كتب – إيمان عبدالعظيم سيد أحمد
مدرس مساعد بكلية الدراسات العليا – جامعة القاهرة

بات العنف الجنسي محل انتباه العالم إثر اندلاعه في رواندا عام 1994، وفي عام 1998 ذكر قاضي المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن العنف الجنسي جريمة حرب وليس مجرد أحد غنائمها، وفي عام 2001 أكدت المحكمة الجنائية الدولية أن العنف الجنسي هو جريمة ضد الإنسانية، ومنذ ذلك الحين خرج العنف الجنسي من إطار كونه مشكلة نسائية إلى إطار الدراسات الأمنية، وبالتالي العلاقات الدولية، وفي عام 2008 صدر قرار مجلس الأمن رقم 1820، والذي أكد حقيقة استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب.

ورغم أن العنف الجنسي من أكثر حالات العنف استخدامًا، فهو لا يزال أقل جرائم الحرب إدانة عبر التاريخ، وفقًا لما جاء في التقرير الأول للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عام 1995، وهو ما يطرح عددًا من التساؤلات التي تبرز في دراسة حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية DRC التي وُصفت بأنها المكان الأكثر سوءًا للنساء؛ لانتشار العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي؛ فلماذا على عكس جرائم الحرب الأخرى لا يتم إدانة العنف الجنسي بشدة من قبل المجتمع الدولي؟ ولماذا يعد سلاح حرب فعال؟ هل العنف الجنسي مرتبط بالصراعات أم أنه أصبح ظاهرة مجتمعية؟ وما علاقته بالنوع الاجتماعي؟

أولًا: تحليل تاريخي لاستخدام العنف الجنسي كسلاح حرب

لا توجد دراسات تنكر استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، ولم يعد العنف الجنسي مجرد أثر جانبي للصراع، بل أصبح أداة للصراع؛ فاستخدام العنف الجنسي في الصراعات المسلحة بشكل ممنهج يعكس ممارسات شبيهة بالعبودية، وهو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، يشجعه أو يأمر به قادة الجيش أو الفصائل المسلحة كشكل للتطهير الإثني والإذلال ومنع التكاثر وتدمير المجتمعات ونشر الخوف وإثبات التفوق.

لم يكن من المعتاد اعتبار العنف الجنسي سلاحًا منفصلًا عن الحرب؛ حيث كان يُنظر إليه كنتيجة وليس استراتيجية حرب؛ في اليونان القديمة، كانت المرأة الطرف الخاسر في الصراع وضحية للعنف الجنسي، وكان يُنظر إليها على أنها غنيمة حرب، واستمرت هذه الفكرة لقرون، كان العنف الجنسي شائعًا أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، وكذلك حروب كوريا وفيتنام، بدأ التغير في هذا الإدراك خلال التسعينيات، حيث أصبح النظر إلى العنف الجنسي على أنه سلاح حرب، وأطلق على هذا النوع من الحرب اسم الحرب القذرة، واستخدمت النساء اليابانيات في المتعة لإرضاء الجنود اليابانيين جنسيًّا أثناء الحرب العالمية الثانية، ظنًّا من القيادة العسكرية أن ذلك سيؤدي إلى القتال بشكل أفضل إذا ما تم الاعتناء باحتياجاتهم الجنسية.

وبعد جهود النسويات والمحاكم الدولية لاسيما المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، صُدرت أحكامًا قضائية أقرت بأن العنف الجنسي كان في الحقيقة سلاحًا واستراتيجية حرب، واستخدم كوسيلة للتعذيب والتطهير الإثني والإبادة الجماعية، وليس بالضرورة نتاج حرب، إن التميز بين العنف الجنسي كسلاح حرب وكاستراتيجية حرب هو نظري فقط، يكون سلاحًا عندما يهاجم شعور الفرد بالأمان، بينما يكون استراتيجية عندما يُستخدم كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية محددة، من ثمّ يعني الاستخدام الاستراتيجي للعنف الجنسي في الحرب ضمنًا استخدامه كسلاح وإلا فلن يكون جزءًا من استراتيجية الحرب، استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب ليس بالأمر العادل لإحداثه ضررًا جسديًّا يؤدي إلى تدمير اجتماعي؛ فالعنف الجنسي في الحروب الأهلية هو هجوم على الجسد السياسي لا يهدف إلى تشويه أو قتل شخص واحد فحسب، بل للسيطرة على عملية اجتماعية وسياسية بأكملها من خلال شلها، فهو هجوم موجه ضد الهوية الشخصية والسلامة الثقافية.

