كتبت – أماني ربيع

أعوام طويلة مرت على إنهاء نظام الفصل العنصري “أبارتايد” في جنوب أفريقيا، لكن يبدو أن جراحه لم تندمل بعد في قلوب من عانوا من وحشية وقسوة هذا النظام الذي تفنن في قتل وتعذيب ذوي البشرة السمراء بالبلاد.

الكثير من الكتب والحكايات روت قصصًا دموية وأسرارًا شنيعة عن فظاعات هذا النظام البائد، كما تحدثت عن قتلةٍ لم تتم محاسباتهم أبدًا.

ومؤخرًا روى بول إيراسموس، أحد الشرطيين السريين الذين عملوا مع نظام الأبارتايد لسنوات، وتحدث عن فظائع المحققين والمحاكم، والتصفيات التي حدثت لإسكات صوت كل من يحاول النضال ضد العنصرية، وكيف تجسست أجهزة هذا النظام على الجميع وحاصرتهم حرصًا على نشر الخوف بشكل مستمر في البلاد وضمانًا لبقاء النظام العنصري قويًّا.

وما يزال الكثيرون في جنوب أفريقيا يرفضون مواجهة تاريخ تلك الحقبة الدموية التي تثير لديهم الذكريات الموجعة، لكن هناك موجة من الأعمال المنشورة من مذكرات شخصية إلى أبحاث أكاديمية، وتحقيقات صحفية حاولت رصد فظائع عهد وحشي.

لكن إيراسموس الذي يبلغ اليوم 64 عامًا، رفض هذا المنطق قائلًا: “كلما عرفنا المزيد عن ماضينا، قلت فرصة تكراره مجددًا”.

استعادة الماضي

وترصد مذكرات إيراسموس التي سوف تنشر خلال هذا الخريف، مسيرته المهنية التي استمرت 18 عامًا في شرطة جنوب أفريقيا، منذ اللحظة التي أطلق فيها النار على سارق في عامه الأول خلال مشاركته في حملات عنيفة ضد المتمردين القوميين في ناميبيا، وفي النهاية بصفته عضوًا بارزًا في وحدة الدعاية الشرطية سيئة السمعة، والتي استهدفت ما يسمى بـ”أعداء الدولة” بدءًا من الموسيقيين المشهورين إلى الشخصيات البارزة ومنهم: ويني مانديلا، زوجة نيلسون مانديلا.

وفي لقاء مع صحيفة “الجارديان البريطانية”، تحدث بول بمنتهى الصراحة عن ذلك قائلًا: ” كانت وظيفتي هي خلق الفوضى وتدمير حياة الناس، لم أنضم إلى الشرطة لأصبح مجرما، لكن هذا ما حدث” .

ورغم مرور أكثر من 25 عامًا على انهيار نظام الفصل العنصري، يؤكد الكثيرون أن الجهود المبذولة للتصالح مع ماضي جنوب أفريقيا لم تكن مؤثرة بالشكل الكافي.

يقول جوناثان أنسر -صاحب كتاب “حياة وأعمال 12 جاسوسا خلال فترة الأبارتايد”- كنا في عجلة من أمرنا لتجاوز تلك اللحظة الصعبة من تاريخنا، لكن الآن نشعر أننا بحاجة إلى العودة إليها مجددا وتسجيلها”.

أنشأت جنوب أفريقيا لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC) بعد أن قاد نيلسون مانديلا المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) إلى السلطة عام 1994، للتحقيق في الفظائع الماضية، ومنحت اللجنة عفوا عن بعض الجناة المتهمين، وكانت هناك إشادات بمواطني جنوب أفريقيا الذين حاولوا التغاضي عن الماضي للمضي قُدُمًا بعد عقود من العنف”.

لكن مع الوعي الذي يزداد يومًا بعد يوم، وانتشار الإنترنت الذي أتاح للكثيرين الوصول إلى مواد كثيرة حول عهد نظام الأبارتايد، أصبح مواطنو جنوب أفريقيا أكثر رغبة في استعادة الماضي، ومحاسبة الجناة، بل وشككوا في مواقف القادة السياسيين السابقين، واعتبروا أن لجنة الحقيقة والمصالحة كانت مجرد إجراء شكلي، ولم تحقق الهدف المرجو منها.

وهناك حديث الآن عن طمس جزء كبير من تاريخ جنوب أفريقيا، أو تجاهله عمدًا، في الكتب المدرسية ومناهج الجامعات، من أجل الإبقاء على سرية جرائم نظام الفصل العنصري.

