كتبت – د. أماني الطويل

مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

شكّلت مسألة مياه النيل أهم الجوانب في العلاقات المصرية السودانية، وذلك تأسيسًا على ثلاثة اعتبارات؛ الأول أن النيل هو مصدر المياه الوحيد لمصر، بينما تحظى السودان بمصادر أخرى للمياه، أما الاعتبار الثاني فهو اعتماد مصر طوال تاريخها على النيل كمصدر للحياة بينما ظهرت احتياجات السودان في الحصول على جزء من مياه النيل مع مطلع القرن العشرين، وثالث هذه الاعتبارات هو دخول بريطانيا كطرف ثالث في مسألة مياه النيل، حيث لبّت المصالح الاستعمارية البريطانية في زراعة القطن بالسودان التطلعات السودانية في التوسع الزراعي اعتمادًا على نهر النيل بهدف تحقيق التراكم الرأسمالي(*)، وشكَّـل هذا التلاقي بين المصالح البريطانية والتطلعات السودانية ورقة ضغط بشأن مياه النيل التي يعتبرها المصريون مصدرهم الوحيد للحياة، من هنا فإننا نعتقد أن العلاقات المصرية السودانية لم تكن بطبيعة المصالح البريطانية في السودان وحساسية مياه النيل بالنسبة لمصر علاقات تكامل، ولكنها حَبُلَت بجدل مضاد لهذا التكامل ملبيًا للمصالح الاستعمارية بكل أشكالها القديمة منها والمستحدثة، حيث لم تستطع النخب السياسية في البلدين القفز على هذه الحالة، وذلك في ضوء أن النيل لم يؤسس نظام مصر المائي والزراعي فقط، بل امتدت أدواره لتؤثر على النظام السياسي والعقيدة الدينية والوحدة الوطنية، فبهدف توحيد النظام المائي، وتنظيم جداول الري في الأقاليم انبثقت الوحدة السياسية المصرية وقامت الدولة المركزية.

أما المشهد السوداني فلم يكن لصيقًا بالنهر، وذلك على اعتبار اعتماد الزراعة السودانية على مياه الأمطار حتى أوائل القرن العشرين، حيث لم تكن الزراعة النهرية معروفة إلا في مناطق محدودة بالنوبة الشمالية، ولم تزد مساحتها عن 170 ألف فدان، كانت تروَى برَيّ الحياض، بينما بدأت أولى التجـارب البريطانـية في زراعة القطن اعتمادًا على مياه النيل كانت بمنطقة الجزيرة عام 1904م، وطبقًا لهذا المشهد +الأوليّ وعلى ذلك فإننا سنهتم في هذه الدراسة برصد العلاقات المصرية السودانية في مسألة المياه، منذ مطلع القرن العشرين وحتى استقلال السودان، ثم نتعرض لكيفية استخدام البريطانيين للمياه كورقة ضغط ضد مصر ++الثورة حتى نهاية الفترة الانتقالية، وأخيرًا نرصد جدل الصراع في المصالح المائية بين مصر والسودان حتى عقد اتفاقية 1959م, والعوامل السياسية التي أثرت فيه على الصعيدين المصري والسوداني، كما نرصد مجال تطبيق اتفاقية 1959م حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، وذلك كله بغرض نهائي هو توفير قاعدة معرفية موثقة للأجيال الجديدة والتي تحصل عليها ربما من أطراف لها مصالح مغايرة لشعبي وادي النيل.

أولًا:- العلاقات المائية بين مصر والسودان قبل ثورة يوليو

نظرًا للأهمية المطلقة لنهر النيل، فقد اهتمت الدولة المركزية في مصر منذ أقدم العصور بمتابعة النهر والبحث عن منابعه، ولعل المؤرخين المعنيين بشئون النهر يعلمون أن قراءة تاريخ مصر هي الوجه الآخر لتطور النظام المائي المصري، فحكام مصر العظماء هم أولئك الذين اهتموا بالنهر، والخاملون هم الذين لم يضيفوا إليه شيئًا ولم يصونوه[1].

من هنا فإن السياسة الخارجية المصرية خلال القرن التاسع عشر حكمتها مسألة تأمين وصول مياه النيل بالكميات التي تسمح بقيام الزراعة والتوسع فيها لمواجهة الزيادة المستمرة في السكان، ومن هنا أيضًا كانت الحملات العسكرية والرحلات الكشفية لتأمين منابع النيل وعدم سقوطها في أيدي قوة معادية، وطبقًا لهذه الرؤية فقد أصبح معظم وادي النيل يحوز على أهمية أساسية لمصر، مما أكد على فكرة وحدة النهر، وتركيز العمل على تنظيم مياهه من المنبع إلى المصب. ولم يتغير هذا التفكير الاستراتيجي.

بعد احتلال بريطانيا لمصر ولكل دول حوض النيل تقريبًا، وذلك بحسبان أن الأهداف كانت متلاقية لدى الجانبين المصري والبريطاني عند فكرة التوسع الزراعي في مصر.

في هذا السياق كانت نقطة التقاطع بين مصر والسودان في مسألة المياه مع بداية مشروعات الجزيرة، حيث تم الاتفاق مع الحكومة المصرية على سحب المياه اللازمة لمضاعفة مساحة الأراضي المزروعة في مشروع الجزيرة جنوب النيل الأزرق لتصل إلى 20 ألف فدان مع حلول عام 1909م[2]، وذلك ضمن مقترحات السيد (ماردوخ ماكدونالد) في أعالي النيل وعلى النيلين الأزرق والأبيض، فتبلور قلقًا مصريًّا من أن تكون تلك السدود والمشروعات أداة في يد الإنجليز للتحكم في صانع القرار المصري، ومن هذه التحفظات الكتيب الذي وضعته لجنة المهندسين المصريين الوطنيـين(**)، ورفعته إلى “عدلي يكن” رئيس الوزراء عام 1921.

وقد تحققت المخاوف المصرية بالفعل مع الإنذار الذي قدمه المندوب السامي البريطاني -اللورد اللنبي- إلى مصر في أعقاب اغتيال السيرلي ستاك، وقد تم استخدام الورقة المائية فيه للضغط على مصر عقابًا على حادث الاغتيال، حيث جاء في المادة السادسة منه “إن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في منطقة الجزيرة بالسودان من 300 ألف فدان إلى مقدار غير محدود تبعًا لما تقتضيه الحــاجـة”.