ثانيًا: تاريخ العنف الجنسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية

إن ظاهرة العنف الجنسي معروفة في المجتمعات الأفريقية ما قبل الاستعمار، ففى هذه المجتمعات تم بناء الهويات الاجتماعية عبر إخضاع الجماعات الإثنية الضعيفة للوصول إلى الأراضي والغابات والموارد الحيوية، فضلًا عن أن بناء الإمبراطوريات والممالك يرافقه غارات على الماشية وخطف النساء. وخلال فترة الاستعمار، استخدم العنف الجنسي كأداة للسيطرة الاجتماعية والاستغلال من قبل نظام ليوبولد الثاني ومن بعده مملكة بلجيكا؛ ففي 1890، تمثلت مهمة القوة الشعبية في إجبار الكونغوليين على توريد المطاط البري من الغابات واستبداله بالعاج كعامل مهيمن في الاقتصاد آنذاك. وتُفرض حصة لكل منطقة، وإن لم يتم الوفاء بها، تكون العقوبة بلا رحمة، مثل أخذ الرهائن والعنف الجنسي وقطع الأذنين واليدين، وبعد الحصول على الاستقلال، لجأت النظم الناشئة عن انقلابات أو انتخابات الزائفة إلى العنف الجنسي لإخضاع المعارضة الداخلية أو التمرد المسلح، خلال هذه الصراعات استخدم العنف الجنسي ضد النساء والأطفال كوسيلة لشن الحرب في المقام الأول من قبل الميلشيات وبعض وكلاء الدولة، لقد كانت مثل هذه المواقف كثيرة جدًّا خلال الــ50 سنة الماضية ولم تسلم منها أي دولة أفريقية بما فيها DRC.

وهناك اتجاهات ترى أن الإبادة الجماعية في رواندا 1994 ساعدت في وصول الصراع إلى DRC، والذي تم تسميته من قبل البعض بالحرب العالمية الأفريقية بسبب ارتفاع عدد الدول المشاركة فيه، ورغم ذلك من غير الممكن الجزم أن الإبادة الجماعية في رواندا كانت السبب في الصراع؛ فالتوترات في DRC كانت موجودة ومرتفعة بالفعل قبل حدوث الإبادة الجماعية في رواندا، وكان ذلك الصراع على وشك الاندلاع بغض النظر عن تأثير الخارج وتدفق اللاجئين والمتمردين إلى شرق DRC، ولذلك فالإبادة الجماعية ساعدت في تسريع هذه العملية وكان لها تأثير كبير على البلدان المجاورة.

فر العديد من اللاجئين إلى شرق DRC خوفًا من العنف، ولكن تبع هؤلاء اللاجئين كل من المتمردين والجنود الذين اختبأوا في الغابات، وتظاهروا بأنهم لاجئين عاديين في البداية، ولكن بدأوا في السيطرة واستخدام القوة بما في ذلك العنف الجنسي لللاجئين الآخرين، فضلا عن سكان DRC، الأمر الأكثر أهمية أن الرواندي الإنترهاموي الموجود حاليًا في شرق DRC، بدأ في استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، وانتقل العنف الإثني من رواندا إلى زائير بالإضافة إلى التوتر الإثني القائم بالفعل وتمرد التوتسي الزائيريين.

يعد هذا التمرد بداية ثورة كاملة ضد موبوتو بقيادة لوران كابيلا، استقال موبوتو في النهاية وأعلن كابيلا نفسة رئيسًا للدولة، وتم تغيير اسم الدولة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى أن اغتيل عام 2001 على يد أحد حراسه، وخلفه ابنه جوزيف كابيلا، يعكس تاريخ DRC منذ 2002 أهمية قصوى لموضوع العنف الجنسي كسلاح حرب، وهو ما يؤكده تقرير DRC الأخير الذي قدمته إلى لجنة رصد اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) في 2004 حيث اعترفت بخطورة استخدام العنف الجنسي كسلاح، جاء هذا التقرير بعد تنصيب الحكومة الانتقالية بعد صياغتها الدستور الانتقالي، ولكن لا يتم تنفيذ هذه القوانين كما جاء في الملاحظات الختامية ل CEDAW، والتى نظرت بقلق بالغ إلى المستقبل، رغم أن هذه الملاحظات كانت في 2004، إلا أن النظرة المستقبلية بقيت على حالها حتى الآن.