تصحيح التاريخ

وفي فبراير الماضي، تم فتح تحقيق حول وفاة نيل أجيت، الناشط النقابي المناهض للفصل العنصري، الذي عُثر على جثته معلقة في مركز شرطة “جون فورستر سكوير” سيئ السمعة بجوهانسبرج 1982، الذي توفي داخله ما لا يقل عن 73 معتقلًا سياسيًّا بين عامي 1963 و1990، دون أن يتحمل أي شخص المسؤولية عن تلك الوفيات.

كان إيراسموس شاهدًا رئيسيًّا في هذا التحقيق، وقدم في شهادته وصفًا مفصلًا لأساليب التعذيب التي انتهجتها شرطة النظام، بما في ذلك الحرمان من النوم، والوضعيات المجهدة، والصعق بالكهرباء، والإيهام بالغرق، واعترف أنه تلقى أوامر بالعثور على أدلة لجعل وفاة أجيت تبدو وكأنها انتحار.

وقال إيراسموس: “مثل معظم البيض في جنوب أفريقيا، كنت مقتنعًا بأن الشيوعيين كانوا وراء الاضطرابات المروعة، وشعرت أنني يجب أن أكرس حياتي لمحاربة هذا الشر”.

ويأتي هذا التحقيق بعد 3 أعوام من حكم القضاء عام 2017، بأن وفاة أحمد تيموا الناشط المناهض للفصل العنصري أثناء احتجازه في مركز الشرطة أكتوبر 1971، لم يكن انتحارًا كما ادعت السلطات في ذلك الوقت، بل قتلًا.

ورصد امتياز كاجي، ابن شقيق تيمول، جهود عائلة الفقيد التي استمرت لعقود من أجل إلغاء الحكم بانتحاره، من خلال كتاب جديد، وقال: “كثير من العائلات تريد أن تعرف حقيقة ما حدث لذويها، يريدون أن تقدم السجلات بشكل صحيح حقيقة مقتل أحبائهم سواء أخ أو أخت أو أب”.

نضال لكشف الحقائق

ويرى البعض أنه رغم نشر كتب عديدة عن نظام الأبارتايد، إلا أن معظمها باللغة الإنجليزية، كما أنها تباع بأسعار مرتفعة، ونسبة كبيرة من مؤلفيها من البيض، وعبر ويليام جوميد، رئيس مؤسسةDemocracy Works Foundation في جوهانسبرج، عن استيائه من ذلك قائلًا: إن الافتقار إلى التنوع يهدد بتشويه الذاكرة الجماعية لجنوب أفريقيا”.

ومن المشاكل التي تواجه النشطاء والباحثين، أيضًا هي غياب أو غموض الوثائق الأساسية حول تلك الفترة، وكشف كتاب آخر عن وجود “ألبوم إرهابي”، وهو عبارة عن مجموعة مجلدة من 7000 صورة لنشطاء مناهضين للفصل العنصري كانوا قد فروا إلى المنفى، تم توزيعها على مراكز الشرطة في ظل نظام الفصل العنصري، لكن معظمها تم إحراقه في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

وكشف جاكوب دلاميني -أستاذ التاريخ في جامعة برينستون في الولايات المتحدة- عن الأمر عندما وجد بعض المجموعات داخل الأرشيف الوطني سُمح له بمشاهدته.

وتعمقت ابحاث دلاميني داخل العالم المشوه لقوات أمن نظام الفصل العنصري، التي كانت التحيزات العنصرية متأصلة في نفوس عناصرها بشكل كبير، جعلتهم يؤدون عملهم كما لو كانوا في مهمة سامية، وتحدث ديلاميني قائلًا: خلال فترة السبعينيات كانوا واثقين جدًّا من إمساكهم بزمام الأمور، وكانت لديهم رغبة مسعورة في القبض على كل أعداء الدولة المعروفين”.

لكن بحلول الثمانينيات بدا أن النضال ضد الأبارتايد ليس مجرد موجة، وإنما رغبة مستعرة في النفوس لن تلبث أن تقضي عليهم، وأصبحت قدرتهم على مواجهة المناضلين أقل قوة من ذي قبل.

واليوم، وبفضل أكاديميين وناشطين من جنوب أفريقيا، حتى الذين انتقلوا منها ليعيشوا خارج البلاد، لكن لم ينفصلوا عن وطنهم وماضيهم، لم يذهب كفاح المناضلين السابقين سُدًى؛ إذ فتحوا سراديب الماضي مجددًا، وقرروا القتال مجددًا، لتصحيح التاريخ وكشف الحقائق.