كتب – محمد الدابولي

على مدار التاريخ المصري قديما وحديثا، شكلت القارة الأفريقية عمقاً استراتيجيا للدولة المصرية، لذا يأتي الاهتمام المصري بالقارة الأفريقية عبر مدار القرون الماضية ترجمة واقعية لأهمية القارة بالنسبة لمصر، فمنها منبع النيل وامتدادها الحضاري، وعلى مدار تلك الأزمنة استغلت مصر كافة أدواتها السياسية والثقافية والتجارية في ترسيخ حضورها الأفريقي.

لم ينقطع التواصل المصري الأفريقي بتاتا، إلا في مرحلة معينة، مرحلة فقدت فيها معظم الدول الأفريقية استقلالها وحريتها، إذ حرص المستعمرون المؤتمرون في برلين 1884 على سحق استقلالية القارة السوداء، وتقطيع أوصالها بين الدول الاستعمارية الغربية، وأخيرا قطع روابط التواصل الحضاري الأفريقي الأفريقي خاصة التواصل بين شمال القارة وجنوبها.

كانت لمصر سياسية أفريقية نشطة قبيل مؤتمر برلين، مبنية على طموحات محمد علي والخديو إسماعيل، وما لبثت تلك السياسية أن انطفأ بريقها مع الاحتلال الإنجليزي لمصر 1882، ومؤتمر برلين 1884، ومنذ احتلالها خاضت مصر  نضالا شرسا لأجل تحقيق استقلالها الذي تحقق بصورة فعلية مع شروق يوم الثالث والعشرين من يوليو لعام 1952، إذ كانت ثورة يوليو بمثابة الخيط الفاصل بين التحرر والاستقلالية وبين الاستعمار والتبعية للدول الإمبريالية.

هبت ثورة يوليو لنفض الغبار عن السياسة الخارجية المصرية وإعادة تأطيرها من جديد، بما يسمح بعودة الدور الرائد للقاهرة إقليميا ودوليا،  ففي هذا الصدد أوجز الرئيس المصري الراحل «جمال عبد الناصر» والذي تحل ذكرى وفاته تلك الأيام في التعبير عن تلك الحالة « إنها أشبه ما تكون بدورية استكشاف…. إنها محاولة لاستكشاف نفوسنا، لكي نعرف من نحن وما دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات ومحاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا في الماضي والحاضر لكي نعرف في أي طريق نسير».

الكلمات السابقة في كتاب فلسفة الثورة للرئيس جمال عبد الناصر الصادر في عام 1956، والذي يعد أول وثيقة رسمية مصرية تحدد أطر السياسة الخارجية المصرية في مرحلة ما بعد يوليو 1952، إذ قسم «عبدالناصر» مجالات السياسية الخارجية أو كما سماها دوائر الحركة بثلاث دوائر وهي الدائرة العربية والدائرة الأفريقية وأخيرا الدائرة الإسلامية.

في إطار حديثة عن الدائرة الثانية «الدائرة الأفريقية» أكد «ناصر» أن مصر لا يمكن لها أن تنسلخ عن قضايا القارة الأفريقية والتي كانت تتمحور في قته حول التحرر من الاستعمار والعنصرية، وذلك لسبب بديهي هو أننا في أفريقيا، وأن القارة الأفريقية تنظر إلينا على أننا حراس الباب الشمالي للقارة وصلتها بالعالم الخارجي، مضيفا أن النيل شريان الحياة في مصر يستمده من قلب القارة.

الأسباب السابقة كانت دافعا لعبدالناصر وثورة يوليو في مد أطر تعاونها مع الشعوب الأفريقية في مرحلة مبكرة، أي قبل استقلال معظم الدول الأفريقية، وللعلم أن كتاب فلسفة الثورة قد خُط بالقلم في وقت لم تكن عدد الدول الأفريقية المستقلة تتجاوز أصابع اليد الواحدة وهم تقريبا مصر وليبيا وليبيريا وإثيوبيا، فيما كانت جنوب أفريقيا ترزخ تحت نير الحكم العنصري، لذا في هذا المقال سيتم التركيز على أربع محاور رئيسية تمثل ميراث التجربة الناصرية في أفريقيا وهي كالتالي:

