كتب – محمد الدابولي

مشاهد صادمة ومؤلمة ضجت بها وسائل الإعلام السودانية حول حجم الكارثة البيئية التي خلفتها الفيضانات العارمة التي شهدتها ولايات السودان هذا العام، فخلال الأيام الماضية غمرت الفيضانات العديد من قرى والمناطق المطلة على «النيل الأبيض» خاصة في مناطق الشقيلات غرب، والكلاكلات جنوب غرب الخرطوم، وكذلك أحياء القمار والفتيحات بمدينة أم درمان، فيما أفاض النيل الأزرق في العديد من المناطق والأحياء بالعاصمة الخرطوم، مثل شارع النيل ونادي الزوارق والعديد من المناطق الأخرى.

أي أن مدينة الخرطوم باتت محاصرة من الفيضان، إذ تعد المدينة ملتقى النيل الأبيض بالنيل الأزرق، الأمر الذي يعظم من مأساة العاصمة والمدن القريبة منها؛ مثل جزيرة توتي التي تكافح حاليًا للنجاة من الغرق، الأمر الذي دفع قوات الدفاع المدني للعمل على إجلاء السكان في مدن الخرطوم وسنجة بولاية سنار وود مدني.

لا توجد أرقام حقيقية حتى الآن توضح مقدار الضرر والكارثة التي حلت بالشعب السوداني جراء تلك الفيضانات العارمة، فمبدئيًّا أكدت وزيرة العمل والتنمية الاجتماعية «لينا الشيخ» تخطي الخسائر حاجز عشرات الآلاف من المنازل المغمورة بالمياه، ووفاة أكثر من 100 شخص على الأقل وتشريد نصف مليون مواطن على الأقل من منازلهم، فضلا عن نفوق الآلاف من رؤوس الماشية، وفي خضم تلك الكارثة البيئية تحاول الحكومة والشعب السوادني تخطي أثر تلك الفيضانات والتغلب على الأزمة، حيث أعلن مجلس الأمن والدفاع السوداني حالة الطوارئ لمدة ثلاثة شهور لدرء تلك التداعيات البيئية.

غضب نيلي متصاعد

أكدت وزارة الري السودانية أنه في عام 1902 تم البدء بآلية رصد مقياس الفيضانات في السودان، وطوال الفترة من 1902 وحتى 2020 لم تشهد السودان ارتفاعا في مناسيب النهر إلى الدرجة الحالية، ففي العام الماضي سجل الفيضان ارتفاعا قدره 17.26 متر، أما الفيضان الحالي فكانت مناسيبه تاريخية بامتياز؛ إذ سجلت لجنة الفيضانات ارتفاع منسوب الفيضان في محطة الخرطوم 17.58 متر في حين سجلت محطة شندي التي تقع شمال العاصمة الخرطوم 18.25 متر.

لم تخلد الذاكرة السودانية في مرحلة ما بعد الاستقلال فيضانًا أكثر غضبًا ورعبًا من الفيضان الحالي؛ فنهر النيل في حالة انسياب تاريخي، إذ تجاوزت مناسيب نهر النيل حاجز 17.64 متر يوم السبت الموافق 5 أغسطس 2020 متخطيًا بذلك الأرقام القياسية التي حققها فيضانا 1946 و1988، وتشير المصادر الرسمية إلى أن الفيضان الحالي يشبه إلى حد ما الفيضان الذي شهدته البلاد في عام 1912.

فيضان عام 1946 الذي يعد أعلى فيضان واجهته البلاد في تاريخها، إذ سجل وقتها 17.14 متر، وتكرر الأمر في عام 1988 ومن بعده باتت الفيضانات المدمرة أمرا شبه سنوي متخطية حاجز فيضان 1946، فخلال السنوات الأخيرة عانت السودان من الآثار المدمرة لتلك الفيضانات، الأمر الذي قد يثير التساؤلات حول أسباب تعاظم تلك الظاهرة البيئية.

إنذار مبكر

شكل انهيار «سد بوط» في 30 يوليو 2020 بمثابة إنذار مبكر للحكومة السودانية حول خطورة الموقف والفيضانات المستقبلية، إذ أدى انهيار السد الواقع في مدينة بوط بولاية النيل الأزرق عن تدمير 600 منزل وتشريد 600 عائلة، فالسد كانت سعته التخزينية 5 ملايين كيلومتر مكعب من المياه، وجاء الانهيار نتيجة الأمطار الغزيرة المنهمرة في تلك المنطقة.

