كتب – محمد الدابولي

ماجت الساحة السياسية الإثيوبية -خلال الأيام الأخيرة- بالعديد من الاضطرابات الإثنية، والأزمات السياسية والدستورية الحادة، كاشفةً عن عمق تلك الأزمة الداخلية، ومدى تهديدها للسلامة الداخلية واستقرار البلاد والنظام السياسي في المستقبل القريب؛ إذ تشير الوقائع السياسية إلى إمكانية تجدد الاضطرابات والأمنية والسياسية خلال الشهرين المقبلين على خلفية اقتراب موعد الانتخابات العامة والذي كان محدد اجراؤها في أغسطس 2020 والتي تأجلت إلى عام 2021 بفعل جائحة كورونا.

أسفرت الاحتجاجات الإثيوبية الأخيرة، والتي اندلعت عقب مقتل المغني الأورومي «هاشالو هونديسا» مساء يوم الإثنين 28 يونيو 2020 عن مقتل 166 قتيلًا و167 جريحًا، فيما تم اعتقال نحو 1084 شخصًا على خلفية تلك الاحتجاجات أبرزهم المعارض الأورومي الأبرز «جوار محمد».

لم تقتصر الإجراءات التصادمية الإثيوبية على قتل المحتجين وإصابة واعتقال الآخرين بل امتدت إلى تطويق الساحة الإعلامية الإثيوبية، وذلك بمداهمة وإغلاق مقر مجموعة «أوروميا ميديا نتورك OMN» التي يمتلكها ويديرها المعارض «جوار محمد»، كما أقدمت الحكومة على تعطيل شبكة الإنترنت في البلاد في محاولة لعزل البؤر الاحتجاجية، وتزامنت احتجاجات قومية الأورومو الأخيرة مع التصعيد السياسي الذي تشنه قومية التيجراي ضد سياسات رئيس الوزراء الأخيرة، ومن أبرزها تأجيل الانتخابات بسبب جائحة كورونا؛ إذ تصر جبهة تحرير التيجراي على إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، ويتضامن معها العديد من الأحزاب المعارضة الأخرى التي تؤكد أن تأجيل الانتخابات والتمديد للحكومة الحالية يعد خرقًا للدستور ومزيدًا من الاستبداد السياسي الذي يمارسه آبي أحمد منذ توليه السلطة في 2018.

تأزم الأوضاع الحالية في أديس أبابا يعيدنا للوراء قليلًا، خاصة في مارس 2018 حين تم تصعيد آبي أحمد ليتولى رئاسة الوزراء، حاملًا معه إرثًا كبيرًا من الأحلام الوطنية في تحقيق العدالة الإثنية وتعزيز الديمقراطية في بلد عانى لعدة قرون من مأزق سيطرة جماعة واحدة على الحكم؛ لذا يبرز لنا في الأفق تساؤل هام: “هل فشل آبي أحمد في توطين الديمقراطية في بلاده، ناكثًا عهوده السابقة في تحقيق الحكم الرشيد في بلاده؟”.

شكّلت لحظة تولي آبي أحمد سلطة الحكم في بلاده ذروة الآمال الأفريقية في تحقيق حكم ديمقراطي في القارة وتوطين الديمقراطي في البلاد، وتنفيذًا لتلك الرغبة أبدى آبي أحمد تحمسًا واضحًا لتعزيز قيم الديمقراطية متخذًا العديد من القرارات؛ مثل الإطاحة بالعديد من القيادات السياسة التي وصمت بالفساد في بلاده، واتباع أسلوب المحاصصة في توزيع المناصب السياسية على الجماعات والقوميات الإثنية في بلاده، وأخيرًا حل الائتلاف الحاكم السابق «الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا» وتشكيل حزب قومي موحد يشمل كافة الجماعات الإثنية وهو «حزب الازدهار».