وقد أدى إنذار اللنبي بشروطه المجحفة لمصر إلى استقالة سعد زغلول ليخلفه زيوار باشا الذي ناشد اللنبي بتعطيل تعليماته إلى حكومة السودان، وخصوصًا المتعلقة بعدم تحجيم مشروع الجزيرة، وهو ما استجاب له اللنبي، وتم تشكيل لجنة خبراء( * ) لتدرس وتقترح القواعد التي يمكن إجراء تنظيم مسألة الري بمقتضاها.

وقد أخذ تقرير هذه اللجنة باحتياجات السودان من مياه النيل التي وصل استزراع أراضي الجزيرة فيها إلى 527 ألف فدان عام 1929م، وحددت فترات استخدام مصر لمياه النيل في الفترة من 19 يناير إلى 15 يوليو فقط من كل عام.

ومع حكومة عبدالخالق ثروت حاولت مصر تكييف مطالبها في مسألة مياه النيل في المادة الحادية عشرة من مشروعٍ قدمته إلى الجانب البريطاني في إطار المفاوضات المصرية البريطانية بشأن الجلاء، وجاء في هذا المشروع الاعتراف بحق مصر في اتخاذ كافة تدابير المراقبة اللازمة لتكفل توزيع المياه طبقًا للقواعد التي وضعت في تقرير لجنة 1925م على أن تقدم لها كل التسهيلات للقيام على نفقتها بجميع أعمال الري على مجرى النيل الداخلة في نطاق المصالح المصرية[3]، إلا أن هذه المطالبة قد واجهت رفضًا من بريطانيا.

ومع فشل المفاوضات المصرية البريطانية المتلاحقة كان من الضروري حسم مسألة مياه النيل على نحو منفصل عن الاتفاقيات السياسية على اعتبار الحيوية القصوى لمسألة مياه النيل في مصر، من هنا كانت مبادرة رئيس الوزراء محمد محمود في 7 مايو 1929م بتبادل المذكرات مع (لورد لويد) المندوب السامي البريطاني في القاهرة وقتذاك، وقد اعتبرت المذكرتان المتبادلتان بهذا الصدد أساسًا لاتفاقية مياه النيل لعام 1929م.

وقد أكدت هذه الاتفاقية على ضرورة مراعاة حاجة السودان من مياه النيل لزوم التوسع الزراعي فيه، بما لا يؤثر على حاجة الزراعة والحياة في مصر، وعلى ضرورة التنسيق الفني في مسائل الري ومتصرفات النهر بين مصر والسودان، كما أكدت الاتفاقية على حقوق مصر في مياه النيل، كذلك قننت الاتفاقية وجود الري المصري بالسودان، وأعطته التسهيلات اللازمة للقيام بأعمال الأرصاد على النيل وفروعه، وكذلك دراسة مشروعات ضبط النهر والتي كانت تعرف بمشروعات الري الكبرى ومراقبة سحب السودان[4].

وقد امتد حكم الاتفاقية وتقرير لجنة ميـاه النيل المؤرخ في مارس 1926 المرفق بها إلى منطقتي البحيرات الاستوائية التابعة لدول شرق أفريقيا بألا تقيم تلك الدول أية منشآت خاصة بالري على حوض النيل تمس حصص مصر والسودان من المياه إلا بالاتفاق مع حكومة السودان والحكومة المصرية.

وقد ثبّتت الاتفاقية حق مصر المكتسب في إيراد نهر النيل بـ48 مليار متر مكعب، وحصة السودان بـ4 مليارات متر مكعب, حيث كانت تلك هي حصيلة نهر النيل وقتها، في حين كان يذهب 32 مليار متر مكعب من مياه الفيضان إلى البحر المتوسط.

وقد استمر هذان الخطابان المعبر عنهما بـ”اتفاقية مياه النيل” كأساس للعلاقة بين مصر والسودان، فيما يتصل بمسائل الري، فلم تتعرض معاهدة التحالف بين مصر وبريطانيا عام 1936م لتلك المسائل إلا بما جاء في المذكرة الثالثة المتبادلة بمصر في 12 أغسطس 1936م من أنه ” قد اعتبر من المرغوب فيه، ومن المقبول أن يُدعى مفتش عام الري المصري في السودان إلى الاشتراك في مجلس الحاكم العام، كلما نظر المجلس في مسائل متصلة بأعمال مصلحته”.

وقد شكّلت اتفاقية 1929م قاعدة للعمل المصري لتطوير الاستفادة من مياه النيل طبقًا لمشروعات وضعها مهندسو الري البريطانيون مع مطلع القرن العشرين(*)، ولعل أبرز هذه المشروعات التي أنجزت بالفعل بالإضافة لخزان أسوان هو خزان جبل الأولياءJabel Auliaa Compensation Committee على النيل الأبيض الذي أنجز عام 1938م، وكانت قدرته التخزينية 2.5 مليار متر مكعب عند أسوان، وساعدت على زيادة المساحة المزروعة بمصر بمقدار 600 ألف فدان، وقد دفعت مصر تعويضات لبناء الخزان بلغت 750 ألف جنيـه مصري(* ) إضافة لتكاليف بناء الخزان.

ويرجع تشجيع بريطانيا لإتمام هذا المشروع في هذه الفترة من الثلاثينيات إلى عدة أسباب أهمها:-

1- أن زيادة المياه الواردة لمصر نتيجة بناء خزان جبل الأولياء ستعطي حكومة السودان إمكانية التوسع الزراعي في النيل الأبيض والجزيرة دون اعتراض مصر.

2- أن قيام مصر بإنجاز المشروع ودفعها لمبلغ 750.000 جنيه مصري كان معناه إنقاذ ميزانية السودان وإخراجها من أزمة كبيرة أتت ليس فقط بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، وإنما أيضًا بسبب انخفاض معدلات إنتاج القطن في تلك الفترة.

