كتب – محمد الدابولي

منذ عام 2015 وإثيوبيا تشهد اضطرابات سياسية متواصلة على خلفية أزمات سياسية متنوعة، أبرزها الفشل في تحقيق الاندماج الوطني بين الجماعات الإثنية المشكلة للمجتمع الإثيوبي، فتقريبًا باتت كل الجماعات الإثنية تشكل أزمةً في البلاد وتسعى إلى تحقيق أي من الأمرين التاليين: إما تحقيق انفصال سياسي والاستقلال عن الدولة الإثيوبية، أو تحقيق السيطرة على باقي الجماعات الأخرى.

تصاعدت آمال الشعب الإثيوبي في إنهاء الصراعات والنزاعات الإثنية في البلاد في مارس 2018 حين تم تصعيد الزعيم الأورومي الشاب «أبي أحمد» ليكون رئيسًا للوزراء  أملًا في إنهاء اضطرابات قومية الأورومو التي استمرت ثلاث سنوات متواصلة من عام 2015 إلى 2018.

عداء صامت

نجح أبي أحمد جزئيًّا في إيقاف الاضطرابات وعودة الهدوء المؤقت للبلاد الذي سرعان ما تلاشى مع عودة الاضطرابات الإثنية مرة أخرى في القومية الصومالية، ودخوله في حالة عداء صامت مع قومية التيجراي وتحديدًا جبهة تحرير التيجراي؛ إذ حرص أبي أحمد على تحجيم نفوذها المتنامي في الجيش والحكومة الإثيوبية، باعتبارها الحركة المسيطرة سابقًا على الشأن الداخلي الإثيوبي منذ عهد رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ورئيس حركة تحرير التيجراي «ميليس زيناوي».

وجد أبي أحمد ضالته لإسكات التظاهرات في عام 2018 في إقالة قادة التيجراي من الجيش والاستخبارات والمنظمات الحكومية، وإعادة توزيع تلك المناصب على باقي الجماعات الإثنية الأخرى، ظنًّا منه أن هذا قد ينهي المظلومية التاريخية لباقي الجماعات الإثنية الأخرى.

من السر للعلانية

ذكرنا في نقطة سابقة أن الصراع بين أبي أحمد وجبهة تحرير التيجراي كان صامتًا خلال الفترة الماضية خاصة في الفترة الأولى من توليه السلطة؛ إذ تقبلت الحركة على مضض عملية التطهير ولم تبد اعتراضًا قويًّا على تلك العملية.

دخلت العلاقات بين الجانبين مرحلة التوتر القصوى في الأول من ديسمبر عام 2019 حين أقدم أبي أحمد على حل الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا الحزب الحاكم سابقًا، وتشكيل حزب الازدهار الذي رفضت جبهة تحرير التيجراي الانضمام إليه، وهو ما يعني تحديًا صريحًا من الجبهة لسياسات أبي أحمد.

أخذت الأمور منحنًى دراميًّا في مايو الماضي، حين أعلنت إثيوبيا تأجيل انتخاباتها التشريعية المتوقع إجراؤها في سبتمبر 2020 نتيجة تفشي وباء كورونا، وهو ما رفضته جبهة تحرير التيجراي على اعتبار أن التأجيل خرق للدستور، ويسمح لأبي أحمد بالمكوث في السلطة دون أي سند قانوني أو دستوري، وبالفعل أقدمت الجبهة على إجراء انتخاباتها في سبتمبر الماضي رغم عدم اعتراف الحكومة الفيدرالية بنتائج تلك الانتخابات، وباتت الحالة بين الجانبين في طريقها للتصعيد مع تمسك الجبهة بنتائج الانتخابات، ونتج في النهاية التصعيد العسكري الأخير والذي رافقه قرار البرلمان الإثيوبي في 7 نوفمبر بحل الحكومة التيجرانية، وتشكيل حكومة مؤقتة للإقليم لحين إجراء انتخابات جديدة وهو ما يعني إلغاء الانتخابات التي أجريت في سبتمبر الماضي.

