كتبت – أماني ربيع

بدأ علم الجينوم في القارة السمراء في جذب اهتمام المانحين الدوليين لتمويل الأبحاث والدراسات المتعلقة به، لكنه لايزال بحاجة إلى دعم وتمويل من الجهات الوطنية والإقليمية أيضا.

وكشفت دراسة موسعة عن البيانات الجيونومية للأفارقة، عن أكثر من 3 مليون متغير جيني غير موصوف سابقا، والعديد منها في مجموعات لم يتم أخذ عينات الحمض النووي الخاصة بها من قبل.

وتعد  هذه الدراسة علامة فارقة في أبحاث الجينوم، الذي بدأ في سد فجوة كبيرة بقواعد بيانات الحمض النووي في العالم، والتي لزالت إلى الآن لا تحتوي إلا على القليل جدا من البيانات من سكان أفريقيا، لكن معظم باحثي الدراسة يعملون بمؤسسات موجودة في أفريقيا، ويحاولون تقليل هذه الفجوة عبر أبحاثهم.

وتعتبر أفريقيا كنزا فيما يخص علم الجينوم، لأنها أكثر القارات في التنوع الوراثي، وهي المكان الذي نشأ فيه الإنسان الحديث العاقل « Homo sapiens »، وينحدر سكان القارات الأخرى عن مجموعات هاجرت من أفريقيا منذ عشرات الآلاف من السنين، لكن هذه المجموعات تمثل جزءًا صغيرًا من التنوع الجيني الموجود في القارة الأفريقية، إلا أنها تهيمن على دراسات الحمض النووي، وهو ما يؤدي أحيانا إلى عواقب وخيمة.

ولسنوات عديدة، اعتقد الباحثون خطأ، أن اضطراب التليف الكيسي الوراثي، الذي يخفض من عمر الإنسان، لم يكن موجودًا لدى السكان الأفارقة، وهو ما أدى إلى البحث فقط عن المتغيرات الجينية الموجودة لدى السكان الأوروبيين، بينما فقدت العديد من المتغيرات الأخرى الموجودة لدى السكان الأفارقة.

خطوة كبيرة إلى الأمام

وكشف باحثون في اتحاد الوراثة البشرية والصحة في أفريقيا (H3Africa) عن تسلسل الجينوم الكامل لـ 426 شخصًا عبر 50 مجموعة إثنية لغوية عبر أفريقيا.

بالإضافة إلى المتغيرات الجينية الجديدة، وجد الباحثون 62 موقعًا جديدًا للكروموسومات تخضع لانتقاء قوي، ما يعني أنها تتطور حاليًا، تخبرنا هذه المتغيرات عن المناعة الفيروسية وطرق إصلاح الحمض النووي والتمثيل الغذائي، ويمكن تطبيق ما تم اكتشافه في علاج الأمراض، كما أن الحمض النووي يمنحنا أدلة على الهجرات الماضية، وكيف تم الاختلاط بين السكان.

يعتبر نيل هانشارد عالم الوراثة في كلية بايلور للطب بهيوستن تكساس، والباحث المشارك في الدراسة، أن هذه الأبحاث خطوة كبيرة إلى الآمام لعلم الجينوم الأفريقي، وقال: “لقد عانى عام الجينوم في أفريقيا من “الاستعمار الأكاديمي”، في إشارة إلى هيمنة الباحثين ومؤسسات التمويل الغربية على معظم الدراسات في هذا المجال.

ووفقا لمجلة ” Nature ” العلمية البريطانية، سلطت دراسة أجريت عام 2011، الضوء على عواقب هذا الخلل، قادها أمبرواز ونكام، عالم الوراثة الطبية في جامعة كيب تاون، بجنوب أفريقيا، وحدد الفريق 50 دراسة جينية لأشخاص في الكاميرون تم نشرها بين عامي 1989 و 2009، ووجدوا أن 28٪ فقط من المؤلفين كانوا في الكاميرون.

علاوة على ذلك ، ركزت الدراسات بشكل أساسي على الأسئلة التي كانت تهم الباحثين – مثل أنماط الهجرة – بدلاً من تلك التي قد تفيد السكان، وكان هناك القليل من الأبحاث حول مخاوف الصحة العامة، وتم تخزين جميع العينات تقريبًا خارج أفريقيا – مما يعني أن القرارات النهائية بشأن استخدامها يتخذها غير الأفارقة.