ثالثًا: العنف الجنسي كسلاح حرب في جمهورية الكونغو الديمقراطية

لم يعد العنف الجنسي جريمة حرب، فحسب بل أصبح سلاحًا فعالًا للحرب مفضلًا للكثيرين في DRC، ولو لم يكن كذلك، لانتهى منذ فترة طويلة، ينبع العنف الجنسي في DRC من استراتيجية حرب وليس مجرد أفعالًا معزولة لمقاتلين مسلحين، يهدف المخططون لهذه الممارسة إلى تغيير التركيبة السكانية للمنطقة، ويشير قرار مجلس الأمن رقم 1820 إلى أن العنف الجنسي الجماعي في DRC هو تكتيك حرب وإذلال وسيطرة وغرس الخوف والإجبار على نقل أفراد وجماعات إثنية.

يُستخدم العنف الجنسي كسلاح استراتيجي في DRC لترهيب وتخويف السكان المدنيين وإضعاف معنويات مقاتلي العدو، ويساعد في الحفاظ على مستويات رضا الجنود والمتمردين كشكل من أشكال الأجر لضمان ولائهم، وجعلهم أكثر تركيزًا خلال المعارك، لاعتقادهم أن ضمان المتعة للجنود سيبقيهم أكثر تركيزا خلال المعارك، وفي بعض الأحيان، يستخدم العنف الجنسي كسلاح بسبب الاختلافات الإثنية، يتعرض للعنف الجنسي نساء من خلفيات إثنية مختلفة عن تلك الخاصة بالمتمردين أو الجنود لإذلال وتدمير مجتمعات بأكملها، ويتم ذلك أمام أزواجهن أو أطفالهن، وغالبًا ما ينفيهم المجتمع، حيث يُنظر إليها على أنها نجس، فتضطر إلى ترك قراها وتعيش بمفردها، لا يستخدم العنف الجنسي سلاحًا فحسب، بل أيضًا أداة تعذيب لجمع بيانات عن الفصائل المسلحة الأخرى، مما أدى إلى زيادة حالات العنف الجنسي، ولا يقتصر العنف الجنسي في DRC على النساء فقط بل أيضًا الفتيات الصغيرات والأطفال ضحايا؛ لأنهم أهداف سهلة.

تلعب الخرافات دورًا في الاستخدام الاستراتيجي للعنف الجنسي في DRC، فهناك اعتقاد أن النساء المسنات الكبيرات في السن تمتهن السحر؛ لذا يخشى الجنود والمتمردون هؤلاء النساء، فيعتقدون أن اغتصابهن سيؤدي إلى تحييد سلطاتهن السحرية، ولم يعد العنف الجنسي مجرد سلاح يستخدمه المتمردون والجنود، ولكنه أصبح نشاطًا يمارسه جزءًا كبيرًا من السكان الذكور.

رابعًا: تطبيع العنف الجنسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية

لقد أصبحت ظاهرة العنف الجنسي راسخة في المجتمع الكونغولي لدرجة تطبيعها، وأصبح مرتكبوها رجال عاديون ولصوص ورجال شرطة وحراس ومتمردون وجنود وجماعات ذكورية مسيطرة، وفقًا لمستوى انتشار ضحايا العنف الجنسي ما بين الاغتصاب الفردي والجماعي والعبودية الجنسية، اتضح أن التعرض للعنف الجنسي يزيد خلال الحرب بما نسبته 17.8% خلال الفترة (1996- 2011)، حيث تقل نسبة النساء التي تعرضت للعنف الجنسي بعد الحرب بنسبة 4.8%، في ضوء تحليل ملامح مرتكبي العنف الجنسي، اتضح أن الجناة هم شخصيات عسكرية، وبمرور الوقت ارتكب المدنيون حوالي 1% من حالات الاغتصاب في عام 2004، وارتفعت هذه النسبة إلى 39% بين عامي 2004- 2008، وفقًا لتقرير مبادرة هارفارد الإنساني وأوكسفام الدولي، وأصبح هناك أجيال كاملة من الشباب (الرجال والنساء) تؤمن أن العنف الجنسي أمر طبيعي وجزء من الحياة العادية، وهو ما تم تصويره بشكل مؤلم في عدد من الأفلام الوثائقيةFighting the Silence (2007) & Weapon of War (2009)، ولهذا فالتغلب على هذه الظاهرة ليس بالأمر اليسير حتى لو تم حل الصراع بالكامل.

