كتبت – أماني ربيع

“أنا محظوظ لكوني قادرا على خدمة مجتمعي..” – دبيبدو فرانسيس كيري

  يحظى الساسة والزعماء الأفارقة بكل الضوء عندما يتم الحديث عن القارة السمراء، رغم ميراث بعضهم من الحروب والدماء التي حرمت أفريقيا لعقود من التمتع بمزايا الاستقلال ووضع قدمها على خارطة التنمية العالمية، ربما كان الأولى أن يوجه الاهتمام بشكل أكبر لضحايا تلك الحروب والصراعات الذين رغم كل المآسي التي شاهدوها أصبحوا أيادي للبناء بدلا من معاول للهدم.

خلال سنوات طويلة، استطاع جيل من الأفارقة أن يتجاوز ماضيه ويتحول أفراده إلى شخصيات ناجحة ورائدة عالميا ومنهم دبيبدو فرانسيس كيري المهندس المعماري الذي شحذت مخيلته من سنوات طفولته في قريته الصغيرة بمسقط رأسه في بوركينا فاسو.

في عام 2017 تم اختيار فرانسيس كأول معماري أفريقي لتصميم جناح معرض “سيربانتين” السنوي في بريطانيا، وهو المعرض الذي تم إطلاق نسخته الأولى عام 2000، وشارك فيه معماريون عالميون منهم: زها حديد، ريم كولهاس، أوسكار نيماير، بجارك إنجلز، فرانك جيري وسو فوجيموتو، هذا الحدث السنوي أصبح ضمن الأولويات في التقويم الثقافي العالمي، وعامل جذب رئيسي للزوار في لندن خلال موسم الصيف.

لذا كان اختيار كيري حدثا كبيرا، واعترافا بموهبته الكبيرة، وأبهر الفنان الجميع بهيكله الخشبي الضخم الذي تعلوه منصة زرقاء جعلته أشبه بطبق طائر داخل حدائق قصر كينجستون التي يقام فيها المعرض.

وفاء للطين والوطن

“كانت الشجرة دائمًا أهم مكان في قريتي”، هكذا تحدث كيري عن مصدر الإلهام لتصميمه، يقول: “إنه المكان الذي يجتمع فيه الناس تحت ظله للنقاش، وأخذ القرارات المهمة، والحديث عن الحب والحياة، أردت أن يؤدي جناح المعرض نفس الوظيفة، مأوى بسيط مفتوح لخلق شعور بحرية الاجتماع والحديث وإجراء النقاشات.”

في حين أن الشمس الحارقة قد تكون هي الشيء الذي يُحتمي منه في صحاري غرب إفريقيا، كان المطر الذي يتميز به طقس لندن الغائم ضمن اولويات كيري عند تنفيذ تصميمه، وقام بإحاطة هيكله بجدران زرقاء منحنية مكونة من كتل خشبية متداخلة في نمط يشبه النسيج، في إشارة إلى الملابس الاحتفالية التي يرتديها الشباب في قريته خلال المناسبات الخاصة، وعن ذلك قال: “أنا قادم إلى لندن، لذلك أردت أن أظهر نفسي بأفضل ملابسي.”

قال النقاد عن عمله أنه يمثل مفهوم “البساطة المقتصدة”، فمقارنة بما درج عليه المعماريون في السنوات الأخيرة من الإفراط في الحداثة، بحيث تبدو أعمالهم أشبه بصرخات لجذب الانتباه، ويبدو أسلوبه انعكاسا لطبيعة البناء في أفريقيا، حيث أسس سمعة دولية بتصميم هياكل من الطوب الطيني والإطارات الفولاذية خفيفة الوزن، يتم بناءها بشكل أنيق مع اقتصاد في المواد، وفي البداية أراد أن يعكس اسلوبه في تصميم جناح المعرض عبر استخدام الطوب الطيني، لكن تم نصحه بعدم تحويل الحديقة الملكية إلى مقلع طين.

ولد كيري في عام 1965 في قرية جاندو شرق واجادوجو عاصمة بوركينا فاسو، ونشأ في مكان حيث لا توجد مياه جارية أو كهرباء،  تشاهده الآن، كمهندس معماري ناجح يشارك في البيناليات الدولية ، بينما وجهه لايزال يحمل ندوب القبيلة التي تشير إلى أنه ابن رئيس القرية، وهو المنصب الذي منحه فرصة نادره للالتحاق بالمدرسة الثانوية في المدينة، وفي سن الثامنة عشر حصل على منحة دراسية لدراسة العمال الخشبية في ألمانيا.

قراره التالي سيجعلنا ندرك الكثير عن وفاء فرانسيس كيري للبيئة التي نشأ بها، فبعد وقت من الدراسة أدرك أنه ليس هناك استخدام كبير للنجارة في بلد به القليل من الخشب، لذا انتقل لدراسة الهندسة المعمارية في الجامعة التقنية في برلين.