وأثارت الدراسة أيضا الحديث عن موافقة المشاركين في هذا النوع من الأبحاث والذين قدموا حمضهم النووي، دون أن يفهموا ماذا يعني ذلك، ولم يتحدث إليهم أحد عن كيف سيتم استخدام بياناتهم، ما أدى إلى انهيار عنصر الثقة بين الباحثين والمشاركين.

لكن خلال السنوات الأخيرة، بدأت تحدث صحوة، وبدأ الأفراد والمنظمات بأفريقيا في المقاومة، وفي عام 2017، أصدر شعب سان في جنوب أفريقيا مدونة أخلاقيات البحث الخاصة بهم، ونتيجة لهذه الجهود جزئيًا، يوجد 23 مؤلفًا من بين 32 مؤلفًا تم ذكرهم في الدراسة الأخيرة في مؤسسات بأفريقيا ، بما في ذلك جنوب أفريقيا ومصر وتونس وأوغندا ونيجيريا والمغرب.

وعلق زاني لومبارد أحد الباحثين المشاركين في الدراسة، وهو باحث أول في علم الوراثة البشرية بجامعة ويتواترسراند في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا: “الشيء المهم هو أننا سنشارك في سرد القصة.”

نقص التمويل

في هذا الوقت من العام الماضي ، قال مدير المعاهد الوطنية للصحة فرانسيس كولينز في اجتماع للمانحين الدوليين للأبحاث في أديس أبابا إن الوكالة تعهدت بضمان الملكية الأفريقية للبحوث التي تمولها في القارة، ربما كان هذا هدفا قويا، لكن الملكية تحتاج أيضًا إلى ممولين من أفريقيا، لخلق فرص جديدة لتمويل الباحثين، لتحقيق المزيد من النتائج المرجوة على المستوى الوطني والإقليمي.

وخلال السنوات السبع الماضية، استثمرت منظمات تمويل الأبحاث الدولية ملايين الدولارات في مشاريع لتعزيز البحث الجيني على السكان في أفريقيا، وقد هذه الدراسات إلى تحسين العلاجات للأفارقة وكذلك للأشخاص المنحدرين من أصل أفريقي حديثًا في أوروبا والأمريكتين، والذين يعانون من اعتلال الصحة أكثر من الأعراق الأخرى، وهو أمر يرجعه الكثيرون إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن العلماء يلفتون إلى علاقة الجذور الوراثية بالأمر.

يمنح اتحاد H3Africa Consortium 150 مليون دولار أمريكي على مدى 10 سنوات لدعم المعاهد في 12 دولة أفريقية، ومع نتائج هذه الدراسة الجديدة، وضع الباحثون خطوة مهمة في إظهار إمكانات علم الجينوم الأفريقي، وساعد ممولو الاتحاد، “المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة (NIH) ومؤسسة ويلكوم الخيرية الطبية الحيوية في المملكة المتحدة”، في تمكين جيل جديد من الباحثين.

تمتلك الجينوميات الأفريقية إمكانات كبيرة لتطوير البحث وتحسين فهم ومعالجة الأمراض في القارة وخارجها  بالنظر إلى الأصل المشترك للبشر، ولكي تتحقق هذه الإمكانات بالكامل ، ستكون هناك حاجة إلى شراكة حقيقية، يأتي فيها تمويل الأبحاث من مصادر مناسبة في أفريقيا ومن جميع أنحاء العالم.

الجينوم يفرض نفسه

في عام 2015، تطلب الأمر كارثة صحية وطنية في زيمبابوي لتعترف الحكومة بأهمية الطب الدقيق وعلم الجينوم، حين تم مزج ثلاثة من أدوية فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”، في حبة واحدة أرخص وأكثر سهولة لتناولها يوميا، وتم طرح الدواء بتوصية من منظمة الصحة العالمية، لكن بعد تناول عشرات الآلاف من المواطنين للعقار، سرعان ما حدثت الأزمة.

هذه الأزمة لم تفاجئ كولين ماسيميرمبوا، عالم الوراثة والمدير المؤسس للمعهد الأفريقي للعلوم الطبية الحيوية والتكنولوجيا في هراري، الذي اكتشف عام 2007، متغيرا جينيا يحمله العديد من الزيمبابويون يبطئ قدرتهم على امتصاص عقار ” efavirenz1″، لذا فبالنسبة لحوالي 20% من السكان بمجرد تناول العقار سيتراكم الدواء في مجرى الدم، ما يؤدي إلى الهلوسة والاكتئاب، وارتفاع الميول الانتحارية.