بيد أن الإجراءات السابقة التي تمت الإشارة إليها لم تكن كافية لأجل توطين الديمقراطية في البلاد، حيث لم تستطع تلك الإجراءات معالجة الأزمة البنيوية الحادة التي تعاني منها إثيوبيا ويتضح ذلك في النقاط التالية:

  • ديمومة الاحتجاجات: دفعت نتائج الانتخابات الإثيوبية في عام 2015 إلى اندلاع تظاهرات صاخبة في البلاد ردًّا على نتائج الانتخابات التي استحوذ فيها الائتلاف الحاكم -في ذلك الوقت «الجبهة الثورية»- على غالبية المقاعد في البرلمان، وجراء حالة الانغلاق السياسي وقتها وزيادة الاضطهاد الإثني الذي تتعرض له قومية الأورومو، انتفض عناصر الأورومو في موجات احتجاجية متتابعة، آتت أكلها في مارس 2018 حيث تمت الإطاحة برئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ديسالين، وتولى الأورومي آبي أحمد (الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو) منصب رئاسة الوزراء كأول أورومي يتولى رئاسة الوزراء.

لم يخمد اختيار آبي أحمد رئيسًا للوزراء حدة الاحتجاجات الإثنية في البلاد، فرغم توقف الاحتجاجات في منطقة الأورومو عام 2018، برزت احتجاجات أخرى في المنطقة الصومالية “الأوجادين” تمثلت في محاولة الانفصال عن البلاد في أغسطس 2018، وفي ذلك الوقت أيضًا تصاعدت طموحات الأمهرا في الاستيلاء على الحكم عبر انقلاب فاشل في يونيو 2019.

  • التغريبة الإثنية: سرعان ما سقطت ورقة التوت التي يلتحف بها آبي أحمد في 23 أكتوبر 2019 حين اندلعت تظاهرات صاخبة في منقطة أداما التابعة لجماعة الأورومو على خلفية تواتر أنباء عن اعتزام السلطات اعتقال الناشط الأورومي جوار محمد، وأدت تلك التظاهرات إلى مقتل العشرات واهتزاز شعبية آبي أحمد في أواسط جماعته الأورومو.

تفاقمت الأحداث سريعًا في أكتوبر 2019، حيث كان آبي أحمد يعول على قومية الأورومو في تمرير سياساته الخاصة بحل الائتلاف الحاكم وإنشاء حزب جديد «حزب الازدهار».

ويمكن القول: إن تظاهرات أكتوبر 2019 ويونيو 2020 ساهما بشكل كبير في تجريد آبي أحمد من أي دعم إثني يحتاجه خلال الفترة المقبلة، فهو لم يحظ بثقة جماعته الإثنية كما لم يحظ بثقة الجماعات الأخرى التي باتت تناصبه العداء، ويمكن القول: إن آبي أحمد يعيش حالة تغريبة إثنية، كما أثبت الاحتجاجات الأخيرة وما قلبلها في تنامي شعبية جوار محمد في الأوساط الأورومية على حساب شعبية آبي أحمد؛ فتغريدة جوار التي علق فيها على مقتل المغني والتي قال فيها “أطلقوا النار على قلب أمة الأورومو مرة أخرى”، كانت شرارة ألهبت الاحتجاجات في البلاد.

