاها البلاد من المؤسسات والجهات المانحة، والتي تقدر بنحو 3.5 مليار دولار، بالإضافة إلى تأمين استثماراتهم في قطاع إنتاج الغذاء والدواء والعقارات والتعدين، وضمان حصولهم على العمولات من شركات الاستثمار الأجنبي.    

برر التيجراي مخاوفهم بانتماء آبي أحمد إلى الأغلبية “قومية الأورومو”، وما يتمتع به من شخصية قوية وخبرات سياسية وعملية، حيث شغل العديد من المناصب القيادية بجهاز الاستخبارات، وتولى وزارة العلوم والتكنولوجيا، وكان نائبًا لرئيس إقليم أوروميا، بالإضافة إلى احتمالات تحالفه مع تنظيمات الأمهرة.

وبالفعل تحققت مخاوف التيجراي، وتجلى ذلك في مظاهر متلاحقة أهمها على المستوى الداخلي: إقصاء العديد من رجال الحرس القديم من مناصبهم، على خلفية اتهامات بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان وإساءة استخدام السلطة. وإبعاد شركة “ميتيك ” التابعة للقوات المسلحة عن مشروع سد النهضة، إثر اتهامات صريحة بوجود أخطاء فنية ووقائع فساد بمشروع السد. بالإضافة إلى الصدام مع تنظيمات المعارضة الأخرى، خاصة من الأورومو، حيث تم اعتقال المعارض الأورومي جوهر محمد، وهو الحليف السابق لرئيس الوزراء. وعلى مستوى العلاقات الخارجية وقّع آبي أحمد اتفاقًا -بوساطة إماراتية سعودية- لتسوية النزاع الحدودي مع إريتريا في يوليو 2018، وهو الاتفاق الذي يقضي بإعادة منطقة بادمي الحدودية “المتاخمة لإقليم تيجراي” إلى السيادة الإرتيرية.   

في غضون ذلك، تصاعدت التوترات الإثنية، خاصة في أقاليم أوروميا وأوجادين، مما أدى لنزوح زهاء 2.5 مليون مواطن داخل البلاد. كما تواترت حوادث القتل لبعض الشخصيات العامة، ومنهم مدير مشروع سد النهضة، والمطرب هاتشالو هونديسا، الذي ينتمي إلى جماعة الأورومو، الأمر الذي أثار الاحتجاجات في الداخل وفي الشتات الإثيوبي أيضًا، والذي يصل إلى 2.5 مليون إثيوبي بالخارج، يعيش أغلبهم بالولايات المتحدة. كما شهدت البلاد تراجعًا في مؤشرات الأداء الاقتصادي، بارتفاع معدلات التضخم، ونقص النقد الأجنبي، وزيادة أعباء الديون الخارجية.

في خضم هذه الأحداث المتلاحقة، تم تدبير محاولة لاغتيال آبي أحمد في 23 يونيو 2018، بعد أقل من شهرين من تقلده منصبه، لتشير أصابع الاتهام مباشرة إلى رئيس الأمن السابق في جبهة تحرير تيجراي، كما تعرض النظام لمحاولة انقلابية دبرها قائد الأمن السابق بإقليم أمهرة في يونيو2019، انطلاقًا من مدينة بحر دار “حاضرة الإقليم”، وهي المحاولة التي اغتيل خلالها حاكم أمهرة، ورئيس أركان الجيش الإثيوبي بأديس أبابا، لكن التطور الأبرز تمثل في نجاح ضغوط جماعة سيداما في انتزاع موافقة النظام على إجراء استفتاء للانفصال عن الشعوب الجنوبية لإثيوبيا، وإقامة إقليم جديد بالبلاد يتمتع بالحكم الذاتي. وهو ما حدث بالفعل في نوفمبر2019، حيث أصبح إقليم سيداما هو الإقليم الإثيوبي العاشر، بعد تأييد 89,5% من أبناء الإقليم للاستقلال، وهو ما ينذر بتكرار الأمر من جانب الجماعات القومية الأخرى.