3- أن المشروع كانت ستتولاه شركة إنجليزية، فقد كان من غير المسموح به تولى أي شركة غير إنجليزية بناء الخزان، وهذا يعني بطريق ما انتعاشًا اقتصاديًّا لرأس المال الإنجليزي.

4- أن زيادة مخزون المياه أمام الخزان كان سيغرق مناطق زراعية، ومناطق رعي على جانبي النيل الأبيض، مما كان سيجر إلى زراعة مساحات بديلة جديدة ينتقل الأهالي المهاجرون إليها، مما يؤدي إلى خلق مجتمعات جديدة، وهذا ما حدث بالفعل حيث قامت مشاريع الإعاشة البديلة في مناطق (عبدالماجد – فطيسة – الهابشة – أم جر- وادي نمرو – الجزيرة)، وقد تم تمويل تلك المشروعات من مبالغ التعويضات التي دفعتها مصر والتي تولى الإشراف على إنفاقها “لجنة تعويضات جبل الأولياء”.

وإلى جـانب خزان جبل الأولياء فإن طول فترة المفاوضات المصرية البريطانيـة -والتي استمرت من 1940م إلى 1952م- حول إنشاء محطة توليد كهرومائية على شلالات أوين، يكشف مدى الحرص المصري على كل قطرة من مياه النيل، حيث تعلقت المفاوضات بحجم الخزان وسعته، وذلك لتضمن مصر ألا يتم تشغيل توربيناته بما يزيد عن التدفق الطبيعي لمياه النهر، ولتضمن عدم خفض كمية المياه التي تصل مصر أو تعديل تاريخ وصولها، وقد رأت مصر في هذا السياق أن تستقبل أوغندا خبيرًا مصريًّا في أشغال الري لمراقبة المشروع، حيث تطورت فكرة المحطة الكهرومائية لتتحول إلى خزان تم إنجازه عام 1954م.

ولعلنا نلاحظ من سياق هذه المشروعات الاتجاه المصري لتنفيذ الاستراتيجية البريطانية في تخزين مياه نهر النيل خارج الحدود المصرية، بما يكفل تحكمًا سياسيًّا في مصر طبقًا لسياسة اللورد كتشنر، إلا أنه مع قيام ثورة يوليو فإن التفكير الاستراتيجي المصري قد انقلب في اتجاه تخزين المياه داخل الحدود المصرية، ولعل ما قال به خبراء الري المصريون بخطورة التخزين خارج الحدود المصرية بل والذهاب إلى رفض تنفيذ مشروع سد أوين بعد شهور من قيام الثورة[5] قد لقي آذانًا صاغية لدى دائرة صنع القرار بعد يوليو التي أحدثت ثورة حقيقية في سياسة مصر المائية، إذ إنها راحت تميل إلى الاتجاه نحو السيطرة على نصيب مصر من المياه ومنع الفيضان بما يمثله من هدر للمياه ومخاطر على السكان، ومن ثم التحكم في النهر داخل الأراضي المصرية بما يقلص من فرص ابتزاز مصر.

ثانيًا: الضغوط البريطانية بشأن المياه

لعل إعلان استقلال السودان عام 1956م لم يكن إعلانًا بإنهاء الصراع المصري البريطاني على السودان رغم حسم وضع الأخير القانوني، ولكنه كان تدشينًا لصراع من نوع جديد وورقة ضغط استخدمها البريطانيون ثم الأمريكيون ضد مصر؛ فقد كان السودان هو الورقة الرابحة التي يمكن استخدامها كورقة ضغط على مسارات السياسة المصرية، وخصوصًا في المجال الخارجي، حيث مَثّل ملف المياه والسد العالي ورقتي الضغط الأنجلو أمريكي ضد مصر إزاء توجهاتها في النضال ضد الاستعمار ودعم حركات التحرر الوطني في العالم العربي وأفريقيا، والتي برزت في مؤتمر باندونج ١٩٥٥، وهو ما ردت عليه الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٥٧ ببدء بلورة تصاميم لإقامة سدود مائية في إثيوبيا عام ١٩٥٧ قام بها مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي.

وبطبيعة الحال لم تنتظر بريطانيا طويلًا لاستخدام ورقة المياه كعنصر ضاغط على مصر بإعمال ذات الاستراتيجية التي استخدمتها مطلع القرن العشرين في خلق نقطة لتلاقى المصالح البريطانية والسودانية، ففي حين يزرع السودانيون القطن تستفيد منه مصانع لانكشاير، ولكن التعديل البريطاني في منتصف القرن العشرين كان محاولة توظيف السودان ضد الاحتياجات المائية المصرية، وخصوصًا أن هذه الاحتياجات قد ارتبطت على نحو عضوي ببناء السد العالي مشروع الثورة الأهم في طموحاتها التنموية، وأيضًا عنوان المعركة مع الغرب، وهو المشروع الذي أثار مخاوف السودانيين أيضًا.

    وقد اصطدم التكتيك الاستعماري البريطاني هذه المرة بمشروع جمال عبدالناصر في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للشعب المصري، وقيادته لمعركة ناجحة ضد الغرب في المنطقة خلال الخمسينيات، والتي كانت من أهم أسباب تزايد شعبية الرجل التي انطلقت في العالم العربي كله، وانعكست على تزايد النفوذ الإقليمي المصري، وهو الأمر الذي ساهم -في تقديرنا- في إدارة مسألة المياه بنجاح لصالح الجانب المصري، وأسفر في الأخير عن عقد اتفاقية 1959م وبناء السد العالي.

وكانت أولى الخطوات البريطانية في الوقيعة بين شعبي وادي النيل هي ما أعلنه روبرت هاو -الحاكم العام أمام أول برلمان سوداني في عام 1954م- عن تدشين مشروع المناقل، وذلك باستزراع ثمانمائة ألف فدان اعتمادًا على مياه النيل، وقد كانت الأهداف المباشرة لهذه السياسات هي حصول مصانع لانكشاير البريطانيـة على 49.2% من إنتاج القطن السوداني في الفترة من 1954م- 1957م، وذلك بأسعار متدنية مقارنة بأسعار الأقطان الأخرى.