يتسم البحث في العنف الجنسي في ظل الصراعات المسلحة في أفريقيا بالتخلف، وفقًا لما وصل إليه حال العلم إزاء دراسات العنف الجنسي، لذا أكدت منظمة الصحة العالمية ضرورة الحاجة إلى اقتراب للعنف الجنسي يكون أكثر منهجية، ولهذا لا يمكن ربط العنف الجنسي في DRC بالصراع فحسب، بل ينتشر على مستويين: العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي، والعنف الجنسي المرتبط بالصراع، وتعكس الأرقام حالات عنف جنسي موثقة في جميع أنحاء البلاد بما فيها المناطق غير الصراعية، يرتكب كل من العسكرين والمدنين العنف الجنسي، حيث تتعرض 400000 امرأة سنويًّا للعنف الجنسي، بمعنى 1100 فتاة في اليوم، أي 4 نساء كل 5 دقائق، وتعتبر مقاطعة إكواتور (والتي تعرضت للصراع الإثني) ثاني أعلى معدل عنف جنسي في DRC، حيث تتعرض للعنف الجنسي كل عام 67 امرأة من كل 1000 امرأة في سن الإنجاب.

ويظل العنف الجنسي في مناطق الصراع دليلًا على فشل الدولة في السيطرة على كامل إقليمها، فلا يفرض جنود الحكومة النظام بل يخلقون الخوف للحد الذي تكيف معه السكان وقيامهم بتعليم بناتهم قبول العنف الجنسي لتجنب الموت، ولذا تحتل DRC المرتبة الثانية في الدول الفاشلة في العالم، تتجاوزها الصومال فقط، وفقًا لمؤشر الدولة الفاشلة الصادر عن المنظمة الأمريكية لصندوق السلام ووصفها البعض بأنها أراضٍ بدون دولة، ولهذا يغلب عليها الطابع غير الرسمي ليس فقط في القطاع الاقتصادي، بل أيضًا في قلب الجيش والأجهزة الأمنية، وهو ما يفسر وضع الأمم المتحدة استراتيجية شاملة لمحاربة العنف الجنسي في DRC، عبر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1794 لعام 2007، والذي يطلب من بعثة الأمم المتحدة في الكونجو MONUSCO متابعة استراتيجية شاملة على مستوى البعثة لتعزيز الاستجابة للعنف الجنسي، ورغم وجود قوات MONUSCO على بعد 30 كم فقط، فقد ارتكب أكثر من 500 واقعة عنف جنسي في أغسطس 2010.

خامسًا: تفسير الإدانة القليلة للعنف الجنسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية

توجد علاقة معقدة بين العولمة والرأسمالية والذكورة المهيمنة والثقافة العسكرية والنوع الاجتماعي من ناحية والعنف الجنسي في DRC من ناحية أخرى، إن تفسير هذه العلاقة يكشف عن الإدانة القليلة للعنف الجنسي في DRC على المستوى الكلي والمتوسط والجزئي.

  1. المستوى الكلي: الاقتصاد السياسي العالمي للحرب

هناك بعد اقتصادي واضح يفسر الإدانة القليلة للعنف الجنسي في شرق DRC. تتنافس الشركات الأجنبية من مختلف الدول على استخراج المعادن والنقل غير المشروع للكولتان والذهب والقصدير والمعادن الأخري الموجودة في DRC، يستخدم مقاتلوا الجماعات المتمردة العنف الجنسي كأداة للهيمنة لترويع السكان المدنيين للوصول إلى المناجم الإقليمية التي تحتوى على الثروة المعدنية للبلاد، ثم تقوم ببيع المعادن إلى مختلف الشركات الوطنية والأجنبية، تعتمد هذه الجهات المتورطة الفاعلة الداخلية والخارجية (مسئولون حكوميون وميلشيات وحكومات أجنبية تدعم الميلشيات والجيش الكونغولي وماي ماي وغيرها من الميلشيات المحلية والإنتراهاموي) على فوضى الصراع للانخراط في الأمور غير القانونية وبالتالي فهي متواطئة في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