بالرغم من ذلك، مضى آبي أحمد قُدُمًا في تنفيذ سياساته التي بدت إصلاحية في الظاهر، فيما يتجه باطنها للتخلص من قيود التحالف في إطار الجبهة الثورية الحاكمة، وتحجيم نفوذ التيجراي، وقطع السبل أمام المعارضة من القوميات الأخرى، مستغلًّا في ذلك حالة التعتيم الإعلامي، ومستفيدًا من الدعم الأمريكي، الذي تجلى بحصوله على جائزة نوبل للسلام للعام 2019، في مشهد غاب عنه الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي، رغم كونه شريكًا أساسيًّا في إرساء السلام بين الدولتين.

وبالفعل، أعلن آبي أحمد عن تأسيس “حزب الازدهار” في ديسمبر2019، كآلية مؤسسية لقيادة البلاد، بدلًا من الجبهة الديموقراطية الثورية، حيث ضم الحزب ثمانية أحزاب هي: حزب الأورومو الديمقراطي، وحزب الأمهرة الديمقراطي، والحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا، وأحزاب عفار، والصومال الإثيوبي، وجامبيلا، وبني شنقول جومز وهرر. بينما رفضت جبهة تيجراي الانضمام للحزب الجديد.

كما تم تجميد المخصصات المالية لإقليم تيجراي بالموازنة الحكومية للعام 2019/ 2020، والتي تقدر بــ272 مليون دولار، وكذا تم التحفظ على الحسابات المصرفية لــ34 شركة من الشركات التابعة لصندوق الهبات لإعادة تأهل إقليم تيجراي. وهو ما اعتبره حاكم إقليم تيجراي “ديبريتسيون جبريمايكل” محاولة حكومية لتدمير اقتصاد الإقليم، ثم جاء قرار مجلس الانتخابات الإثيوبي في 31 مارس 2020 بتأجيل الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة في مايو 2020 إلى 29 أغسطس التالي، ثم تأجيلها مجددًا، بسبب جائحة كورونا، ليكون بمثابة “القشة التي قصمت ظهر البعير”.

إذ كان ذلك يعني تمديد عمل الحكومة المركزية والبرلمان، رغم انتهاء ولايتهما رسميًّا، وهو ما فسره قادة التيجراي بأنه محاولة حكومية لتفويت الفرصة على المعارضة للفوز بالانتخابات، مما دفع التيجراي للقيام بنوع من استعراض القوة، وذلك بتنظيم العروض والمسيرات العسكرية، التي تخللها حمل الأسلحة الخفيفة والثقيلة، مع الإعلان في 12 يونيو 2020 عن إجراء انتخابات تشريعية بالإقليم، لتحديد أعضاء المجلس التشريعي الإقليمي وممثلي الإقليم في المجلس التشريعي الفيدرالي، وذلك في سابقة هي الأولى من نوعها، حيث تم تكوين مفوضية للانتخابات، وإجراء الاقتراع بالفعل في 9 سبتمبر 2020، وهو ما رفضته الحكومة المركزية بشكل قاطع، باعتباره مخالفة لأحكام المادة 102 من الدستور، التي تنص على إنشاء مفوضية فيدرالية للانتخابات، وليس مفوضيات إقليمية، ليبدأ بذلك فصل جديد من المواجهة بين الطرفين.

ثالثًا- الصدام المسلح وشروط التسوية:

 سعت كل من الحكومة وحركة تيجراي لاتخاذ خطوات استباقية لمباغتة خصمه. فاستولت مليشيات تيجراي على القاعدة العسكرية الشمالية التابعة للجيش الإثيوبي، وما تحويه من أسلحة ثقيلة. وهددت بنقل الحرب إلى ميادين جديدة. فيما أعلن آبي أحمد الحرب الشاملة على الإقليم، مع فرض حالة الطوارئ في شمال البلاد لمدة ستة أشهر، مؤكدًا أن الجيش الإثيوبي يخوض عملية عسكرية حاسمة لفرض القانون وضمان السلام والاستقرار بشكل نهائي، وأنها ستكون عملية سريعة لن تدوم طويلًا، وذلك لاقتحام عاصمته “ميكيلي”، وتحطيم القوة العسكرية للتيجراي، وإخضاع الإقليم لسيادة الحكومة المركزية.

