كتبت – أماني ربيع

ربما جعلته ظروف الولادة والنشأة موزعا بين أكثر من وطن، فهو مولود في السودان عام 1936 تحديدا في مدينة الجنينة بعاصمة دار مساليت الواقعة غربي دارفور، والمساليت من القبائل السودانية الكبيرة، تشتهر بالفروسية، والده هو “الشيخ مفتاح رجب الشيخي الفيتوري”، أما والدته، فهي “الحاجة عزيزة علي سعيد”، تنتمي لقبيلة الجهمة العربية الحجازية التي هاجرت إلى صعيد مصر، ومن ثم إلى ليبيا، وكانت تشتهر بالتجارة والفروسية أيضا.

وترعرع بالإسكندرية حيث انتقل والديه، في منصة القباري بشارع الماكس، درس في المعهد الأزهري بالقاهرة، ثم التحق بكلية دار العلوم.

وبين مصر والسودان بدأ مسيرته كصحفي في الجرائد وعبر أثير الإذاعة ثم خبيرا إعلاميا بجامعة الدول العربية عام 1968، ولدة عامين.

في نهاية عام 1969، ذهب إلى لبنان ممثلا عن دولة السودان في مهرجان شعري بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الأخطل الصغير الشاعر عبد الله الخوري، ويبدو أن العاصمة اللبنانية استهوته ليستقر في بيروت ويعمل بالصحافة في مجلة “الأسبوع العربي”.

أسقطت عنه الجنسية السودانية، بعد قصيدة غاضبة كتبها في ذكرى شنق المناضل السواني اليساري عبد الخالق محجوب، وهو ما أغضب الرئيس السوداني وقتها جعفر نميري الذي ضغط على السلطات اللبنانية لترحيله من البلاد، ليذهب إلى دمشق ويعيش فيها لمدة عام.

وفي زيارة لليبيا منحه الرئيس الليبي السابق معمر القذافي جواز سفر ديبلوماسيا، ليصبح بعدها ملحقا ثقافيا في عدة سفارات ليبية، بدأها في روما عام 1976، ومنها إلى بيروت في بداية الثمانينيات.

وبسبب علاقته بالنظام الليبي، تم اختطافه في الثمانينيات من قبل “حركة أمل” في بيروت، التي كانت على خلاف مع ليبيا بسبب اختطاف الإمام موسى الصدر، وبعد 3 أيام أطلق سراحه .

عاب عليه الكثيرين علاقته بنظام معمر القذافي، لكنه كان دوما يتحدث عن أصوله الليبية عن أبيه، وكيف تمتد قبيلة “الفواتير” بين ليبيا والسودان وتونس، وأنه ليبيا كانت ملاذه بعد إسقاط الجنسية السودانية عنه.

عاش بعد ذلك في المغرب، وتم إسقاط الجنسية الليبية عنه بعد سقوط نظام القذافي في ليبيا عام 2011، وظل مقيما في المغرب رغم عودة الجنسية السودانية إليه عام 2014، ومنح جواز سفر لم يستخدمه ليتوفى عام 2015.

حتى حياته العاطفية كانت متعددة الجنسيات فزوجاته الثلاث، انتمين لثلاث بلاد مختلفة، الأولى فتاة من فلسطين، انتهت بوفاتها، والثانية من نجمة المسرح السودانية آسيا عبد الماجد، وأخيرة المغربية رجات أرماز التي تزوجها عام 1995، واستمرا معا حتى وفاته.

صوت الزنوجة العربي

من المولد حتى الوفاة، هكذا توزعت حياته بين أكثر من بلد وأكثر من ثقافة، لكن رغم تنقله بين البلدان المختلفة، بقى عشقه للقارة الأفريقية دوما في قلبه، وجعل اسمها عنوانا لأولى دواوينه، “أغاني أفريقيا” عام 1955، الذي قدمه المفكر المصري محمود أمين العالم.

هو أكثر من كتب عن هموم القارة السمراء في اللغة العربية، عبر شعره عن مسيرة الأفريقي وكفاحه ضد المستعمر البيض الذي نهب خبرات بلاده، وتركه فريسة للفقر، ورفض فكرة أن يكون الأفريقي أسودا وحرا، وكأن لونه يحول بينه وبين حريته.