أولا. التحرر من الاستعمار

اتخذت القاهرة موقفا حازما إزاء قضية الاستعمار وأهمية تحرر كافة الأقطار الأفريقية من ظلم المستعمر، مستغلة أدواتها الممكنة لتحقيق تلك الغاية، ففي الوقت الذي سخرت فيه الإذاعة المصرية إمكانياتها عبر إثير «صوت أفريقيا» المذاعة باللغات المحلية الأفريقية (33 لغة محلية أفريقية) والتي كان لها دورا في شن حملة إعلامية كبرى ضد قوى الاستعمار وإلهاب حماسة الشعوب الأفريقية للتحرر، وهو ما تجلي في ثورة الماو في كينيا والتي كان لها دورا في تحقيق استقلال البلاد عام 1963.

أما عن دعم الكفاح المسلح، فكانت للقارة السبق في دعم الثورة الجزائرية التي انطلقت شراراتها الأولى عبر إذاعة صوت العرب، وتلقت جبهة التحرير الجزائرية كافة الدعم العسكري من القاهرة طوال فترة الخمسينيات وحتي إعلان استقلال الجزائر في عام 1962، كما كانت القاهرة من ضمن الدول المؤسسة لـ«لجنة التنسيق لتحرير أفريقيا» والتي أسهمت بدور فعال في تقديم العون العسكري والتدريب والخدمات اللوجستية للعديد من حركات التحرر الأفريقية المسلحة في أنجولا وموزمبيق وروديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليا).

وعلي جانب أخر  تم تأسيس الرابطة الأفريقية عام 1955 التي ضمت في طياتها معظم زعماء حركات التحرر الأفريقي والتي تحولت في مرحلة لاحقة إلي الجمعية الأفريقية، وبلغ عدد حركات التحرير المنضوية في الرابطة 19 حركة تمثل جميع حركات التحرر في شرق وغرب القارة الأفريقية، وساهمت الرابطة (الجمعية الأفريقية) في إعداد قيادات حركات التحرر في أفريقيا.

ودبلوماسيا كان لعبدالناصر دورا حيويا في مساندة استقلال الدول الأفريقية ورفض تبعيتها لأي من المعسكرين الشرقي والغربي، وذلك عن طريق المساهمة في تأسيسي كتلة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التي تأسست في مؤتمر باندوج بإندونيسيا عام 1955، كما استضافت القاهرة مؤتمر التضامن الأفريقي الأسيوي المنعقد خلال الفترة ما بين 26 ديسمبر 1957 وأول يناير 1958.

لم يرق للقوى الاستماعرية الدور المصري القوي في دعم حركات التحرر الأفريقية، لذا سعت بكل ما أوتيت من قوة لأجل وقف المساعدات المصرية لتلك الحركات، حتي وإن وصل الأمر لحد الاغتيالات السياسيةـ وهو ما تم في يوم 16 إبريل 1957 حين اغتالت قوى الاستعمار السفير المصري وعضو المجلس الاستشاري الصومالي السفير «محمد كمال الدين صلاح» في مقديشو ردا على تحركاته المؤيدة لاستقلال الصومال.

ثانيا. الحرص على وحدة الدول الأفريقية

حرص «عبدالناصر» على وحدة الدول الأفريقية الوليدة وصد محاولات القوى الاستعمارية لتفتيت تلك الدول، فبعد استقلال الدول الأفريقية حرضت القوى الاستعمارية بعض النخب الأفريقية التابعة لها على الانفصال والتبعية للدول الغربية، ليتجلى لنا ظاهرة جديدة وهي الاستعمار الجديد القائم على خروج المستعمر من أفريقيا مع بقاء سياسته في تلك الدول تديرها نخب عميلة للمستعمر.

وبرز في هذا الشأن «تشومبي» حاكم إقليم كاتنجا الغني بالماس، ففي 11 يوليو 1960 أعلن تشومبي انفصال اقليم كاتنجا عن الكونغو، وإزاء تحركات «تشومبي» طالب الرئيس الكنغولي «كازافوبو» ورئيس الوزراء «باتريس لومبومبا» بضرورة تدخل الأمم المتحدة لمنع انفصال اقليم كاتنجا، لذا قرر مجلس الأمن إرسال قوات حفظ سلام للكونغو لمنع انفصال اقليم كاتنجا، وكانت مصر على رأس القوى المشاركة في عمليات حفظ السلام في الكونغو وترأس البعثة المصرية وقتها الفريق «سعد الدين الشاذلي».