وحاول ماسيميرمبوا إبلاغ حكومته بالأمر، لكن في ذلك الوقت لم يكن عقار إيفافيرينز عنصرًا أساسيًا في برنامج فيروس نقص المناعة البشرية في البلاد، ولذلك تجاهلت وزارة الصحة تحذيراته، لكنه نشر بحثه، ولم تهتم السلطات إلا بعد حدوث الأزمة، التي كان يمكن تجنبها غذا استمعت الحكومة إليه.

وأوضح ماسيميرمبوا: “العقار ليس سيئا، لكنه بحاجة إلى التطوير قبل طرحه في أفريقيا.”

ويعتبر ماسيميرمبوا، واحدا من سلالة نادرة من العلماء في هذا المجال، الذي يبحث في إيجاد طرق لتحسين الرعاية الصحية من خلال تكييف التشخيص والعلاج مع البيئة ونمط الحياة والجينات الخاصة بالمرضى، ولا يوجد في أفريقيا إلا عددا قليلا من المتخصصين في الطب الدقيق.

بعد ذلك، بدأ نهج الطب الدقيق في فرض نفسه على القرارات الصحية لبعض دول القارة، حيث تم استخدام الخريطة الجينومية لسكان بلد ما قبل طرح برامج العلاج العام، مثلا: قد تقوم دولة ما بتعديل قائمة الأدوية الأساسية الخاصة بها والتي تحدد الأدوية التي تشتريها بكميات كبيرة بأسعار مخفضة من شركات الأدوية، لتجنب الأدوية المعروف أنها تسبب مشاكل لسكانها.

حدث هذا بالفعل في بتسوانا عام 2016ا، حيث توقفت عن استخدام عقار ثلاثة في واحد الذي يحتوي على إيفافيرينز، واختارت بدلاً من ذلك عقارًا أحدث وأفضل أداءً ولكنه أغلى ثمناً يسمى دولوتغرافير، هذا لأن إن المتغير الجيني الذي يسبب مشاكل مع إيفافيرينز شائع في بوتسوانا، بنسبة 13.5٪ من السكان.

وفي عام 2015 ، حظرت إثيوبيا استخدام مسكن الآلام الكودايين، لأن نسبة عالية من الناس في البلاد يحملون متغيرًا جينيًا يحول الدواء إلى مورفين ، ما قد يسبب مشاكل في التنفس أو حتى الموت.

لكن لايزال البعض يشكك في أهمية علم الجينوم الأفريقي، وما إذا كان ستترجم أبحاثه إلى مستوى رعاية صحية أفضل، خاصة وأنه على المستوى العالمي، فشل الطب الدقيق في الوفاء بوعوده، حتى في الدول التي تنفق أمولا طائلة على الصحة، ويرى البعض أن الأموال التي ستنفق على فحص الجينات، من الأفضل أن تستخدم لتحسين الرعاية الصحية الأساسية في القارة.

وهو ما أصاب العلماء الأفارقة في هذا المجال بالإحباط لاستبعادهم، خاصة وأن الطب الدقيق تخصص مكلف بالنسبة لقارة تكافح معظم دولها لتوفير الرعاية الصحية الأساسية، بحيث تبدو العلاجات المصممة خصيصًا للمرضى وكأنها رفاهية لا يمكن تحملها.

استعمار أكاديمي

يشكل نقص المواد الوراثية الأفريقية عقبة كبيرة أمام فهم كيفية عمل أجسامنا وأمراضنا، فالجينوم الأفريقي ليس فقط الأقدم بشريا، ولكنه الأكثر تنوعا، وهذا التنوع يحمل بداخله إمكانات هائلة، حيث يعتبر العلماء قارة أفريقيا هي الجذر الأصلي لتاريخ التطور البشري.

في عام 2003 تم الانتهاء من رسم خرائط الجينوم البشري بأكمله – وهو جهد استغرق 13 عامًا لإدراج جميع “الأحرف” التي تشكل الحمض النووي للشخص، ومنذ ذلك الحين ، أصبح الجينوم المرجعي الذي يستخدمه العلماء لإجراء أبحاثهم ينمو بشكل مطرد.