التضامن الأفريقي

إن المصائب لا تأتي فرادى، هكذا الحال في السودان ودول شرق أفريقيا، إذ أصبحت تلك الدول تناضل لأجل البقاء ومواجهة تداعيات بيئية شديدة الخطورة، مثل الفيضانات وانتشار أسراب الجراد، فضلا عن تفشي جائحة كورونا في العالم ودول شرق أفريقيا، الأمر الذي جعل تلك الدول معزولة في مواجهة تلك الأزمات المتلاحقة، وهو ما يدفعنا إلى الحديث عن أهمية التضامن الأفريقي وتشغيل آلية الإنذار المبكر للتنبؤ بالكوارث.

بدت عملية التضامن الأفريقي مع ضحايا الفيضانات في السودان شحيحة للغاية؛ فرغم معاناة الشعب السوداني من أثر الفيضانات لم تتحرك أي دولة أفريقية لنجدة السودان سوى مصر التي دشنت جسرا جويا لنقل المساعدات يوم الإثنين الموافق 7 سبتمبر لنقل المساعدات إلى الخرطوم، كما سيرت طائرات أخرى إلى مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان لمواجهة تداعيات السيول، كما أرسلت دولة الإمارات 100 طن من المواد الغذائية إلى متضرري الفيضانات في السودان.

وإزاء غياب التضامن الأفريقي مع السودان في محنتها الحالية اجتمع «علي بن أبي طالب عبدالرحمن» مندوب السودان في مقر الأمم المتحدة بجنيف يوم الإثنين 7 سبتمبر مع مسئولي منظمات الإغاثة العالمية؛ مثل جمعية الصليب والهلال الأحمر ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية للتباحث حول سبل تقديم الدعم والإغاثة للسودان في أزمتها الحالية، وتخوف بلاده من تداعيات كارثية مثل انتشار الأوبئة والأمراض في المناطق التي ضربتها الفيضانات.

تأثيرات مدمرة

الأمر ما زال بعيدًا لإحصاء التأثيرات المدمرة للفيضان الأخير في السودان؛ فما يمكن إحصاؤه حاليا هو عدد الضحايا من القتلى والنازحين والمشردين وتدمر المنازل ونفوق عشرات الآلاف من رؤوس الماشية التي تعد مصدر رزق العديد من أبناء الشعب السوداني.

لكن الفيضان الأخير يشي بالعديد من الأمور الكاشفة لحجم الأزمة التي تعانيها السودان منها على سبيل المثال انهيار البنية التحتية للبلاد وعدم قدرتها على مواجهة تلك الكارثة المتجددة سنويًّا، وعَزَتْ وسائل التواصل الاجتماعي السودانية أسباب انهيار البنية التحتية في بلادهم وعدم قدرتها على تحمل تلك الكارثة إلى العديد من الأسباب؛ منها أن ذلك يعود لعقود من الفساد وإهدار المال العام وعدم تطوير تلك البنية، وأن الحكومة الحالية لم تكن مستعدة لمواجهة تلك الأحداث، في حين أرجع البعض السبب إلى العقوبات الدولية التي فرضت على البلاد طوال أكثر من عقدين من الزمن، الأمر الذي حد من قدرة السودان على تطوير بنيته التحتية لمواجهة الفيضانات المدمرة.

ليس السودان وحده

لم يكن السودان هو الدولة الوحيدة التي تعرضت هذا العام لفيضانات مميتة، فمعظم دول شرق أفريقيا إثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا والصومال تعرضت لفيضانات مدمرة، أدت لوفاة مئات الأشخاص وإغراق هكتارات الأفدنة الزراعية وتدمير آلاف المنازل على رؤوس قاطنيها، حيث شكل عام 2020 عام الفيضانات العارمة في أفريقيا.

ففي خلال شهري مارس وأبريل 2020 ضربت فيضانات فجائية عدة دول أفريقية؛ مثل كينيا التي شهدت وفاة أكثر من مئتي شخص، بالإضافة إلى تشريد عشرات الآلاف من السكان، وتضرر ما يقارب 29 محافظة من أصل 74 محافظة من تلك الفيضانات، وفي أبريل 2020 تعرضت ولاية بونتلاند الصومالية إلى فيضانات وصفت بالمفاجئة أدت لوفاة 16 شخصا على الأقل، ونزوح مئتي ألف شخص على الأقل نتيجة تلك الفيضانات، فضلا عن تدمير آلاف المنازل، وفي جيبوتي أيضا تسببت الفيضانات المفاجئة في مقتل ثمانية، وتشريد مئة ألف مواطن في العاصمة جيبوتي.

