كتب – أماني ربيع

فيم يتعلق بالفن تعد أفريقيا منجما بكر للحالمين وعشاق الفنون والتراث والتنقيب في خبايا الماضي البعيد، حيث تكشف التماثيل والأعمال المختلفة عن الحس الإبداعي المتاصل في أبناء القارة السمراء، وتزيح الستار بشكل جزئي عن تاريخهم وأنظمتهم الاجتماعية، أي أنها إلى جانب الوظيفة الإبداعية تؤدي دورا إنثروبولوجيا أيضا.

وبالنسبة لمحبي الفنون ودارسي تاريخ الفن، للمعاصرين من الفنانين أيضا نصيبهم من الاهتمام والتقدير، ومن يصدق أنه في بيت أنيق وحديث بأحد ضواحي أثينا، سترى الكثير من إبداعات الفنانين الأفارقة المعاصرين سواء من يعيشون في أفريقيا، أو هؤلاء الذين جرفهم الشتات بعيدا عن وطنهم الأم.

ربما لا يبدو هذا غريبا جدا، إذا عارفنا أن رجل الأعمال هاري ديفيد متزوج من لانا دي بير، وهي من جنوب أفريقيا، حيث تشبع عن طريقها بالكثير والكثير عن القارة الفريقية بتاريخها الحافل، وجذورها الإبداعية التي لاتزال ممتدة في الفنانين المعاصرين الذين يستوحون أعمالهم من تاريخها وألوانها وألامها.

وينحدر ديفيد الذي تجاوز الأربع وخمسين عاما من عئالة محبة للفنون، وه أحد الشركاء الإداريين لمجموعة Leventis Group الدولية، والتي تأسست في غانا ونيجيريا على يد عمه القبرصي اليوناني أناستاسيوس جورج ليفنتيس سنة 1936، وهي منظمة معنية بدعم الثقافة وقامت بتقديم التراث اليوناني والقبرصي إلى العالم ف، وتم تمويل عروض للآثار القبرصية في متحف متروبوليتان بنيويورك، والمتحف البريطاني بلندن.

صوت مسموع

لكن ديفيد يبدو مهتما أكثر بالفنون المعاصرة، وبخاصة الفن الأفريقي، وبحسب وجهة نظره فهو يرى أن دعم فنانين لازالوا على قيد الحياة بالفعل، هو أمر يدفعهم لتقديم المزيد من الإبداع ويفتح المجال واسعا أمام الفن الفريقي ليصبح صوته مسموعا عالميا.

وحب هاري ديفيد للفن الأفريقي، نابع بحسب حديثه مع صحيفة فاينانشال تايمز، من نشأته في نيجيريا، التي قضى بها ما يقرب من ثلثي حياته، وبالتالي تأثر كثيرا بتاريخها وظروفها، وهو أيضا على خبرة جيدة بفنانيها، وثقافتها، وهو لا يستطيع الابتعاد عنها طويلا، لذا لا يغيب عنها في العادة أكثر من شهر.

وبالنظر إلى جائحة كورونا، فقد تغير جدول أعمال نشاطهم، وتأجل معرض مجموعتهم في المتحف الوطني للفن المعاصر بأثينا، من مايو إلى 19 سبتمبر، حيث عاد المتحف إلى العمل بعد ظروف الإغلاق التي فرضها الفيروس التاجي.

وتضم مجموعة ديفيد وزوجته الآن، نحو 400 قطعة مختلفة، لفنانين مثل: راشد جونسون وتايي إيداهور وهانك ويليس توماس، والكاميروني، باسكال مارثين تايو، من ضمنها عمل عُرض في معرض Serpentine Sackler بلندن عام 2015، وكذلك أعمال الفنان البنيني روموالدي هازومي.

وهو لا يهتم بالأرقام قدر اهتمامه بالعمل الذي أمامه وجودته وتأثيره، لأنه على حد قوله، “صعب الإرضاء”.

وفكرة المعرض جاءت من الحكومة اليونانية برئاسة كيرياكوس ميتسوتاكيس، بعد ما سمعوا عن جهود ديفيد لجمع الأعمال التي تتعامل مع الدول النامية، والهجرة والشتات، وهي كلها موضوعات حاضرة في العالم الآن، كما يتردد صداها في اليونان أيضا، وبالتالي كانت موافقة عاشق الفن هاري ديفيد أمرا سهلا.

ويقرض ديفيد وزوجته المتاحف والمعارض الفنية بسخاء، ففي النهاية هم يريدون تقديم الفن الأفريقي المعاصر للعالم، لكن مجموعتهما لم تظهر علنا إلى الآن، لكن بيتهم أصبح أشبه بمتحف، حيث يعيشون محاطين بالتحف والمنحوتات واللوحات، ويرحبون بابتسامة وكرم بحضور الضيوف لديهم، سواء من الأصدقاء، أو أمناء المتاحف، والفنانين، والمهتمين بالفن.

وقالت الزوجة دي بيير: “نستضيف الكثير من حفلات الغداء هنا، ونتحدث عن الفن.”

الوظيفة الاجتماعية للفن

وضمن أعمال المجموعة كرة ضخمة من أنابيب البنزين المختلطة من تصميم الكاميروني باسكال مارثين تايو، تحدث عنها ديفيد موضحا رؤية الفنان: “يعتبر النفط محركًا كبيرًا للاقتصادات الأفريقية، لكن له أيضا تأثيرا مدمرا على البيئة، ففي نفس الوقت الذي يمكنه جعل الحياة أفضل، بإمكانه أيضا أن يحولها للأسوأ، إنه أمر معقد.”