تحافظ بنشاط الميلشيات الموجودة بالفعل على الاضطرابات الناتجة بسبب الصراع لضمان نهب إمدادات DRC الهائلة من المعادن لاسيما الكولتان المستخدم في صناعة الهواتف المحمولة والإلكترونيات والتي تمتلك منه DRC ما يقدر بــ80% من رواسب العالم، لقد ثبتت فعالية العنف الجنسي في السيطرة على المناجم التي تحتوي المعادن، لأن العديد من القرويين يفرون من منازلهم هربا من العنف، وبالتالي يتركون الأرض مفتوحة للاستغلال الاقتصادي، حيث يستمر الطلب العالمي على موارد DRC في الارتفاع. وهذا يعنى أن هناك حافزا اقتصاديا لكلا الجانبين(المجموعات المحلية والشركات الأجنبية) للحفاظ على الفوضى وصولا إلى هذه المعادن، وهذا ما يؤكده تقرير لجنة الخبراء في مجلس الأمن 2002 من تورط العديد من الشركات في التصدير غير القانوني للمعادن في DRC بشكل مباشر أو غير مباشر، عمدا أو عن طريق الاهمال. تم إدراج 100 شركة منخرطة في هذا السوق العالمي، منها شركات أفريقية وأجنبية، وشملت بعض البلدان من بلجيكا وكندا وألمانيا وإسرائيل وهولندا وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ورواندا وأوغندا وجنوب أفريقيا.

تشير التقديرات إلى أن مليون دولار من الكولتان يتم تصديره بشكل غير قانوني كل يوم. تُصنف DRC على أنها أكثر دول العالم فسادا، ويرجع ذلك إلى الطلب الأجنبي على هذه الموارد القيمة، حيث يتم توزيع الكولتان من خلال قنوات دولية متقنة، وحينما تحاول الحكومة اصدار ترخيص استخراج المعادن، فإن الأذونات الرسمية تكون بلا معنى عندما تدخل الشركات الأجنبية الأدغال الكونغولية للتفاوض مع أمراء الحرب على الوصول إلى المعادن، تدخل الميلشيات المحلية المسيطرة إلى هذه المعادن وتقوم ببيعها إلى وسطاء رفيعي المستوى والذين بدورهم يبيعونها للشركات الأجنبية.

ومن الواضح أن استمرار العنف الجنسي لا يرتبط فقط بالجشع الاقتصادي لمجموعات معينة داخل DRC، ولكنه يعد جزءًا من الرأسمالية العالمية المفرطة، إن فوضى العنف الجنسي في الصراع في DRC تفيد من هم في مرتبة أعلى في ترتيب النوع الاجتماعي والاستفادة من ابقاء منطقة الصراع تحت التعتيم لمعاملاتهم غير القانونية. تعد التجارة الدولية والأسواق العالمية ساحة لسياسات النوع الاجتماعي والتسلسل الهرمي بين الجنسين. علاوة على ذلك، هناك ذكورة ضمنية تدعمها هذه النظم الهيكلية الكلية في نظام عالمي ناشئ للنوع الاجتماعي. تعتبر العلاقات الدولية عالم من الرجال المهيمنين، حيث يمكن رؤية تأثيرهم في الشئون الدولية من خلال قدراتهم الجسدية عبر ممارسات ذكورية على المستوى المؤسسي وروابط رمزية بين الذكورة والقوة. فيتم وصف الهيمنة الذكورية في هذا السياق بأنها عدوانية تنافسية عديمة الرحمة ومدعومة بروح المنافسة والسوق الحرة.

في سياق DRC، يعمل الاقتصاد العالمي للعنف الجنسي بمستويات متعددة من القوة والفساد. تقتنص الهيئات الحكومية الدولية والشركات الأجنبية الفرص الاقتصادية في DRC، مستغلة الفوضى واضطراب مناطق الحرب لخدمة طموحاتها الاقتصادية. يتم نشر الرجولة المهيمنة من قبل النخب العاملة داخل المؤسسات العالمية المستفيدة من استغلال موقع التبعية للذكورة المتحالفة (الحكومة الكونجولية والمجموعات المحلية العاملة على الأرض) التي يتم وضعها في أسفل التسلسل الهرمي.