أما إثيوبيا فكان نصيبها من الفيضانات المدمرة وفيرًا، ففي أبريل 2020 تعرضت لفيضانات خاصة في منطقة شعوب وقوميات الأمم الجنوبية، الأمر الذي أدى لمقتل 12 شخصًا، كما خلفت تلك الفيضانات المفاجئة نحو 4 قتلى في مدينة دير داوا، وتكرر الأمر أيضا في رواندا وأوغندا وتنزانيا إذ شهدت فيضانات مفاجئة هذا العام أيضا أدت لوفاة عشرات الأشخاص وتدمير مئات المنازل، أما جمهورية الكونغو الديمقراطية فقد تسببت الأمطار والفيضانات في وفاة 44 شخصا وتشريد عشرات الآلاف من المواطنين في مقاطعتي كيفو الجنوبية وأوفيرا، وتجددت فيضانات إثيوبيا مرة أخرى في شهري أغسطس وسبتمبر 2020 مشردة عشرات الآلاف من البشر.

فيضانات فوق مستوى العادة

أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية في تقرير له في مايو 2020 أن منطقة شرق أفريقيا تتعرض لموسم فيضانات فوق مستوى العادة؛ إذ سجلت محطات الأرصاد الجوية أعلى معدلات هطول الأمطار في العام منذ 40 عاما، وذلك منذ بدء موسم الأمطار الطويلة في مارس 2020، وفيما يلي جدول بأبرز الخسائر التي تعرضت لها دول شرق أفريقيا خلال الفترة من مارس إلى مايو 2020:

ويشير مكتب الأمم المتحدة إلى أن منسوب المياه في بحيرة فيكتوريا هو الأعلى منذ عام 1964، الأمر الذي تسبب في تدمير المجتمعات والقرى القريبة من شواطئ بحيرة فيكتوريا، وإيجاد تحديات كبيرة أمام محطات الطاقة الكهرومائية القريبة من البحيرة، وفي بروندي فاض نهر روسيزي نتيجة تلك الأمطار، وفي الصومال غمرت المياه 27 منطقة.

محاولة للفهم

الفيضانات المدمرة حاليا في السودان وما سبقها من فيضانات مفاجئة في دول شرق أفريقيا تدعونا للبحث حول أسباب تلك الظاهرة والعوامل المؤدية لها، وفي هذا الصدد يشير موقع CLIMATE HOME NEWS، وهو موقع متخصص في دراسة السياسات العالمية المتعلقة بقضايا المناخ ومقره لندن إلى أن ظاهرة الأمطار الغزيرة والفيضانات المرعبة في شرق أفريقيا تعود إلى ظاهرة «النينو الهندي».

النينو الهندي أو ما يسمى ثنائية قطب المحيط الهندي هي عملية تذبذب لدرجات حرارة المحيط الهندي ما بين الأكثر دفئا والأكثر برودة، الأمر الذي يؤثر على حركة الأعاصير وقوتها فضلا عن درجة الفيضانات ومواسم الجفاف على ضفاف المحيط سواء في شرق أفريقيا أو جنوب شرق آسيا في إندونيسيا وماليزيا علي سبيل المثال.

ويؤكد موقع BBC إلى أن ظاهرة النينو في طورها الإيجابي بمعنى ارتفاع درجة حرارة المحيط الهندي بمقدار درجتين مئويتين مما يعني زيادة حالات البخر قبالة سواحل شرق أفريقيا الأمر الذي يؤدي إلى كثافة هطول الأمطار في تلك المنطقة، وفي المقابل تكون السواحل الشرقية للمحيط قبالة إندونيسيا وماليزيا أكثر برودة الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع معدلات الجفاف في تلك المناطق.

أما فيما يخص محاولات الربط بين ظاهرة الفيضانات العارمة والتغيرات المناخية، فالأمر ما زال قيد الدراسة في المعاد والمراكز المتخصصة بدراسة أثر التغيرات المناخية، لذلك لا يمكن الجزم بين ارتفاع منسوب الفيضانات حاليا وعملية التغير المناخي رغم احترار كوكب الأرض بمقدار درجتين مئويتين. وختامًا.. فيضانات شرق أفريقيا المميتة هذا العام كشفت عن ضعف التضامن الأفريقي بشكل عام في مواجهة الأزمات البيئية، لذا نطالب في نهاية التحليل ضرورة تفعيل آلية للتضامن الأفريقي لمواجهة الأزمات البيئية التي باتت تعصف بأقاليم القارة الأفريقية فشرقا فيضانات وسيول مدمرة وغربا جفاف وتصحر مميت، لذا فالتضامن الأفريقي حاليا ليس ترفًا بل ضرورة لمساعدة أبناء القارة على مواجهة الأزمات البيئية المتصاعدة، إذ تشير المعلومات المناخية إلى استمرار الفيضانات المرعبة في دول شرق أفريقيا خلال السنوات القادمة، وفي المقابل أيضا ارتفاع نسب التصحر والجفاف في أقاليم أخرى.