وفي ضوء السياسات البريطانية المعروفة منذ مطلع القرن في اعتماد سياسة تخزين المياه خارج الحدود المصرية بما يمثله ذلك من امتلاك مقدرات صانع القرار في القاهرة، سعت بريطانيا إلى وأد مشروع السد العالي في فترة مبكرة، وذلك حتى قبل القبول الأمريكي المبدئي بتمويل السد مع نهاية 1955م، حيث ظهرت فكرة مشروع السد العالي بعيدًا عن فكر مدرسة الري البريطانية عام 1948م من مواطن مصري لأبوين يونانيين يدعى “أريان دانيتوس”، وقد قام أريان بتقديم مشروعه إلى المجمع العلمي المصري في اجتماعه السنوي الأول، وذلك في أعقاب فيضان 1946م الذي هدد القطر المصري بسكانه الخمسة والعشرين مليونًا وتمت السيطرة عليه بصعوبة بالغة.

وأمام تبني الثورة لمشروع السد العالي اتخذت بريطانيا عددًا من الخطوات الإجرائية لتعطيله، ومن ذلك السعي لإدخال إثيوبيا كشريك لكل من مصر والسودان في أي مشروعات على النيل، إضافة لمحاولة تحويل الاهتمام المصري لبناء السد العالي نحو إنشاء مشروعات تخزين المياه بعيدًا عن مصر والسودان كمشروع خزانات تانا والنيل الأزرق.

ولعل ما سبق كان يشير إلى مراهنة بريطانيا -حتى هذه الفترة- على ممارسة ضغوط مستترة على مصر في ملف المياه، وذلك على اعتبار أن القاهرة لم تحسم موقفها نهائيًّا من الغرب، وهو ما جعل سياسة بريطانيا في تشجيع مشروعات تخزين المياه فيما وراء الحدود المصرية تعتمد على مراعاة الحساسية المصرية لمسألة المياه في العلاقات مع السودان، لكن إقدام القاهرة على عقد صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا في نهاية سبتمبر 1955م أعطى لندن الضوء الأخضر لإهمال الحساسية المصرية إزاء المياه في الملف السوداني.

وبطبيعة الحال ساهم العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م في حسم موقف بريطانيا من مصر والضلوع في مناوأة عبدالناصر في القاهرة على كل الجسور المتاحة وفي القلب منها مياه النيل، وكان من الطبيعي أن ترث الولايات المتحدة الأمريكية الدور البريطاني في السودان باعتبارها القوة الأعظم البازغة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ثالثًا: معركة تقسيم مياه النيل

يمكن تلخيص الموقف الخاص بالمياه بين مصر والسودان في أنه لم يكن من الممكن تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية للثورة المصرية دون أن تحتل المياه موقعًا مؤثرًا في هذه الخطط، وذلك في وقت كان فيه كبار الملاك الزراعيين من السودانيين يسعون إلى زيادة حصة بلادهم من المياه لزيادة مساحة الأراضي المزروعة قطنًا وهو محصول البلاد الرئيسي، كما كانت ورقة المياه إحدى أوراق اللعبة السياسية السودانية الداخلية، حيث تم استخدامها من جميع الأطراف في إدارة الصراع الحزبي سواء بين حزبي الاتحادي والأمة أو بين صفوف الحزب الاتحادي نفسه، وقد كان غالبية الملاك الزراعيين من أقطاب حزب الأمة الذين كان أكثر ما يقلقهم هو اتفاقية مياه النيل لسنة 1929م التي حدت من قدرتهم على تطوير وزيادة مساحات الأراضي المزروعة قطنًا[6]، ولعل ذلك ما يفسر سعي عبدالرحمن المهدي في زيارته الأولى للقاهرة من أجل مقاربة ملف المياه في اتفاق الجنتلمان المعقود على هامش اتفاق مصر والاستقلاليين عام 1952م. حيث نص الاتفاق في النصوص الخاصة بالمياه على الآتي:

1- تشرع مصر في تنفيذ مختلف مشروعات النيل المقترحة لتوفير الماء اللازم للتوسع الزراعي الضروري في كل من مصر والسودان.

2- توافق الحكومة المصرية على أن يكون للسودان نصيب عادل في مشروعات أعالي النيل والشلال الرابع، وفي أي مشروع آخر يقام على النيل.

3- بشأن تكاليف الخزانات الجديدة تراعى مصر في تقديرها أن ما يدفعه السودان من المال لا يكون بنسبة حصته من مشروعات الماء الجديدة، وذلك لمراعاة انتفاع مصر في الماضي من مياه النيل بمشروعات تكلفت تكاليف أقل نسبيًّا بالنسبة لتكاليف المشروعات الجديدة.

4- يتعهد السودان باحترام الحقوق المكتسبة بمقتضى اتفاقية مياه النيل المبرمة بين مصر وإنجلترا عام 1929م، وذلك على الرغم من أن السودان لم يكن طرفًا في هذه الاتفاقية.

ولعل المرونة التي أبداها المصريون في التوقيع على هذا الاتفاق فيما يتعلق بمياه النيل كانت تراهن على نجاح السياسة المصرية الرامية إلى تحقيق وحدة على نحو ما مع السودان، ولكن هذه المرونة لم تستمر طويلًا؛ إذ إن محمد نجيب وجد نفسه مضطرًا -مع بدء ظهور خلافات وحساسيات مع حزب الأمة في منتصف عام 1953م اعتراضًا على الأداء المصري في السودان أثناء المرحلة الانتقالية- إلى توضيح ماهية المصالح المصرية في السودان في مخاطبات مع السيد عبدالرحمن المهدي، وذلك في خطاب مؤرخ في 19 مايو 1953م, حيث وضع نجيب المياه كأولوية مطلقة في المصالح المصرية بالسودان، وطالب بضرورة أن يتم رسم سياسة موحدة بخصوص توزيع مياه النيل توزيعًا يكفل العيش الرغيد لأهل مصر والسودان على مر الأجيال” ++الثورة بعد شهرين من قيامها.