ويستعين ديفيد بمقولة للفنان البينيني هازومي، “ما يلقي به الغرب في أفريقيا كنفايات، أعود به إليهم كفن، في إشارة منه لإقبال الفنانين الأفارقة على استخدام المواد المعاد تدويرها، ليس من منطلق فني، بقدر ما هو نفص في الإمدادات الفنية والمعدات وأدوات الرسم والنحت، وهو الخيط المشترك بين مجموعة هاري ديفيد والأعمال التي تتناول قضايا مثل الفقر والعنصرية والظلم الاجتماعي.

وفي عمل للفنان ميشاك جابا من بينين، تقدم ساعة حائط دراسة في نظم الحكم الأفريقي، حيث أرقام الساة تحمل وجها لزعيم أفريقي مختلف، من نيلسون مانديلا إلى زعيم اللاستقلال الكونغولي باتريس لومومبا، إلى الليبي معمر القذافي، وكيف يمثل كل وجه حقبة في تاريخ بيلاده، وقصة مختلفة من المجد وصنع التاريخ إلى الظلم والقهر والانقلابات.

مثال على ذلك هو الطابق العلوي: تركيب 13 ساعة حائط للفنان البنيني ميشاك جابا هو دراسة في الحكم الأفريقي. كل وجه على مدار الساعة يحتوي على صورة لزعيم مختلف ، بدءًا من نيلسون مانديلا وزعيم الاستقلال الكونغولي باتريس لومومبا إلى الطاغية الليبي معمر القذافي. بالقرب من الساعات ، يوجد تمثال من البرونز المصبوب لحورية البحر الأفريقية للفنان الكيني المولد وانجيتشي موتو يجلس بشكل ملكي فوق قاعدة ضخمة. “إنها ذاهبة إلى عرض في جوهانسبرغ. “ستغادر في غضون يومين ،” يقول ديفيد.

وضمن الفنانين الذي يفضل ديفيد عملهم الكينية إنجيتشي موتو، الذي تجمعه بها علاقة تمتد لخمسة عشر عاما، وأيضا الجنوب أفريقية بيلي زانيجو، التي تحب صناعة لوحادت جدارية من الحرير، هذا بخلاف، النيجيري تايي إيداهور، والأمريكيون الأفارقة هانك ويليس توماس ، وميكالين توماس وراشيد جونسون ، بالإضافة إلى الفنانين البريطانيين كريس أوفيلي ولينيت يادوم بواكي.

مخاوف من الاهتمام المتزايد

وبالرغم من تزايد الاهتمام بالفن الأفريقي المعاصر، خلال السنوات الأخيرة، لكن هناك عدد قليل جدا ممن يقومون باقتناء أعمال في هذا المجال، منهم، الرئيس السابق لشركة “بوما” للملابس الرياضية، يوخن زيتز، والذي قدم ما جمعه في إعارة ممتدة إلى متحف زيتز للفن المعاصر في كيب تاون بجنوب أفريقيا، الذي تم افتتاحه في عام 2017، وجان بيجوزي، وريث أحد علامات السيارات الفرنسية الشهيرة.

لكن المختلف بشأن هاري ديفيد وزوجته دي بيير، أنهما يقومان بزيارة أستوديوهات الفنانين، ويكونون علاقة إنسانية معهم، كما يزورون جامعي التحف الآخرين، والمعارض الفنية في أفريقيا ذاتها، وأحيانًا يقومون بهذه الزيارات مع لجنة Tate’s Africa Acquisitions ، التي انضم إليها ديفيد عام 2013 وزوجته عام 2019، ومع هذه اللجنة ذهبا إلى جنوب أفريقيا، وغانا ونيجيريا وهولندا حيث يعيش العديد من الفنانين الأفارقة الآن.”

لا يعبتران هذه الزيارات مجرد مرور عابر للشراء والاقتناء، بل فرصة للتعلم، حيث هناك القليل جدا من الأبحاث والدراسات حول الفن الأفريقي المعاصر.

وتبرع الزوجان بجدارية حائظ من الحرير من تصميم بيلي زانجوا للمعرض بالإضافة إلى لوحة للفنانة الجنوب أفريقية ليزا برايس وواحدة للفنان الكيني مايكل أرميتاج.

و يرحب ديفيد باهتمام المتاحف المتزايد بالفن الأفريقي، فهذا جيد للفنانين، لكنه يخشى أن يتزايد هذا الاهتمام بوتيرة خاطئة تحول الفن من عملية إبداع إلى نمط استهلاكي يتعلق بالأموال، ولا يهتم بالعمل الفني بل يراه مجرد فرصة لكسب النقود، ويختفي الفنان بعد ذلك.

حيث يشتري المضاربين في السوق أعمال الفنان ويعيدون بيعها بسرعة، والخطر يكمن في أن يتمكن المضاربون من التخلص من أعمال الفنان بشكل جماعي بمجرد احتضانهم له ، ما يتسبب في انهيار الأسعار، وهو كارثة لأي فنان شاب، وذكر مثالا للفنان الغاني أموكو بوفو، الذي اقتحم الساحة الفنية ديسمبر 2019، بعرض صغيرفي متحف “رابل” في ميامي، ثم أصبحت أعماله تباع في المزادات بأسعار مذهلة تعدت النصف مليون إسترليني، وهو لايزال فنان في بدايته وليس له خبرة مع المزادات.

يرى ديفيد أن هذه ظاهرة غير صحية، وتؤثر بشكل سلبي على الفنانين الحقيقيين

لا يعتقد ديفيد وزوجته أنهما قد يقومان بافتتاح متحف خاص بمجموعتهما، لأنهما يريدان مشاركة المجموعة مع الآخرين، عبر تقديم الأعمال في المعارض أو المتاحف بأفريقيا، وصناعة مشهدا فنيا بالقارة يمكن توثيقه، وحلمهما أن يصنعا شيئا جوهريا للقارة السمراء.