في سنته الأخيرة صمم مدرسة ابتدائية لقريته جاندو، واستخدم كاريزمته، وطاقته الهائلة لجمع أموال كافية لرؤيتها تُبنى على أرض الواقع، كان هذا المشروع أول أختبار لما سوف يصبح عليه أسلوبه فيما بعد، بتطويع التكنولوجيا للطبيعة الريفية، حيث استخدم هياكل مستطيلة بسيطة من الطوب اللبن، توجها بسقف طائر من المعدن المقبب، فاز تصميمه بجائزة الآغا خان للهندسة المعمارية عام 2004 ومنذ ذلك الحين، توسعت المدرسة لتشمل مكتبة ومدرسة ثانوية وسكن للمعلمين ومركز مجتمعي.

بعد ذلك تمت دعوة كيري ليصبح مبعوثًا للجائزة، ويجوب القارة بحثًا عن مشاريع نموذجية أخرى، لكنه اكتشف خلال جولاته هذه أمرا جعله يتوقف، وقال في مقابلة: “توقفت لأنني أينما ذهبت كانوا يقولون ،” أعطونا الأدوات اللازمة لصنع هندسة معمارية جيدة قبل القدوم لطلب هندسة معمارية جيدة “، وكان نتيجة ذلك تحول شعاره إلى “المساعدة في المساعدة الذاتية”، وأصبحت مشروعاته تمنح أهمية أكبر لدعم القدرات المحلية على البناء، بدلا من التركيز على دقة المنتج النهائي، عبر أسلوب يوازن بين صنع تصميمات أنيقة وعملية، يمكن تنفيذها بموارد محدودة ومهارات متواضعة.

العمارة والتنمية

يعييش فرانسيس في برلين حيث مكتبه الهندسي، ويستخدم ما يجنيه من مشروعاته في أوروبا لدعم أعمال البناء في وطنه، حيث يقدم خدماته كمهندس معماري بأجر زهيد أو مجاني، بيد واحدة يصمم متاجر أرقى بوتيكات العلامات التجارية، وبناء أرقى الأماكن التجارية في ألمانيا، وفي نفس الوقت يواصل بناء المدارس والمراز الصحية والمكتبات في الهند ومالي واليمن.

 وفي كينيا قام ببناء حرم تعليمي في كوجيلو القرية التي ولد بها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، يُعرف بمشروع”Legacy Campus” الذي بلغت تكلفته 12 مليون دولار لصالح مؤسسة ماما سارة أوباما (MSOF) ، وتتضمن بناء مركز لتنمية الطفولة المبكرة، مدرسة ابتدائية وثانوية، مدرسة تدريب مهني، ومستشفى، كل هذا في مكان واحد، وهدف هذا المشروع هو دعم نهج مستدام لتعزيز المجتمع والتعليم.

كان أساس التصميم أن يلائم الفئة العمرية المحددة للطلاب الذين سيدرسون فيها، لتصبح بيئة تعليمية تعزز لديهم اللسلوك النقدي، ويصبحوا مستعدين للنجاح في حاتهم اليومية خارج الفصول الدراسية.

وتحدث عن تصميمه قائلا: “كل مدرسة داخل هذا الحرم التعليمي تعمل بشكل منفصل، لكنها تتحد عبر مجموعة من الأماكن المشتركة منها الملاعب الرياضية والكافيتيريا، وهي مساحات عامة لتعزز التواصل بين الطلاب وإقامة الحفلات المدرسية والمسابقات الرياضية، ليس لطلاب المدرسة فقط، ولكن في المجتمع المحيط أيضا.”

ومن ضمن مشاريعه الأكثر طموحا والذي أراد تأسيسه في وطنه، “قرية أوبرا” في لونجو ، بالقرب من واجادوجو، كقرية نموذجية على مستوى عالمي يضم مدرسة وعيادة وأستوديوهات فنية.

أصبح كيري واحدا من المعمارين الأفارقة القلائل الذين يتمتعون بشخصية عالمية، وأصبح وجه دائم ومرغوب في كبرى المعارض والمؤتمرات حول العالم، وفي عام 2014، شارك في معرض Sensing Spaces التابع للأكاديمية الملكية، وفي عام 2015، كان ضمن المشاركين في بينالي شيكاغو عام 2015 ، وفي 2016 شارك في بينالي البندقية.

وعند سؤاله عن نهجه في تدريس الهندسة المعمارية بصفته أستاذا في الجامعة التقنية ببرلين وجامعة هارفارد وويسكونسن، قال إنه يحاول تعليم الطلبة كيفية ربط التدريس والتفكير بعملية الصنع، عبر تصميمات واعية اجتماعيا بطبيعة المجتمع والبيئة التي سوف تقدم فيها، وإشراكهم في مشاريع حقيقية، وأدفعهم ليكونوا أصحاب رؤى خاصة بهم.

يقول عن شعبه: ” معظمهم لم يروا أبدا ارتفاعا أعلى من الشجرة”، وأبدى رغبته في بناء مبنى البرلمان الجديد الذي احترق عقب الانتفاضات التي شهدتها بلاده عام 2014، وقال إن هناك حاجة ملحة في وطنه إلى الانفتاح والشفافية، ليتمكن المواطنين أخيرا من التسلق فوق السياسيين أخيرا.”