لذا فقد استخدمت القوات الحكومية قواتها الجوية بشكل مكثف، استثمارًا لما تتمتع به من تفوق نسبى في هذا الشأن. كما أقدم رئيس الوزراء على إقالة وزير خارجيته ورئيس جهاز الأمن والاستخبارات، ورئيس أركان الجيش، في خطوة مفاجئة توحي باتجاهه للاعتماد على أهل الثقة وعدم التركيز على اعتبارات الجدارة. وكذا تم اعتقال العشرات من المسئولين المنتمين إلى جماعة التيجراي بأديس أبابا والمدن الأخرى، بتهم الخيانة وزعزعة استقرار البلاد. وهو ما نددت به اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان.

 في المقابل، أعلن حاكم تيجراي أن الإقليم يتعرض لما يشبه الغزو الخارجي، كما لجأت قواته إلى تدمير مطار أكسوم، وتوجيه الضربات الصاروخية إلى إقليم أمهرة والعاصمة الإثيوبية أسمرة، وذلك لقطع خطوط الإمداد عن القوات الحكومية، ومنع القوات الإرتيرية من التقدم صوب إقليم تيجراي، لدعم القوات الإثيوبية من جهة، واستعادة منطقة بادمي الحدودية من جهة أخرى.

وضع طرفا الصراع شروطًا معقدة مرتفعة الأسقف لوضع السلاح وإنهاء القتال؛ إذ أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي عن شروط ثلاثة هي: استعادة الشرعية في الإقليم، وتقديم قادة التمرد إلى المحاكمة، ونزع سلاح ميليشيا التيجراي. فيما تمسك حاكم تيجراي بتشكيل حكومة انتقالية لتسيير الأعمال خلال فترة انتقالية، يتم خلالها إجراء الانتخابات التشريعية. وتبدو شروط الطرفين لإنهاء الصراع شبه مستحيلة على الأقل بالنسبة لبعضها، فنزع سلاح التيجراي هو أمر تنوء به قدرات الجيش الإثيوبي، كما أن تكوين حكومة انتقالية لإدارة الانتخابات على المستوى القومي أمر تتمسك الحكومة الإثيوبية برفضه.

في غضون ذلك، ترك الصراع آثارًا سلبية على الأوضاع الإنسانية والاجتماعية بإقليم تيجراي، حيث توالت موجات اللجوء والنزوح خارج الإقليم. وكشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” عن أن نحو 2.3 مليون طفل باتوا بحاجة ماسة للمساعدة جراء اندلاع الصراع في تيجراي، كما وقعت العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان، خاصة ضد المدنيين. وفي هذا السياق نددت منظمة العفو الدولية بمقتل عشرات المدنيين في مذبحة وقعت ببلدة ماي كاديرا جنوب إقليم تيجراي، نسبها شهود إلى قوات موالية لحركة تحرير تيجراي.

 ومن المنتظر أن تزداد الأوضاع الأمنية الإنسانية سوءًا في إثيوبيا، نظرًا لقصر المدى الزمني لمهلة الأيام الثلاثة، التي منحها رئيس الوزراء الإثيوبي في 23 نوفمبر الجاري لاستسلام قوات تيجراي، قبل اقتحام مدينة ميكيلي عاصمة الإقليم، حيث يتوقع أن تزداد موجات اللجوء والنزوح خارج المدينة، التي تكتظ بنحو 525 ألف من السكان، وأن يسقط الآلاف من الضحايا المدنيين جراء الاقتحام المرتقب باستخدام الأسلحة الثقيلة.  

 بالإضافة لما سبق، كان للصراع آثار سلبية على دول الجوار الإثيوبي، مع تدفق موجات اللاجئين إلى السودان، بواقع 4000 آلاف لاجئ يوميًّا، لتعلن الأمم المتحدة عن توقعات بارتفاع أعداد اللاجئين في المستقبل المنظور إلى زهاء 200 ألف لاجئ، بما ينذر بكارثة إنسانية وشيكة، حيث تنوء القدرات السودانية بتقديم العون الإنساني للاجئين، في وقت لا تستطيع فيه الخرطوم عمليًّا وأخلاقيًّا التوقف عن استقبال المزيد من اللاجئين، رغم إعلان حكومة ولاية القضارف السودانية عن إغلاق حدودها مع إقليمي أمهرة وتيجراي.