ويمكن رصد ملامح البيئة المحيطة بمشروع السد العالي على صعيد العلاقات الثنائية بين مصر والسودان في عدد من النقاط منها اندفاع السودانيين للسعي نحو الاستفادة من مياه النيل بكل طاقاتهم إضافة لوجود مخاوف هائلة من تنفيذ مشروع السد العالي إلى حد مطالبة الصحف السودانية في أغسطس 1954م بالوقوف أمام تنفيذ هذا المشروع صفًّا واحدًا والقفز على الصراعات الحزبية بشأنه[7]، أما على الجانب المصري فقد برز التمسك بتنفيذ السد العالي وتركيز الاستراتيجية المائية المصرية على استبعاد تخزين المياه خارج مصر والسودان.

هذه الأجواء كانت دافعًا لعرقلة الوصول إلى اتفاق بين المصريين والسودانيين خلال أول مفاوضات مائية عام 1954م، بهذا الشأن والتي تمت بناء على طلب سوداني، لأهداف تتعلق بالحصول على موافقة مصر على إنشاء خزان الروصيرص حتى يتسنى للسودان الحصول على الكمية اللازمة في توسعه الزراعي، ولكن كان الموقف المصري هو ربط موافقته على خزان الروصيرص بالموافقة السودانية على مشروع السد العالي.

الجولة الثانية في المفاوضات بين مصر والسودان في مسألة المياه عقّدت قبيل مؤتمر باندونج في إبريل 1955م، وذلك بناء على اتصال من إسماعيل الأزهري أثناء زيارته للقاهرة, وذلك في محاولة لمواجهة استخدام كبار رجال الختمية ورقة المياه ضده، فسعى الرجل إلى تحقيق نصر على خصومه السياسيين ولكن من على جسر القاهرة.

وقد بدأت المفاوضات في 4 أبريل 1955م بحضور مستشار الري الإنجليزي المستر مورس، وهو الأمر الذي سبب حساسية مصرية بطبيعة الحال، حيث تبلور الموقف التفاوضي السوداني في الخرطوم إلى ضرورة حسم الموقف دون تأجيله، وذلك على أسس عدم ربط مسألة إنشاء السد العالي بمسألة اقتسام المياه أو مشروع خزان الروصيرص الذي تنوي السودان بناءه، بينما كان هناك قبول للتفاوض حول رقم كمية المياه المقتسمة على أسس فنية[8].

وبطبيعة الحال دخلت الصحافة البريطانية على الخط في أجواء مشبعة بالتوتر بين مصر والغرب مستهدفة الوقيعة بين دولتي وادي النيل بعد تأميم قناة السويس، حيث أعربت التايمز عن دهشتها من إهمال مصر شريكها الرئيسي في مياه النيل (السودان) في مسألة بناء السد العالي رغم أنه سوف يغرق جزءًا من السودان.

هذا الهجوم البريطاني الكاسح لم ينجح في شراء موقف سوداني موالٍ له، حيـث إن الإشارة الواردة في بيان رفض تمويل السد حول استعـداد الولايات المتحدة لمناقشة الخطوات الأكثر توصلًا إلى تطـوير مياه النيل مع الحكومات التي يمر ببلادها النيل قد اعتبرها السودانيون عرضًا مسمومًا لحكومة السـودان يـخدم أغـراض الاستـعمار الأنجلـو أمريكـي، حيـث أجمعـت الصحـف السودانية، في موقف وطني متأثر بمناخ محاربة الاستعمار علـى أن المعسـكر الغربي يريد استخـدام السودان وإثيوبيـا وأوغنـدا مـخالب قـط ضـد مصر، بل إن الرأي العام السوداني قد انحاز كلية نحو مصر بعد تأميم قناة السويس، وأشارت صحيفة الأيام السودانية إلى أن السودان يقف مع مصر في سياساتها الحالية، ويشد من أزرها للوقوف ضد كل محاولة لتسرب النفوذ الأجنبي إلى أراضيها أو الضغط عليها، وأضافت الأيام “إن البيان الأمريكي حاول الزج بالسودان في هذه الضغوط، ونحن نؤكد أننا لا نعتزم أن نجعل من مسألة تقسيم مياه النيل ثغرة لطعن مصر من الخلف، والاتفاق بين البلدين لا يحتمل تدخل أي دولة أجنبية”[9].

وقد حاولت القاهرة استغلال هذا المناخ السياسي المواتي لها في حسم مسألة مياه النيل مع السودان، إلا أن المزايدات السياسية على مستوى النخبة السياسية -التي نعتبرها قد وصمت الحياة السياسية السودانية منذ الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة- قد أحبطت مشروع اتفاق بشأن المياه بين مصر والسودان، إذ إنه مع سقوط حكومة إسماعيل الأزهري في 5 يوليو 1956 وتكوين حكومة ائتلافية سودانية من حزبي الأمة والشعب الديمقراطي دلف ملف المياه من بوابة المزايدات السياسية الداخلية، بينما كان تأميم قناة السويس في نفس التوقيت مؤشرًا لقطيعة مصر الكاملة مع الغرب، وهو الأمر الذي أسفر عن دخول ملف المياه في بؤرة الصراع بين مصر وبريطانيا باعتبار أن المياه ورقة الضغط المتاحة، حيث حاول البريطانيون هنا أن يكون السودان مخلبهم ضد عبدالناصر.

ومع ازدياد حجم المصالح السودانية في الاستثمار الزراعي مع مطلع عام 1957م تصاعد الجدل حول مسألة مياه النيل، كما تم تبني فكرة إقامة خزانات صغيرة على النيل عوضًا عن السد العالي، حيث أعدت جامعة الخرطوم محاضرات في هذا الشأن. كما قامت جماعة الإخوان المسلمين على خط الأزمة، وذلك بتوزيع منشورات ودراسات حول مسألة تقسيم المياه مناهضة لمصر، وذلك كنتيجة طبيعية للصراع السياسي الذي نشأ بينهم وبين النظام السياسي المصري في أعقاب محاولة اغتيال جمال عبدالناصر.