لكن لاتزال الغالبية العظمى من المواد الوراثية التي تمت دراستها أوروبية، بينما تشكل المواد الوراثية من المنحدرين من أصل أفريقي 2% فقط.

وبحسب فاينانشال تايمز، قال البروفيسور تشارلز روتيمي،  مدير مركز أبحاث الجينوم والصحة العالمية في المعاهد الوطنية للصحة: ​” عشنا أطول فترة كبشر في القارة الأفريقية، ولهذا أثارا مهمة جدا لفهم كيف ساهمت القارة في تشكيل الجينوم البشري الحالي، إما من حيث كيفية النجاة من الأمراض المعدية أو البقاء على قيد الحياة في بيئة قاسية.”

وبدأ الباحثون والأكاديميون وشركات الأدوية والشركات الناشئة في جميع أنحاء العالم مؤخرًا على في الانتباه إلى مكانات التي توفرها أفريقي،  وأجري اتحاد يضم ما يقرب من 500 عالم أفريقي بحثًا رائدًا حول الأسباب الجينية للعمى ومرض الزهايمر والسرطان وأمراض الكلى وغيرها من الأمراض تحت مظلة برنامج H3Africa – بتمويل من المعاهد الوطنية للصحة ومؤسسة ويلكوم البريطانية.

وبدأت شركات ناشئة جديدة في مجال التكنولوجيا الحيوية محلية المنشأ – في تطوير الجيل التالي من العلاجات القائمة على الجينات.

لكن هناك سؤال قلق حول من سيمتلك في نهاية المطاف البيانات الجينومية لأفريقيا، خاصة مع ظهور الإمكانيات التجارية، وتنامي اهتمام الشركات الخاصة من الولايات المتحدة وأوروبا والصين، وبدأ في أفريقيا  يتحدثون عن الآثار الأخلاقية المعقدة لممارسة العلوم الاستخراجية في قارة لها تاريخ طويل من الاستغلال من الخارج.

ما يقرب من 99 % من تاريخ تطور البشر حدث في أفريقيا، ظهر الإنسان الحديث هناك منذ 200 ألف عام، بعد حوالي 100000 عام، بدأت مجموعات صغيرة من الأسلاف الأفارقة مسيرة تناسلية حول العالم، أخذوا معهم مجرد جزء بسيط من تنوع القارة الجيني، ومع تزاوجهم وتكاثرهم ، ظل هذا التنوع يتأثر ويتحول بسبب الضغوط البيئية بما في ذلك المرض، وكانت الاستفادة من هذا التنوع لها آثار على البشرية جمعاء.

يوجد داخل كل خلية بشرية نواة بها حوالي 20 ألف جين مكونة من خيوط من الحمض النووي تحتوي على أربع مواد كيميائية تسمى النيوكليوتيدات، يحتوي الجينوم البشري بأكمله – الذي يشمل جميع جينات الشخص – على 3.2 مليار زوج من تلك القواعد – بالأحرف A و C و T و G – والتي توفر مخططًا لكيفية عمل خلايانا.

والبحث الجينومي هو البحث عن الاختلاف، فإذا كان البشر يتشاركون ما يقرب من 99.9 % من حمضهم النووي ، فالاختلاف في ما تبقى هو المهم. ت

تعرف هذه الطفرات باسم SNPs ، أو تعدد الأشكال أحادي النوكليوتيدات – وهو ما يعادل خطأ مطبعيًا واحدًا في جميع الكلمات في ألف كتاب مقدس، معظمها حميدة ، وتتسبب في عيون زرقاء أو آذان كبيرة أو لا شيء على الإطلاق، لكن ما يسعى إليه العلماء أكثر خطورة هو البحث عن الجينات المتسببة في السرطان ، ومرض الزهايمر ، وارتفاع الكوليسترول ، ومرض باركنسون، لحماية البشر من هذه الآلام.

ودون تضمين البيانات الجينية للأفارقة ، فإن الطب الدقيق وتحرير الجينات والتطورات العلمية الأخرى قد تصبح “مقاطعة للأثرياء والبيض”، هذا التحيز هو “أهم قيد على علم الوراثة في الطب الدقيق” ، وفقًا لورقة بحثية نُشرت عام 2019 في مجلة Nature Genetics.