  • المستوى المتوسط: دور النوع الاجتماعي Gender

رغم عدم قصر العنف الجنسي على النساء فقط، إلا أن النوع الاجتماعي يلعب دورا مركزيا في تفسير العنف الجنسي في DRC واعتباره جريمة الحرب الأقل إدانة. إن اضفاء الطابع المؤسسي على الفكر الأبوي يرسخ فكرة أن الرجال لديهم سلطة على النساء وهو ما يؤدى إلى خلق نظام تعتمد فيه النساء على الرجال، إن جزء من فاعلية العنف الجنسي كسلاح حرب وعدم وجود إدانة له يرجع جزئيا إلى تعزيز فكرة إن النساء كنوع اجتماعي هي الأضعف، حيث تقل احتمالية مقاومة النساء للرد والحاق الضرر بالجنود لاسيما في الثقافات التقليدية مثل DRC، لذلك فهم الضحايا المثاليون، من ثم أصبح العنف الجنسي المنهجي للمرأة أثناء الصراع وسيلة سهلة لتدمير مجتمعات بأكملها ونشر الخوف والتطهير الإثني. وهو ما يحدث في DRC، حيث تُجبر النساء على حمل طفل من جماعة إثنية ما، لمنع خلق أجيال في المستقبل من مجموعة إثنية أخري مخالفة لها.

إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي السيئ للمرأة إلى جانب تمثيلها الجنسي والقوالب النمطية تجعل المرأة في مرتبة المواطن من الدرجة الثانية المحروم من الجنسية الكاملة مما يؤدي إلى العنف وتفاقم الأشكال الموجودة بالفعل من عدم العدالة بين الجنسين. تعد الدول ذات المستويات العالية من التمييز وعدم العدالة هي أكثر عرضة للإيذاء الجنسي أثناء الصراع المسلح. وبالإشارة إلى DRC، فإن أفعال العنف الجنسي مرتبطة باستمرار بالعلاقات غير المتكافئة بين الجنسين وتؤدي الحرب إلى تفاقم عدم العدالة في علاقات القوة بسبب أزمة الأمن العام للمرأة، حيث المرأة في موقف أضعف وأكثر هشاشة، تعاني النساء داخل المجتمع الكونجولي من الحرمان اجتماعيا واقتصاديا. تضع العادات الكونغولية المرأة في مرتبة أدني من الرجل. فمن غير المألوف أن تشغل المرأة منصبا في السلطة، تنعكس هذه الحالة من خلال القانون الكونجولي: القوانين تلزم المرأة بالحصول على موافقة زوجها قبل فتح حساب مصرفي أو الحصول على العمل أو شراء وبيع الممتلكات، تتحمل المرأة في المجتمع الكونغولي مهام ومسئوليات هي جوهر المجتمع مثل مقدمى الرعاية الصحية والمربين والعاملين في المجتمع. وبالتالي حينما تتعرض للعنف الجنسي، فهذا يعنى هجوم على المجتمع بأكمله، حيث: أولا يعتبر هجوما مباشرا على امرأة هو هجوم على النوع الاجتماعي الأنثوي. وثانيا يجب التعامل معه على أنه لفتة رمزية وارسال رسالة لهدف ثان وهو الرجل، يتمثل دور الرجل (الزوج) كما هو موضح في قانون الأسرة الكونغولي في حماية زوجته، فعندما يتم ممارسة العنف الجنسي ضد المرأة، فإن هذا يبعث برسالة واضحة إلى أن الزوج غير قادر على حماية زوجته وأداء وجبه الذكوري. لذا فالعنف الجنسي هو سلاح فعال، لأنه يضرب في قلب الهويات الذكورية للرجال.

ورغم التطورات التي أدخلت على القوانين والتشريعات الكونغولية التى تحظر الاستخدام واسع النطاق للعنف الجنسي، إلا أن معظم الجناة يفلتون من العقاب، ومن النادر محاكمة الجناة مرتكبي العنف الجنسي. تتمثل أسباب ذلك في رغبة المرأة في التزام الصمت، وارتفاع الرسوم المطلوبة من قبل المدعى العام والقضاة، وصعوبة دفع الضحايا لتكاليف سفرهم من الريف للمثول أمام المحكمة، والأوامر التي يصدرها الضباط ليتم نقل المتهمين إلى مكان آخر، وتفشي الفساد في نظام العدالة في DRC، حيث يشيع استخدام الرشاوى من قبل القضاة وغيرهم من المسؤولين للتأثير على التحقيق أو المحاكمة