وقد لقي هذا الاتجاه السوداني دعمًا بريطانيًّا وأمريكيًّا في ضوء تدشين مشروع إيزنهاور عام 1957م الذي كان رأس الرمح الأمريكي لمحاربة ومحاصرة النفوذ الشيوعي في الشرق الأوسـط وغيره من مناطق العـالم، ففي هذه الأجواء بحث عبدالله خليل مسألة المياه في لندن في سبتمبر 1957م حيث أعربت لندن عن عدم الممانعة في تقديم إعلان من جانبها تعتبر فيه أن معاهدة 1902م(*) غير ذات موضوع, في وقت لم تعترف فيه السودان باتفاقية المياه لعام 1929م، وذلك مع وجود مؤشرات بإمكانية إقدام السودان على اعتبار الاتفاقية سالفة الذكر غير ذات موضوع هي الأخرى. وقد توج ذلك نائب الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون حين كشف عن وجود مشروع تخزين كبير للمياه تتعاون فيه كل دول حوض النيل وتتحمل الولايات المتحدة جزءًا من تكاليفه المالية بينما تشارك بريطانيا في تنفيذه. وبطبيعة الحال كانت إثيوبيا أول المؤيدين لهذا المشروع؛ إذ إن موقفها السياسي من تفاعلات مسألة إنشاء السد العالي قد تبلورت في رفض إنشاء السد العالي بعنف, وذلك لأسباب تتعلق بخطورة تنامي نفوذ مصر وقيادة عبدالناصر لإمبراطورية إسلامية إضافة إلى أن أي تعاون أو تنسيق مصري سوداني يخصم بالضرورة من الوزن والدور الإقليمي لإثيوبيا في أفريقيا, وفي هذا الإطار طالبت إثيوبيا بالاشتراك في أي مفاوضات حول مياه النيل بين مصر والسـودان.

وقد واجه الموقف المصري هذه الهجمة الغربية المدعومة إقليميًّا بإجراءين: الأول التمسك بنصوص اتفاقيتي 1902م، 1929م اللتين تضمنهما بريطانيا ولا تستطيع التنصل منهما على اعتبار أنهما اتفاقيتان دوليتان، أما الإجراء الثاني فهو استعجال البدء في مباحثات مياه النيل مع السودان هذا بالإضافة إلى دور بريطانيا في حشد تأييد مستعمراتها الأفريقية ضد تخزين المياه داخل الحدود المصرية، وقامت في هذا السبيل بعقد أكثر من اجتماع بين كينيا وأوغندا وتنجانيقا (تنزانيا)، وتم طرح خطة فنية لإرساء حق إلزامي لهذه الدول في مياه النيل لاستخدامها في الري، وقد وافقت هذه الدول على الخطة التي تعطيها الحق في سحب مليار و704 ملايين متر مكعب من مياه النيل[10].

رابعًا: اتفاقية مياه النيل 1959م

مع حلول نوفمبر 1959م استؤنفت مرة أخرى مباحثات المياه بين مصر والسودان من النقطة التي توقفت عند مسألة التعويضات، وعندما لم يتم التوصل إلى حل وسط سافر عبدالماجد أحمد وزير المالية لمشاورة الفريق عبود الذي طلب منه مطالبة عبدالناصر بالتدخل لحل المشكلة، وبالفعل رفع عبدالناصر التعويض إلى خمسة عشر مليون جنيه استرليني.

وهكذا تم حسم مسألة المياه بعقد اتفاقية 1959م التي وقّعت في الثامن من نوفمبر 1959م

وتحت عنوان “مشروعات ضبط النهر وتوزيع فوائدها بين الجمهوريتين” وافقت الدولتان على الآتي:-

أولًا:- إنشاء كل من السد العالي عند أسوان في مصر وخزان الروصيرص في السودان على النيل الأزرق أو أي أعمال أخرى تراها السودان لازمة لاستغلال نصيبها.

ثانيًا:- احتسبت الاتفاقية صافي الفائدة من السد العالي بنحو 84 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا، ويستبعد منها الحقوق المكتسبة ومتوسط فاقد التخزين المستمر في السد العالي.

ثالثًا:- يوزع صافي فائدة السد العالي بنسبة 14.5 مليار متر مكعب للسودان و7.5 مليار متر مكعب للجمهورية العربية المتحدة متى ظل متوسط الإيراد في حدود 84 مليار متر مكعب، وفي حالة استمرار معدل فواقد التخزين عند حدود عشرة مليارات، وبذلك يكون صافي فائدة السد العالي 27 مليار متر مكعب من المياه يكون نصيب السودان منها 14.5 مليار متر مكعب ونصيب الجمهورية العربية المتحدة 7.5 مليار متر مكعب.

وبضم هذان النصيبان إلى حقهما المكتسب فإن نصيبهما من صافي إيراد النيل بعد تشغيل السد العالي الكامل يصبح 18.5 مليار متر مكعب لجمهورية السودان و55.5 مليار للجمهورية العربية المتحدة، فإذا زاد المتوسط فإن الزيادة في صافي الفائدة الناتجة عن زيادة الإيراد تقسم مناصفة بين الجمهوريتين.

رابعًا:- توافق حكومة الجمهورية العربية المتحدة على أن تدفع لحكومة جمهورية السودان مبلغ خمسة عشر مليونًا من الجنيهات المصرية تعويضًا شاملًا عن الأضرار التي تلحق بالممتلكات السودانية الحاضرة نتيجة التخـزين في السد العالي لمـنسوب 182 مترًا في بحيرة ناصر.

خامسًا:- نصت الاتفاقية على تعهد حكومة جمهورية السودان بأن تتخذ إجراءات ترحيل سكان حلفا وغيرهم من السكان السودانيين الذين ستغمر أراضيهم بمياه التخزين بحيث يتم نزوحهم عنها نهائيًّا قبل يوليو سنة 1963م، ومن المسلم به أن تشغيل السد العالي الكامل للتخزين المستمر سوف ينتج عنه استغناء الجمهورية العربية المتحدة عن التخزين في جبل الأولياء، ويبحث الطرفان المتعاقدان ما يتصل بهذا الاستغناء في الوقت المناسب.

وبطبيعة الحال حظي توقيع اتفاقية المياه بين مصر والسودان بردود فعل إيجابية في القاهرة، حيث تمكنت مصر من بناء السد العالي.