 كما تشير التحليلات إلى إمكانية تأثر الأوضاع الأمنية بالصومال سلبيًّا، مع قرار الحكومة الإثيوبية بسحب ثلاثة آلاف من جنودها العاملين ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال “أميصوم”، وذلك بهدف المشاركة في المجهود الحربي ضد تيجراي. بالإضافة إلى الصدامات المتوقع حدوثها داخل القوات الإثيوبية ذاتها، بسبب التوجس من عناصر تيجراي المشاركين في بعثة أميصوم.

من جهة أخرى، فإن استمرار الصراع من شأنه التأثير بالسلب على الاستثمارات الأجنبية بالإقليم، كما أنه سيمنح إثيوبيا ذريعة إضافية لعرقلة مسار مفاوضات سد النهضة، مما سيضر بالمصالح المصرية، وقد بدت المؤشرات على ذلك مع إعلان السودان تعليق مشاركتها في المفاوضات، بدعوى إفساح المجال لمشاركة أكبر للاتحاد الأفريقي وللخبراء الأفارقة، رغم أن الاتحاد لم يحقق أي تقدم يعتد به منذ توليه ملف الأزمة في يونيو 2020، وأن الخبراء الأفارقة ليس لديهم ذات الخبرة التي يتمتع بها خبراء البنك الدولي.

رابعًا- احتمالات تسوية الصراع:

توالت التصريحات الصادرة عن المجتمع الدولي بضرورة وقف القتال، والوصول إلى تسوية سلمية عبر مائدة المفاوضات، حيث أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش أن استقرار إثيوبيا أمر مهم لمنطقة القرن الأفريقي بأكملها، داعيًا طرفي الصراع إلى الاحتكام إلى مائدة التفاوض، وهو ما أكدته أيضًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي.

لكن آبي أحمد لم يستجب لمطالب المجتمع الدولي بوقف القتال، ورفض مبادرات الوساطة من جانب أوغندا وجيبوتي، وأعرض عن استقبال وفد الوساطة التابع للاتحاد الأفريقي، حيث نفت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية قبوله لاستقبال الوفد، الذي قيل إنه يضم كلًّا من: يواكيم تشيسانو الرئيس السابق لموزمبيق، وإلين جونسون سيرليف رئيسة ليبيريا السابقة، وكغاليما موتلانثي الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا.

في المقابل، دعا حاكم تيجراي الاتحاد الأفريقي إلى التدخل لمنع البلاد من الانزلاق إلى الحرب الأهلية الشاملة، مؤكدًا أن الإقليم سيكون جحيمًا على القوات الإثيوبية في حال اقتحامه، وهنا يبدو واضحًا أن الضغوط الخارجية على طرفي الصراع لم تكن كافية، وأنه ربما يكون هناك ضوء أخضر للحكومة الإثيوبية لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب في أرض المعركة، لعلها تستفيد منها كأوراق للضغط على مائدة التفاوض.

على ضوء المعطيات السابقة، فإن الصراع الراهن في إثيوبيا يمكن أن يؤول إلى ثلاثة سيناريوهات هي:

1- التسوية التفاوضية:

قد يؤدي استمرار القتال وامتداده زمنيًّا وأفقيًّا ليطال أقاليم أخرى في إثيوبيا، إلى اضطرار النظام الإثيوبي إلى القبول بالوساطة الخارجية، والاحتكام إلى مائدة المفاوضات، بحثًا عن مخرج سلمي للصراع، يتمثل في إنهاء حالة التمرد المسلح، نظير حصول تيجراي على جزء من كعكة الثروة والسلطة.