ونظرا لدور باتريس لومومبا في مناهضة الاستعمار البلجيكي، أقدمت القوى الموالية للاستعمار على القبض على لومومبا وقتله في العاصمة كينشاسا علي يد مرتزقة تشومبي في 17 يناير 1961، ولم تكتف ميليشيات تشومبي باغتيال لومومبا بل قامت بملاحقة زوجة لومومبا وأطفالها، إلا أن البعثة المصرية في الكونجو وبتكليف شخص من الرئيس جمال عبدالناصر نجحت في إجلاء أسرة لومومبا بواسطة جوازات سفر مصرية وإرسالهم إلي القاهرة ليكونوا في مأمن بعيدا عن محاولات الاغتيال والتصفية لهم.

بيافرا والدور المصري

نظرا للدور المصري في دعم وحدة الدول الأفريقية، لجأت نيجيريا لطلب العون والدعم الفني المصري في حرب إقليم بيافرا الانفصالية خلال الفترة من عام 1967 وحتي عام 1970، وعلى الرغم من ظروف مصر حينها حيث نكسة 1967، وحرب الاستنزاف، لم تتواني مصر في تقديم الدعم الفني خاصة الجوي للجيش النيجيري، إذ أدي اشتراك طيارون مصريون في الحرب إلي تدمير القدرات الجوية التي امتلكتها قوات بيافرا الانفصالية وحماية سماء الدولة النيجيرية من اعتداءات طيران بيافرا وبالفعل انتهت الحرب في عام 1970 بانتصار الجيش النيجيري.

ثالثا. مقاومة العنصرية

أدرك عبد الناصر  مآساة العنصرية في أفريقيا مبكراً، ففي كتاب فلسفة الثورة الصادر قبل استقلال أغلبية الدول الأفريقية تحدث عبد الناصر عن مآساة 200 مليون أفريقي في مواجهة خمسة ملايين من البيض، لذا كان عبد الناصر حريص علي انتقاد سياسات مكافحة العنصرية خاصة في جنوب أفريقيا.

ونتيجة لاستمرار السياسات العنصرية في جنوب أفريقيا، قطعت مصر علاقتها مع جنوب أفريقيا في 1 مايو 1961 ، كما التقي الرئيس عبدالناصر، بالزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا  قبل أن يتم القبض عليه في عام 1962.

رابعا . دوره في التكامل الأفريقي

يعتبر جمال عبدالناصر والرئيس الغاني نكروما والرئيس الغيني أحمد سيكوتوري والتنزاني جوليوس نيريري هم الآباء المؤسسة لمنظمة الوحدة الأفريقية، فمع بدء استقلال الدول الأفريقية في عام 1956 حيث استقلال تونس والمغرب، وغانا في عام 1957، بدأ التفكير الجدي بين زعماء القارة حول سبل التعاون والتكامل المشترك بين تلك الدول، وتعززت رؤية التكامل بصورة كبيرة مع استقلال 17 دولة أفريقية في عام 1960.

وقبل تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية في 25 مايو 1963، كانت هناك العديد من الصولات والجولات بين زعماء القارة حول كيفية التعاون والتكامل المنشود بين دول القارة، ففي عام 1958 انعقد مؤتمر أكرا للشعوب الأفريقية، ثم تكرر المؤتمر مرة أخري في تونس 1960، ثم مؤتمري الدار البيضاء ومنروفيا في عام 1961، وحظيت القاهرة باستضافة مؤتمر الشعوب الأفريقية الثالث في عام 1962، وأخيرا توجت جهود الزعماء الأفارقة في مؤتمر أديس أبابا 1963 بتدشين منظمة الوحدة الأفريقية بعضوية 30 دولة أفريقية والذي عد المؤتمر التأسيسي، أما مؤتمرها الأول فكان في القاهرة وتحديدا في 18 يوليو 1964.

وأخيرا.. بعد سرد أبرز جهور الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في أفريقيا خلال فترتي الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، نجد أن الرئيس عبدالناصر تحول ليقونة أفريقية خالدة ترمز إلي التحرر الوطني والاستقلالية ولا عجب من أن ترفع صورة حتي الآن في العواصم الأفريقية، أو يُطلق اسمه على أبرز الشوراع في تلك الدول.