ورغم ذلك هناك بعض الأمل وبعض الخطوات في الإتجاه الصحيح من حين لآخر، فمنذ 2004 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أثناء التحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني المرتكبة في DRC أربعة أوامر اعتقال، أبرزها محاكمة في فبراير/ شباط 2011، حيث أُدين وسُجن لمدة 20 عاما مجموعة من الضباط منهم المقدم Kibibi Mutware من الجيش الكونغولي في شرق DRC، لقيامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية حيث أمر قواته بالعنف الجنسي لما لا يقل عن 35 امرأة في يناير 2011، وتم تمويل جزئي للمحكمة من قبل بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة MONUSCO

  • المستوى الجزئي: الذكورة المهيمنة

خلقت العولمة عالم ترتيب النوع الاجتماعي، حيث التعددية والتسلسل الهرمي للذكورة على الصعيدين المحلي والعالمي وفي مقدمته الذكورة المهيمنة، تنطوي الهيمنة الذكورية على أمرين: أولها، لا يوجد عنف جسدي بالنسبة للرجال الذين يحصلون على مزايا النظام الأبوي والهيمنة الرأسمالية(رغم استخدام القوة والعدوان التنافسي في مؤسساتهم)، ثانيها بالنسبة للهيمنة الذكورية الهامشية غالبًا تعتمد على الهيمنة من خلال العنف. ينتشر الطابع الذكوري المهيمن في المؤسسات العسكرية التي تروج للعنف الجنسي، يعتمد الأفراد في تكوينات الذكورة المهيمنة على استخدام العنف الجنسي لاستعادة الهيمنة المفقودة.

يعد ربط العنف بالذكورة أحد سمات القوات المسلحة في DRC مثل كل جيوش الأرض، إن بناء الذكورة بين الجنسين من خلال المؤسسات الاجتماعية الخارجية وعملية التنشئة الاجتماعية التي تحدث في الجيش جانب مهم للعنف الجنسي في الصراع. داخل الجيش يتم تعلم الذكورة والعنف عبر أساليب مصممة خصيصا لانشاء جنود قادرين على القتال، يجب فهم عسكرة الذكورة والذكورة بين الجنسين على أنها ظاهرة مؤسسية ومعولمة.

وفيما يتعلق بحالة DRC، فإن فهم التركيبات الاجتماعية للذكورة سواء داخل المجتمع الكونجولي والأهم من ذلك داخل المؤسسة العسكرية مهم لتفسير وفهم انخراط الجنود الأفراد بنشاط في العنف الجنسي، يتكون الجيوش والميلشيات في الغالب من أفراد يتمتعون بقدر ضئيل من التعليم، وبعضهم أميون، كما أن حياتهم تتسم بالفقر المدقع والافتقار إلى فرص عمل بديلة ووسائل كسب الدخل واكتساب التعزيز الاجتماعي والقوة، يعد هؤلاء الجنود والعسكريون هم الجناة الرئيسيون في العنف الجنسي في DRC، والتي تفهم فيما سياق مفاهيم الذكورة المختلفة، حيث تستند خطابات الجنود بشكل كبير على هياكل الذكورة والأنوثة والتي تتشكل وتتعزز داخل المؤسسة العسكرية.

خاتمة

يعد النظر إلى العنف الجنسي في DRC في سياق العولمة (كمستوى تحليل كلي للسياسة) أمر أساسي لفهم هذه الظاهرة، تعد جرائم الدولة – الشركات (التي ترتكب من خلال الأسواق والتجارة العالمية المرتبطة بشكل مباشر وغير مباشر بالعنف القائم على النوع الاجتماعي) هي مفتاح لانهاء هذا النوع من العنف ضد النساء في DRC، ومن ثم الشركات الأجنبية وغير الوطنية المتورطة في الاستغلال غير القانوني للمعادن والموارد الطبيعية في DRC في حاجة إلى المحاكمة لارتكابها جرائم الدولة – الشركات، ويلعب النوع الاجتماعي دورا مركزيا في العنف الجنسي في DRC، حيث يعتمد الأفراد على تكوينات الذكورة المهيمنة في استخدام العنف الجنسي لاستعادة الهيمنة المفقودة، فضلا عن الطابع الذكوري المهيمن المنتشر في المؤسسات العسكرية التي تروج للعنف الجنسي.