أما على الجانب البريطاني فإنه رغم عقد اتفاقية تقسيم مياه النيل بين مصر والسودان إلا أن بريطانيا واصلت أدوارها في حث مستعمرات شرق أفريقيا في المطالبة بنصيبها في مياه النيل، وذلك دون الالتفات إلى الاستفادة من نصيبها في مياه الأمطار, حيث أرسلت الحكومة البريطانية إلى الخارجية المصرية تطالب بتلبية احتياجات دول شرق أفريقيا، وذلك قبيل عقد اتفاقية 1959م(*)، كما قامت بتنسيق مباشر مع بروس ماكنـزي وزير الزراعة والري والثروة الحيوانية في كينيا لإقرار خطة معه في مباحثات كانت مقررة له مع المصريين، وذلك إلى حد إعداد مخطط للإجابة على الأسئلة المتوقع أن توجه له في القاهرة في زيارة تمت في إبريل 1961م بناء على دعوة مصرية وقد تبلور الموقف الكيني طبقًا للسياسات البريطانية في الإصرار على عقد مؤتمر عام حول مياه النيل لكل الدول المطلة عليه، وذلك بحسبان أن اتفاقية 1959م قد أجحفت بحقوق الدول المطلة على النهر فيما عدا الدولتين المتعاقدتين.

وقد تبلور الموقف التفاوضي المصري إزاء مستعمرات شرق أفريقيا في الاعتراف بحق دول الحوض في حصص من مياه النيل شريطة ألا يؤثر ذلك على حصتها من المياه، وأن تتعلق المفاوضات في هذا الصدد بما يزيد عن احتياجات مصر والسودان، وقد كان الحصاد النهائي للمفاوضات بين مصر وتنـزانيا وكينيا رفض مصر مطالب هذه الدول بخمسة ملايين متر مكعب سنويًا من المياه استنادًا لعدم توافر معلومات كافية عن احتياجاتها الفعلية.

و قد استقرت العلاقات المصرية السودانية في مسألة المياه عند حدود اتفاقية 1959م، وذلك في ضوء رؤية مصرية استراتيجية تعتبر أنه على الرغم من أن مياه النيل وتأمينها ليست كلها كل المصالح والأهداف القومية المصرية في حوض النيل إلا أنها تعد من أعلى المصالح والأهداف أهمية، كما أن التهديدات الموجهة إلى المصالح المائية النيلية المصرية ليست كل تحديات الأمن القومي المصري إلا أنها تعد من أخطرها على الإطلاق، (139) وقد اعتمدت مصر في هذا الإطار على مبدأين: الأول الحقوق التاريخية المكتسبة، والثاني هو الحصول على نصيب عادل ومنصف من إيرادات النهر، وقد تم تأصيل المبدأ الأول على المستوى الدولي عام 1966م، فيما يعرف بمبادئ هلسنكي التي أشارت إلى مبدأ التوزيع العادل بين الشركاء في النهر مشيرة إلى أن ذلك لا يعني أن تكون النسب متساوية بين الدول المتشاطئة على حوض أي نهر، ولكن يؤخذ بعين الاعتبار الحاجة الاقتصادية لكل دولة وعدد سكانها.

وقد تم الاستمرار في تأصيل هذه الفكرة على المستويين العربي والدولي بما يشكل استقرارًا لها، حيث تم عقد اتفاق بين مصر وإثيوبيا في هذا الإطار في يوليو 1993، مؤسس على أربعة نقاط هي: عدم قيام أي من الدولتين بأي نشاط يسبب ضررًا بمصالح الدولة الأخرى، واحترام القوانين الدولية، والمحافظة على مياه النيل وحمايته، إضافة للتشاور والتعاون بين الدولتين لإقامة مشروعات من شأنها زيادة حجم تدفقات النهر، كما استطاعت مصر عقد اتفاقية مع أوغندا عام 1999م جددت فيها الأخيرة وهي مستقلة احترامها لاتفاقية 1953م التي عقدتها مصر مع بريطانيا بالنيابة عن أوغندا التي كانت أحد المستعمرات البريطانية وقتذاك. وقد نصت هذه الاتفاقية على أن السياسة التنظيمية المائية لبحيرة فيكتوريا، يجب أن تخضع للنقاش بين الطرفين داخل الحدود الآمنة بما لا يؤثر على احتياجات مصر المائية.

وعلى الرغم من وجود أصوات سودانية تظهر بين وقت وآخر تطالب بإعادة النظر في اتفاقية 1959م،إلا أنه بشكل عام كان هناك توافقًا بين مصر والسودان في المسألة المائية في نهاية التسعينيات باعتبارهما دولتي معبر، وذلك في مواجهة متغيرات دولية قادت إلى وجود مسعى لدى الأمم المتحدة بعقد اتفاقية جديدة بشأن استخدام المجاري الدولية في الأغراض غير الملاحية، وبالفعل صدرت اتفاقية إطارية عام 1997م، وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة وتحفظت عليها كل من مصر وإثيوبيا لاعتبارات تشمل عدم وجود توازن بين حقوق دول المنبع ودول المعبر، وتجنب هذه الاتفاقية الاعتماد على فكرة الحوض Basin وحديثها عن المجرى المائيWater course ، وخطورة هذه المسألة أن فكرة المجرى لا يدخل فيها الموارد الأخرى للمياه المتمثلة في الأمطار والمياه الجوفية.

وبشكل عام يمكن القول: إن دوائر صناعة القرار في مصر حاليًا أمامها تحدٍّ رئيسي في ملف المياه مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية احتلال أفريقيا لأولوية استراتيجية لمصالحها، وذلك تتويجًا لعدد من التكتلات قادتها الولايات المتحدة في أفريقيا، وخاصة في منطقتي شرق أفريقيا ومنطقة البحيرات العظمى، حيث من المتوقع أن تؤثر هذه السياسات على مصر في دول حوض النيل وتلقي بأعباء إضافية على عاتق الإدارة المصرية للحفاظ على المصالح الاستراتيجية المصرية في أفريقيا التي تحولت إلى ساحة للصراع الدولي.