تصعيد تيجراني

دخلت كافة الجماعات البارزة في إثيوبيا (الأورومو – الأمهرا – الصومالية – العفر) في صدامات دموية مع نظام أبي أحمد خلال السنتين الماضيتين، إلا أن تصعيد جماعة التيجراي الذي تم مؤخرًا يعد هو الأعنف خلال السنوات الأخيرة، ويعيدنا مرة أخري إلى فترة  ما قبل الفيدرالية الإثنية التي رسخها ميليس زيناوي في بداية التسعينيات، حيث الاقتتال العنيف بين الحكومة المركزية في أديس أبابا وحركات التحرير في القوميات الأخرى.

ففي الرابع من نوفمبر 2020، اتهمت الحكومة الإثيوبية جبهة تحرير التيجراي بمهاجمة معسكرات للجيش في شمال البلاد وسرقة الأسلحة الثقيلة، وبالتالي فالحكومة الفيدرالية لديها الحق في شن هجمات عسكرية ضد معاقل جبهة تحرير التيجراي، وفي المقابل أعلنت جبهة تحرير التيجراي أن لديها ما يلزم من معدات وأسلحة ثقيلة كفيلة برد الهجوم الإثيوبي.

تمرد عسكري

نتيجة التصعيد التيجراني شنت الطائرات الإثيوبية هجمات مركزة على مواقع الجبهة في شمال البلاد، وقوبل التصعيد العسكري من قبل الحكومة بتمرد عسكري ملموس في الجيش الإثيوبي، إذ أعلنت مصادر تيجرانية انشقاق قيادة المنطقة الشمالية وانضمامها لجبهة تحرير التيجراي.

وعلي خلفية التصعيد العسكري بين الجيش الإثيوبي وجبهة تحرير التيجراي طلب نحو 16 (عقيدًا وقائدًا و12 ملازمًا) ضابطًا تيجرانيًّا اللجوء إلى جيبوتي، وجدير بالذكر أن معظم ضباط الجيش الإثيوبي ينتمون إلى جبهة تحرير التيجراي؛ إذ عمل رئيس الوزراء الأسبق ميليس زيناوي على تمكين قوميته من مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش، كما أن الضباط الذين فصلوا خلال عملية التطهير التي أجراها أبي أحمد للجيش في عام 2018 التحق معظمهم بالجبهة، وهو ما شجع قيادة الجبهة على مواجهة الجيش الإثيوبي، كما أن القيادة الشمالية التي رفضت الانصياع لأوامر أبي أحمد تعد القوة الضاربة في الجيش نظرًا لكونها في خط المواجهة مع إريتريا.  

وفي ظل التموضع الجيد لجبهة تحرير التيجراي سياسيًّا وعسكريًّا أقدم رئيس الوزراء أبي أحمد يوم 8 نوفمبر 2020 على إقالة وزير الخارجية وقائد الجيش ورئيس المخابرات، ولم يتم الإفصاح عن أسباب الإقالة إلا أنه من اللافت للنظر أن إقالة قادة الجيش والاستخبارات جاءت بعد الفشل في توقع هجوم التيجراي على المعسكرات الشمالية ونهبها، وفشل قيادة الجيش في السيطرة على المنطقة الشمالية.

ماذا بعد؟

مرت أربعة أيام تقريبًا على بداية التصعيد العسكري بين الجيش الإثيوبي وجبهة تحرير التيجراي إلا أن وكالات الأنباء ووسائل الإعلام لم تفدنا بالتقارير الشاملة حول المعارك الدائرة وحجم الخسائر في الطرفين، الأمر الذي يضعنا في حالة تيهٍ يصعب معها إيجاد تنبؤ حقيقي بمآلات الأمور في إثيوبيا، إلا أننا يمكن أن نلمس بعض الخيوط الدقيقة التي قد تضعنا على الطريق القويم ومنها:

  • التشرذم الإثني “فرصة نجاة لأبي أحمد”: بدأسقوط زعيم نظام الديرغ «منغستو هيلاميريام» في مايو 1988، حين نجح زعيم حركة تحرير التيجراي «ميليس زيناوي» في إعادة توحيد الحركات المعارضة لحكم منغستو في إطار واحد «الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا» إذ نجح زيناوي في توحيد جهود تلك الحركات، ومنها حركة تحرير إريتريا وتوجيهها في الطريق الصحيح لإسقاط حكم منغستو في عام 1991.