جمع بين العروبة والزنوجة في مزيج فريد لم يقم به سواه، يقول الشاعر المغربي عمرو علوي ناسنا، عنه: “جعل أفريقيا تبسط رجليها في حضن اللغة العربية، تستفيق في الأسود المضيء، يجد العمق الأفريقي مساحة ليسكن في شرايين البعد العربي، من النادر أن تحظى لغة بهذه الإمكانية، من النادر أن تتسع اللغة إلى كل هذا الاتساع،  الفيتوري مدد خارطة أفريقيا على جسد اللغة العربية ومنح للشجرة الشعرية العربية فرصة أن تشرب من عمقها الأفريقي. نحن مدينون للفيتوري بجغرافيا المعنى وبكيمياء التعدد، ونلتمس له نحن الذين سجننا اللون الواحد أن يغفر لنا خطيئة الإقامة في سجن الواحد.”

وهكذا أصبحت أفريقيا عنوانا لدواوينه الأولى : “أغاني أفريقيا” عام 1955، “عاشق من أفريقيا” عام 1964، “اذكرينى يا أفريقيا” 1965)، “أحزان أفريقيا” عام 1966، “البطل والثورة والمشنقة” عام 1968.

اعتبره البعض وجها عربيا لشعر الزنوجة الذي كان رائده الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنجور الذي كتب قصائده بالفرنسية، يقول الفيتوري في إحدى قصائده معتزا بلونه الأسود:

“ألئن وجهي أسودٌ.. ولئن وجهك أبيض، سمّيتني عبدا

ووطئتَ إنسانيتي وحقّرتَ روحانيتي، فصنعت لي قيداً

وشربتَ كرمي ظالماً.. وأكلت بقلي ناقماً.. وتركت لي الحقدا؟”

كان الفيتوري من الشعراء الذين يمنحون قصائدهم ولادة جديدة عبر إلقائها بصوته القوي وأدائه المسرحي الذي يتنوع بين بيت وآخر صعودا وهبوطا، لينفجر مع ناتهائه هتاف الحاضرين حماسا أو غضبا، لقد عاش الشاعر في بداياته وقتا لمعت فيه أسماء مجموعة من أبرز الزعماء الأفارقة، عبد الناصر في مصر، أحمد بن بلة في الجزائر، ولومومبا في الكونغو، ونكروما في غانا، ما جعل وعيه يتفتح على الصوت الحر والفخر بالانتماء لأصوله الأفريقية والعربية، فكان شعره ثوريا بطعم الفقر والبشرة السوداء، ومتمردا بعل الوعي، ومتأملا بفعل النشأة في بيت صوفي.

تغذت أعماله الأولى على ما عايشه من معاناة القارة الأفريقية مع استعمار وحشي، ومع شعور خاص بالتهميش والفقر، وهو ما ظهر في لغتها الثورية التي كانت تحرض الجماهير على التمرد على واقعهم، والثورة على الظلم. بينما نرى في المنتصف نغمة صوفية تعود غلى ما ترسب في وعيه من أصوله السودانية، خاصة وأن السودان معروفة بتراثها الصوفي الغني بطقوسها ومثيولوجيتها الخاصة، وهي خصوصية نراها في أشعار سودانيين آخرين مثل: التيجاني يوسف بشير ومحمد المهدي المجذوب ومحمد عبد الحي وغيرهم.

ومن النبرة الثورية في للخمسينيات، إلى نبرة جديدة اكتسبها في نهاية السيتينات بفعل حياته في بيروت تلك المدينة التي تعتبر ملتقى للثقافتين العربية والأوروبية، فخلع عن شعره ثوب الخطابة، وبدأ في التجاوب مع شعر الحداثة والمواراة الشعرية وراء الأخيلة، بدلا من المباشرة الخطابية.

كانت جدته السودانية، تسكب على مسامعه أساطير غامضة من وحي التراث السوداني الأفريقي، بكل ما فيه من خيالات واستعارات وبطولات وثورة، وعندما بدأ في البحث والإطلاع عشق شاعرية جبران خليل جبران، كما فتنته أشعار الفرنسي بودلير.

تنوعت تجربة الفيتوري بين القصائد الشعرية، والمسرح الشعري حيث كتب أربع مسرحيات شعرية هي: “سولارا” (1970)، “ثورة عمر المختار” (1974)، “يوسف بن تاشفين ومأساة الأمير الأندلسي” (1979)، و”الشاعر واللعبة” (1979).

وكانت “سولارا” أنجح أعماله المسرحية التي حظيت بشهرة واسعة، وكانت تدور حول معاناة الرق في أفريقيا الذين يتم أخذهم عنوة من البلاد في رحلات جحيمية إلى مزارع قصب السكر في البحرب الكاريبي، ومزارع القطن في أمريكا الشمالية، نرى ثورية “سافو” الذي يحاول الهروب من النخاسين حتى آخر رمق، وعندما يصاب بالرصاص يصرخ متحديا جلاديه:

 “لا يا هذا القرصان الأبيض، لن أمضي

 لن تخرجني منها..