وهذا السيناريو، وإن كان يتسق مع الأفكار الداعية إلى تحقيق الاندماج الوظيفي داخل الدولة الإثيوبية، لكن تطبيقه يستلزم تراجع آبي أحمد عن مشروعه السياسي الذي يستهدف تجاوز صيغة الفيدرالية الإثنية المطبقة في إثيوبيا منذ عام 1994، بما ينذر إما بتفكك حزب الازدهار الوليد، أو استيعاب تيجراي في إطاره مرة أخرى.

2- سيناريو المغالبة:

يمكن أن يتحقق هذا السيناريو مع نجاح القوات المسلحة الإثيوبية في اقتحام عاصمة إقليم تيجراي، وإلقاء القبض على قادة التمرد المسلح، وتقديمهم إلى المحاكمة، وهو ما يتيح لرئيس الوزراء فرصة تنفيذ مخططه لإنهاء الوضع المسيطر لجبهة تحرير تيجراي، وفرض السيطرة على حكم البلاد من خلال حزب الازدهار، ويعتمد آبي أحمد في ذلك على دعم حكام الأقاليم الإثيوبية له ضد تيجراي، وضعف الضغوط الخارجية على نظامه.

لكن هذا الوضع لن يحقق استقرارًا لإثيوبيا على المدى الطويل، خاصة أن دعم حكام الأقاليم للنظام الإثيوبي لا يضمن استمرار تمتعه بالدعم الشعبي، كما أن حركة تيجراي قد تعاود الكرة مجددًا، وقد تتجه إلى اتباع سياسة حافة الهاوية، وتصفية قادة النظام الإثيوبي أنفسهم، وهو أمر وارد في ظل القيود التي قد تقلل من اتجاه تيجراي لإعلان الانفصال، والذي ربما يُسهم في تأزم أوضاع الإقليم، باعتباره سيصبح دولة حبيسة، تفتقر إلى الموارد النفيسة والاستراتيجية، حيث يعتمد 46% من الناتج المحلي للإقليم على الزراعة، وهنا يمكن أن يؤول حال تيجراي إلى وضعٍ يشبه ما حدث بالنسبة لجنوب السودان، التي ازدادت الأوضاع فيها سوءًا بعد الانفصال، رغم اختلاف الخلفيات السياسية والمعطيات في الحالتين.

3- الحرب الأهلية الممتدة:

في ظل توازن القوى بين طرفي الصراع، قد يطول أمد الحرب الأهلية، لنصبح أمام وضع مشابه للحال في إقليم دارفور بالسودان. وهو ما يعني نجاح حركة تيجراي في استدراج الجيش الإثيوبي إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، بما يقوض الاستقرار السياسي والأمني في إثيوبيا ودول الجوار في القرن الأفريقي وحوض النيل أيضًا، خاصة إذا اتجهت بعض الأقاليم الإثيوبية إلى تفعيل حق تقرير المصير الوارد في المادة 39 من الدستور الإثيوبي.  

 ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو إذا نجحت حركة تيجراي في التحالف مع قوى المعارضة في الأقاليم الأخرى، خاصة في إقليم أورومو، وفى حال حدوث هذا السيناريو، فإن المخرج قد يتمثل في إزاحة رئيس الوزراء آبي أحمد عن المشهد، من خلال دفعه إلى تقديم استقالته، على غرار ما حدث مع سلفه هيلاميريام ديسالين، أو عن طريق محاصرته دوليًّا، خاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد  الأوروبي، بعدما تبين أن رجل نوبل للسلام لم يختلف فعليًّا عن غيره من الحكام الإثيوبيين الذين اعتادوا اللجوء لإقصاء خصومهم السياسيين، واستخدام العنف ضد المعارضة.

وفي تقديري فإن السيناريو الأول “التسوية التفاوضية” هو السيناريو المرجح، فالمجتمع الدولي ليس بوسعه تحمل تبعات تفجر الأوضاع في القرن الأفريقي، الذي يشرف على طريق البحر الأحمر الملاحي، بما له من أهمية استراتيجية قصوى. كما أن الحجم المتنامي للاستثمارات والتجارة الدولية والإقليمية مع إثيوبيا سوف يدفع الأطراف الخارجية إلى ممارسة الضغوط وتقديم المبادرات للتسوية، وفي مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الخليج العربي.