الوضع الحالي في إثيوبيا يشبه فترة ما قبل عام 1988، حيث التشرذم الإثني وعدم قدرة أي حركة سياسية على الإطاحة بالنظام القائم، وهو ما سيعمل عليه أبي أحمد خلال الفترة القادمة، إذ دائمًا ما يحرص على تحقيق انفصال وعداء بين قومية التيجراي والأورومو، وبين التيجراي والأمهرا، وأخيرًا بين الأورومو والصوالية، أملا في عدم التقاء تلك الحركات في حركة واحدة تهدد وجوده في السلطة.

  • خبرة أبي أحمد في امتصاص الاضطرابات الداخلية:  رغممكوثه في السلطة لأكثر من عامين، إلا أن أبي أحمد بات ذا مناعة قوية ضد الاضطرابات السياسية المتلاحقة والتي بلغت نحو سبعة اضطرابات كبرى بدأت مع محاولة اغتياله في 23 يونيو 2018 ثم احتجاجات أديس أبابا العسكرية ومقتل مدير مشروع سد النهضة في يوليو 2018، واختتم عام 2018 بتمرد في إقليم الأوجادين، وفي عام 2019شهدت مدينة بحر  دار عاصمة إقليم الأمهرا تمردًا عسكريًّا قتل على إثره رئيس أركان الجيش ورئيس الولاية ومستشاره، وفي أكتوبر 2019 عادت اضطرابات الأورومو مرة أخرى على خلفية التحرش بالزعيم الأورومي جوهر محمد، وتجددت الاضطرابات مرة أخرى في يونيو/ يوليو 2020 على خلفية مقتل المغني الأورومي «هاشالو هونديسا»
  • الموقف الإرتيري: رغم التفوق العسكري الملحوظ لجبهة تحرير التيجراي نظرًا لاحتوائها العديد من قيادات الجيش السابقين والمخضرمين واستيلائها على وحدات ومعدات عسكرية شمال البلاد، إلا أن الموقف الإرتيري سيكون حاسمًا لصالح الحكومة الفيدرالية والجيش الإثيوبي؛ إذ لن تسمح أسمرة لقوات الجبهة في استغلال أراضيها كمنطقة إعداد لوجستي آمنة لها، إذ يناصب أسياس أفورقي العداء الصريح لقادة الجبهة على خلفية الصراع الذي دار بين البلدين من عام 1998 إلى عام 2000 ، ومن المحتمل أن يشدد أفورقي الحصار علي الجبهة لصالح أديس أبابا.
  • مخاطر الانقسام: الصراع ما زال في بدايته ولم يحسم بعد؛ لذا فالحديث عن احتمالية الانقسام والتشرذم ليس في أوانه حاليًا، لكن المتوقع هو تشديد القبضة الأمنية والاستبدادية لأبي أحمد ومواجهة الاضطرابات بالمزيد من القمع الأمني والعسكري، كما أن دول الجوار الإثيوبي والاتحاد الأفريقي لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام أي محاولة انفصالية في واحدة من أكبر البلدان الأفريقية من حيث المساحة والسكان، الأمر الذي ينذر بتهديد خطير لباقي الدول الأفريقية الأخرى، لذا فمن المحتمل -على أفضل الظروف- استقالة أبي أحمد من منصبة أو دفعه للاستقالة عبر انقلاب عسكري في البلاد، في محاولة لامتصاص الأزمة الدائرة في البلاد.