إن القانون الدولي الإنساني في حاجة إلى تبني مشروع نسوي يركز على معاقبة العنف الجنسي ضد المرأة، يجب معالجة العلاقات بين الجنسين وهيكل الذكورة المهيمنة فضلًا عن الأفكار حول المرأة والأنوثة على المستوى المتوسط والجزئي، داخل وخارج الصراع، يجب الانتباه أنه في المستوى الجزئي، يتم إضفاء الشرعية على العنف كوسيلة لحل الصراع كجزء من الثقافة العسكرية، في سياق الصراع المسلح في DRC والتركيبة الذكورية، فإن مشاركة الجنود تعزز فكرة المقاتل الذكر القوي وتساهم في تطبيع العنف الجنسي. ولهذا، تحتاج الثقافة العسكرية الذكورية إلى إعادة صياغة وإزالة الصورة السلبية والجنسية عن النساء.

يرتبط العنف الجنسي بالعلاقات بين الجنسين، ولذا يجب القضاء على التمييز بين الجنسين على المستوى المتوسط والجزئي واستبداله بالتركيز على العدالة بين الجنسين، ويجب التوسع في برامج التعليم التي تحض على قضايا تعزيز الوعي بحقوق المرأة وإلغاء القوانين القديمة التي تقيد استقلاليتها، من ثم لابد من مراجعة الوضع الاجتماعي والبنيوي والثقافي والاقتصادي للمرأة لتحقيق شكلا أكثر عدالة بين الجنسين على المستوى المتوسط والجزئي. وما لم يكن هناك إرادة سياسية جادة بالتزام حقيقي يتجاوز التشريعات لتعزيز حقوق المرأة والعدالة بين الجنسين في جميع المجالات، فمن الصعب وجود تحسن في العنف الجنسي في DRC.

إن الهدف الأساسي هو انهاء الافلات من العقاب لجميع مرتكبي جرائم العنف الجنسي في DRC والمتواطئين معه سواء عسكرين ومدنيين، لردع الجناة المحتملين وممارسة العدالة. ولهذا، يجب تعزيز فكرة أنه لا ترتكب كل الجيوش أو العسكرين أفعال العنف الجنسي؛ لذلك فالعنف الجنسي ليس أمرا حتميا في الحرب كما يزعم البعض، بل أصبح النساء في DRC ضحايا العنف الجنسي من قبل الجماعات المسلحة والرجال العاديين وأصبح جزءا طبيعيا من الحياة، وينبغي الإشارة إلى أن المغتصبين لا يولدوا، ومن ثم فالمقاومة ممكنة، وبالإمكان وجود عالم يتم فيه اتخاذ خيارات مختلفة ضد العنف الجنسي، وهو ما أكدته القمة العالمية التى عقدت في الفترة من 10- 13 يونيو 2014 في لندن لإنهاء العنف الجنسي في الصراع، والتي توضح أنه من الممكن صياغة مستقبل بدون عنف جنسي.

مصادر الدراسة

-Laura Madelon de Vries, “The least condemned war crime: Why is rape such an effective weapon of war?”, Degree of MA(Leiden:Webster University Leiden, March2011).

-Jane Freedman, “Explaining Sexual Violence and Gender Inequalities in the DRC”, in Peace Review: A Journal of Social Justice(Taylor & Francis Group, VOL. 23,2018.(

-Stacy Banwell, “Rape and sexual violence in the Democratic Republic of Congo: a case study of gender-based violence” ,in Journal of Gender Studies) Taylor & Francis, Vol. 23, No. 1, 2014).

-Jessica Keralis, “Beyond the silence: sexual violence in eastern DRC”,in Contexts) American Sociological Association.Vol.11,No.1,winter 2012).

-Emmanuel Kabengele Mpinga,et al., “Rape in Armed Conflicts in the Democratic Republic of Congo: A Systematic Review of the Scientific Literature”,in Trauma, Violence, & Abuse(Vol. 18,no.5,2017).

-Joanna Bourke, Rape as a weapon of war,in Perspectives (Vol 383 June 14, 2014).

-Raphaelle Branche, Fabrice Virgili, (eds.), Rape in Wartime(Palgrave Macmillan, 2013).

-J.E. Trenholm, et al. , Battles on women’s bodies: War, rape and traumatisation in eastern Democratic Republic of Congo, Global Public Health(vol. 6,issue2,2011).

-Jocelyn Kellya et al., Handbook of Ethnic Conflict: International Perspectives (New York:Dordrecht Heidelberg,2018).

-Birthe Steiner et al.,” Sexual violence in the protracted conflict of DRC programming for rape survivors in South Kivu”, in Conflict and Health (licensee: BioMed Central Ltd., March 2009).