وإجمالًا نستطيع القول: إن التعرض لأسس وتاريخ التفاعلات المصرية السودانية في الأطر المائية هو مسألة أساسية لتلافي خطايا الماضي والانطلاق نحو تأسيس استراتيجيات مشتركة يكون هدفها الأول مصالح لوادي النيل متكاملة مع دول المنابع إن توافرت الإرادة السياسية لدي هذه الدول وتماهت مع أفكار التأسيس الجديد للمصالح الأفريقية المشتركة، وذلك تأسيسًا على تفاعل مصري إيجابي مع السودان، وذلك بدفع تكلفة بناء الخزانات المائية السودانية، والتعويضات المترتبة على إنشاء بحيرة السد العالي، وإنقاذ الآثار السودانية في هذه المنطقة أسوة بالآثار المصرية طبقًا لشهادة منصور خالد وزير الخارجية السوداني الأسبق والتي رصدها في الجزء الثاني من مذاكراته.

إن ورقة المياه قد تم توظيفها ضد مصر تاريخيًّا من كل القوي الدولية المهيمنة منذ بداية القرن العشرين سواء كانت بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية.

إن السودان مستهدف حاليًا في أمنه الإنساني وحصته المائية من جانب إثيوبيا وذلك في ضوء عدم دخول إثيوبيا في استراتيجيات مشتركة مع السودان أو ثلاثية تضم مصر في الأطر التنموية.

إن مصر قد أهملت احتياجات الطاقة الأفريقية ولم يكن لها رؤى استراتيجية تستطيع أن تحتوي بها دول المنابع خصوصًا في عهدي السادات ومبارك اللذين قزّما مسألة النيل في الأطر الفنية المعنية بها وزارات الري، بينما انشغل جمال عبدالناصر بحربي اليمن ويونيو ١٩٦٧.

إن مشروعات الكمون المصري تلبية للتحديات الداخلية والمطروحة منذ بداية الألفية الجديدة في مصر، قد أثبتت فشلًا في حماية المصالح المائية التي هي نقطة ارتكاز في مقومات الأمن القومي المصري، وإن مصر لم تستطع حماية مصالحها المائية إلا تحت مظلة أدوار إقليمية مستفيدة من تفاعلاتها الدولية طبقا لحالة النظام الدولي.

إن الأطراف الإقليمية داخل وخارج المنظومة العربية قد ساهمت بأدوار مؤثرة في توظيف مياه النيل ضد مصر من زاوية التأثير على مقومات القوى الشاملة للقاهرة.

إن نخب وادي النيل لم تستطع أن تنجز تفاهمًا مشتركًا بشأن توجهات تنموية مشتركة ومستدامة تضمن استغلالا جيد للموارد المائية والعمل على تنميتها بعيدًا عن تقاطعات المصالح الدولية.

إن الإخوان المسلمين قد لعبوا أدوارا سلبية ضد نظامي جمال عبدالناصر والسيسي في الملف المائي على خلفية الصراع على السلطة في مصر بعد ثورة ١٩٥٢.


( * ) أرسلت الجمعية البريطانية للقطن عام 1904م وكلاءها في الإسكندرية لتسليم المزارعين السودانيين في الخرطوم وبربر ودنقلة والدويم ثمن مزروعاتهم من القطن نقدًا، وطبقًا للتقرير السنوي البريطاني لعام 1904م فإن ذلك كان بهدف أن يرى الأهالي أن جهودهم في زراعة القطن لم تذهب سدى، نقلًا عن يونان لبيب رزق، السودان في عهد الحكم الثنائي الأول 1899م- 1924م، معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1976م، ص 400- 405.

مراجع الدراسة

[1]– د. السيد فليفل، الخلفية التاريخية لاتفاقيات مياه النيل، المؤتمر الدولي حول مشكلة المياه في أفريقيا، معهد البحوث والدراسات الأفريقية، جامعة القاهرة، ص١.

[2]– د. زكي البحيري، المصدر السابق.

(** ) تكونت هذه اللجنة من عبدالله باشا وهبي، وموسى باشا غالب، وإبراهيم زكي أفندي، وعبدالقوي أحمد أفندي، ومحمد بك إسماعيل.

(*) اجتمعت هذه اللجنة في 17 فبراير 1925م، وقدمت تقريرًا في 21 مارس 1926م ولم يكن في عضويتها مصريون.

[3]– محاضر مجلس الوزراء المصري السودان من فبراير ١٨٤١ إلى فبراير ١٩٥٣، المطبعة الأميرية، ص ٢٨.

[4]– د. أيمن السيد عبدالوهاب، مياه النيل مدخل لدعم العلاقات المصرية السودانية، السياسية الدولية العدد ١٤٣، يناير ٢٠٠١.

( * ) مسألة ضبط مياه النيل حظيت بعدة مشروعات لم يتم تنفيذها، منها مشروع قناة جونجلي المقترح من سير وليم جارستن مع مطلع القرن، وتسببت العمليات الحربية في الجنوب السوداني في تعطيل المشروع الذي كان قد تم العمل فيه مع مطلع الثمانينيات بنحو 260 كيلومترًا وكان مقررًا أن ينتهي عام 1985م.

(*) ميزانية السودان عام 1938م كانت أربعة ملايين جنيه مصري.

[5] – الأهرام، ١٠/ ١/ ١٩٥٣

[6]– تيسير محمد علي، ص ٧٥.

[7]– أرشيف الخارجية المصرية، السودان محفظة رقم ٦.

[8]– مذكرات خضر حمد، الحركة الوطنية السودانية ص ٢٠١ – ٢-٤.

صحف الأيام وصوت السودان.

(*) نصت المعاهدة المعقودة في 15 مايو 1902م على أن يتـعهد ملك الحبشة لدى حكومة بريطانيا بألا يصدر تعليمات أو يسمح بإصدارها فيما يتعلق بعمل أي شيء في النيل الأزرق بما يمكن أن يسبب اعتراض سيران مياهه إلى النيل ما لم توافق على ذلك حكومة بريطانيا مقدمًا هي وحكومة السودان.

[10]-F.O 371/158751, From Commerce and industry Ministry to  Colonial Office، March 20، 1961 .

(*) حُدِّدَت خطة الاحتياجات بالآتي:-

1- كينيا 0.415 مليار متر مكعب.

2- تانجانيقا 0.647 مليار متر مكعب.

3- أوغندا 0.642 مليار متر مكعب.