فاقتلني.. أو أقتلك الآن

 اقتلني في أرضي”

 لينهي تاجر الرقيق حياته برصاصة قاتلة، فيغادر سافو الحياة قائلا:

“اغرسني في أرضي بذرة

 اسقني في فمها قطرة

 انثرني فوق روابيها ورقة”.

ويحمل الفصل الأخير من المسرحية ثورة الرق الأفارقة ضد استغلال التجار، وغضبهم الجامح من أجل التحرر من ذل الاسترقاق.

قال الفيتوري عن “سولارا”: ” هي تأكيد أو تلخيص لكل دواويني عن التراجيديا الأفريقية الرهيبة، الفظيعة التي عاشها الإنسان الأسود منذ بداياته تقريبا، أردت أن أضعها على المسرح، وصنعت شخصياتها ومواقفها من بعض الحوادث التاريخية… ولم يكن يهمني حينذاك إلاّ أن أقدم عملا فيه انفعالات أمة ومواقفها خلال أعوام طويلة من العذاب والسأم والضغط والعبودية”.

وبعد سنوات من استقلال الدول الأفريقية، قال في حوار له مع الصحفي إسكندر داغر بصحيفة “الأسبوع العربي”: “أعترف ان الواقع الاجتماعي لم يتغيّر.. ارتفعت الأعلام السوداء باسم الحرية والسيادة الوطنية، وبأيدي أبناء أفريقيا الوطنيين، مرفرفة في سماء القارة الافريقية، غير أن الماضي الثقيل الأسود الذي عاشته القارة ما زال يشدها إلى الخلف… وتفسير ذلك بسيط للغاية، فالاستعمار، والقوى الرجعية، ومراكز النفوذ الاجنبي، ما تزال تحرّك – وإن يكن من وراء الستار – مقاليد الأمور في بلادي تلك… إنني أعترف امام ذلك الواقع كشاعر غنّى، وتألم وآمن بقضيته، أن مسؤليتي لم تنته بعد، وأن غنائي لشعوب القارة السوداء يجب أن يستمر.”

درويش متجول

وبجانب قضايا افريقيا، ظل الفيتوري متفاعلا أيضا مع هموم الوطن العربي ومعاناة شعوبه، فكتب عن فلسطين وبغداد، وتحدث عن أطفال الحجارة في إحدى قصائده قائلا:

“ليس طفلاً ذلك الخارج من قبعة الحاخامِ

من قوس الهزائمْ

 إنه العدل الذي يكبر في صمت الجرائم

 إنه التاريخ مسقوفاً بأزهار الجماجم

إنه روح فلسطين المقاومْ”

في نظر النقاد أعمالخ الأخيرة وبخاصة “نار في رماد الأشياء”، و”عريانا يرقص في الشمس” هي الأفضل لأنها كانت نتاج خبرة طويلة وتجارب إنسانية متنوعة صقلت لغته وأسلوبه، وجعلته يخرج من دائرة ضيقة إلى آخرى أوسع تماهى فيها مع هموم الإنسان في كل مكان.

“معزوفة لدرويش متجول”.، كان هذا عنوانا لواحد من دواوينه، لكنه بدا وكأنه الوصف الأمثل لشخصيته وحياته فقد تجول  طويلا عبر المدن والثقافات المختلفة، وهو أشبه بدروايش الصوفيه التي كان والده مفتاح رجب الفيتوري واحدا من مشايخها، وتربى على حب الصوفية وزهد الأشياء يقول في إحدى قصائده بعنوان “ياقوت العرش”:

“دنيا لا يملكها من يملكها/ أغنى أهليها سادتها الفقراء

الخاسر من لم يأخذ منها/ ما تعطيه على استحياء

 والغافل من ظن الأشياء/ هي الأشياء”

كان آخر دواوينه عام 2005 بعنوان “عرياناً يرقص في الشمس”، حيث أصابته جلطة أثرت على قدراته، وعاودته مجددا بعد شفائه منها، ليصاب بشلل جزئي ويفقد قدرته على الكلام بشكل مفهوم.

“لا تحفروا لي قبراً

 سأرقد في كل شبر من الأرض

 أرقد كالماء في جسد النيل

 أرقد كالشمس فوق حقول بلادي

 مثلي أنا ليس يسكن قبراً”.