  • عودة الدولة القمعية: بعد توليه السلطة حرص آبي أحمد على تخفيف الإجراءات الاحترازية في بلاده كحالات الاعتقال وفرض الطوارئ والإفراج عن المسجونين السياسيين وغيرها من الإجراءات، إلا أن تلك السياسة لم تصمد طويلاً؛ إذ سرعان ما عدل آبي أحمد عنها مستعيدًا تلك الإجراءات القمعية مرة أخرى والتي تمثلت في محاولة تصفية غريمه الأورومي جوار محمد في أكتوبر 2019 بعدما سحب طاقم الحراسة الخاصة به، وأخيرًا اعتقاله على خلفية مقتل المغني الأورومي، وإغلاق منصته الإعلامية فضلًا عن تعطيل خدمة الإنترنت في البلاد، استنادًا إلى تشريع صادر في أغسطس 2019 يتيح لرئيس الوزراء تعطيل خدمة الإنترنت في حال مرور البلاد باضطرابات أمنية وسياسية، والأهم من ذلك حالة الاقتتال التي باتت تشهدها شوارع أديس أبابا، حيث قتل مؤخرًا نحو 166 شخصًا.
  • الهاجس القادم: حاول آبي أحمد هندسة السياسة الداخلية الإثيوبية من خلال تبني نموذج سياسي يجمع عليه الإثيوبيين ويكون تحت قيادته، وتمخضت جهوده في حل الائتلاف الحاكم وإنشاء حزب الازدهار الجديد، إلا أن استراتيجيته لم تكلل بالنجاح المطلق وتعرضت للعديد من النكسات، أبرزها رفض جبهة تحرير التيجراي الانضمام للحزب الحاكم وتحولها بين ليلة وضحاها إلى أحد وأبرز الاحزاب المعارضة في البلاد، كما فشل حزب الازدهار الجديد في استقطاب قيادات الأورومو التاريخية؛ مثل جوار محمد وميريرا جودينا، حيث تحالف الاثنان في إطار حزب «مؤتمر أورومو الفيدرالي» OFC في ديسمبر 2019 مشكلين ضربة ثانية لحزب الازدهار في المناطق التي من المفترض أن يزدهر فيها.

ولدت الضربات المتتالية التي تعرض لها حزب الازدهار إلى تولد هاجس قوي لدى القيادة الإثيوبية من فشل الحزب الوليد في الظفر بالانتخابات التي كان مقررًا لها في أغسطس 2020؛ لذا قررت الحكومة والبرلمان الإثيوبي إرجاء الانتخابات إلى فترة لاحقة وتمديد ولاية الحكومة.

ولقي قرار إرجاء الانتخابات وتمديد ولاية الحكومة رفضًا عارمًا من أحزاب المعارضة الإثيوبية، فعلى سبيل المثال أعلنت جبهة تحرير التيجراي عن رفضها قرار إرجاء الانتخابات معلنة عن تمسكها في إقامة الانتخابات في موعدها، وطالبت الجبهة من المجلس الانتخابي الوطني الإثيوبي إجراء الانتخابات في موعدها في ولاية التيجراي، ورد المجلس أنه أبلغ رسميًّا بقرار البرلمان بتأجيل الانتخابات لحين يتم تقييم آثار جائحة كورونا، وعلى جانب آخر رفض رئيس جبهة تحرير الأورومو داوود إيبيسا أن قرار مجلس النواب بالتمديد ليس له أي أساس دستوري، وفي هذا السياق أعلنت خيرية إبراهيم رئيسة المجلس الفيدرالي تنحيها عن منصبها معلنة رفضها المشاركة في المهزلة الدستورية.

  • اختلاق عدو خارجي: في حالة فشل النظم السياسية في إدراك المخاطر الداخلية تلجأ دائمًا إلى التعويل على المؤامرة الخارجية التي تستهدف استقرار البلاد وتقويض أمنه، وخلال سنوات ما قبل حكم آبي أحمد كانت تلك النظرية المسيطرة على النظام الحاكم، وتراجعت تلك النظرية مع بزوغ آبي أحمد في عام 2018، إلا أنها عادت مجددًا في الأحداث الأخيرة وعلى مستوى رسمي من الدولة ففي يوم الخميس 3 يوليو علق آبي أحمد أن هناك جهات خارجية تستهدف تقويض استقرار البلاد وبث التفرقة بين أطياف الشعب، وفي يوم 4 يوليو خرج آبي أحمد مرتديًا ببزته العسكرية في وسط اجتماع ضم العديد من المسئولين السياسيين والعسكريين معلنًا نجاح الحكومة في وأد حرب أهلية بالبلاد، وذلك باعتقال المحرضين على العنف ويقصد هنا القيادي جوار محمد.