كتب – محمد الدابولي

«لا أستطيع التنفس»، ثلاث كلمات نطق بها الأمريكي من أصول أفريقية «جورج فلويد» قبيل وفاته بدقائق قليلة، أشعلت العالم شرقًا وغربًا، وكانت لسان حال المضطهدين عرقيًّا في أمريكا، كما أن قساوة فيديو وفاة «فلويد» ألهبت وأثارت مشاعر الجميع.

وما هي إلا أيام معدودات حتى تحولت كلمات «فلويد» -لا أستطيع التنفس- إلى أيقونة جديدة تضاف إلى سجل الأيقونات التاريخية التي خلدتها ذاكرة نضال الأمريكيين من أصول أفريقية في الولايات المتحدة، حيث اندلعت التظاهرات في العديد من المدن الأمريكية -ومنها واشنطن العاصمة- للتنديد بسياسات الحكومة الأمريكية التي باتت تُتهم في الفترة الأخيرة بالتحيز ضد السود.

وتشير الأحداث إلى أن «ديريك تشوفين» -ضابط شرطة مينابوليس في ولاية منيسوتا الأمريكية- استخدم العنف المفرط أثناء توقيف «فلويد» يوم 25 مايو الماضي؛ حيث جثم على عنقه مسببًا له حالة اختناق أدت إلى وفاته.

إزالة تماثيل رموز الاستعمار

سرعان ما انعكست الأحداث في الولايات المتحدة على أفريقيا أو بالأحرى على التاريخ الأفريقي الحديث، حيث الذاكرة الاستعمارية للعديد من الدول الأفريقية؛ ففي التظاهرات التي اندلعت في العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة لم تكتف بإدانة التصرفات العنيفة لبعض أفراد الشرطة، بل استهدفت العديد من الرموز الاستعمارية الأوروبية والأمريكية.

كانت لندن إحدى الساحات المهمة التي شهدت تنديدًا بحادث «جورج فلويد»، فخلال فورة الاحتجاجات الأخيرة أجرى عمدة مدينة لندن «صديق خان» -من أصول آسيوية- مراجعات للعديد من أسماء الشوارع والتماثيل الموجودة في العاصمة البريطانية والتي كانت ترمز إلى الحقبة الاستعمارية وتجارة الرقيق.

ففي يونيو 2020، أُزيل تمثال تاجر الرقيق الشهير «روبرت ميليغان» الواقع أمام متحف دوكلاندز في لندن، كما أزال المتظاهرون أيضًا تمثال آخر لتاجر رقيق آخر وهو «إدوارد كولستون» من مدينة بريستول جنوب غرب بريطانيا.

امتدت عملية إزالة تماثيل رموز الاستعمار الأوروبي والعنصرية ضد السود إلى الولايات المتحدة، حيث حطم متظاهرون تمثالًا للمستكشف «كريستوفر كولومبوس»، كما تمت الإطاحة بتماثيل أخرى لرموز الكونفدرالية الأمريكية خلال الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1865) نظرًا لدفاعهم وقتها على بقاء نظام الاسترقاق والعبودية مثل تمثال «جيفر ديفيز» رئيس الولايات الكونفدرالية.

امتدت التصرفات العفوية لتطال رموزًا سياسية تاريخية، فعلى سبيل المثال تم استهداف تمثال «ونستون تشرشل» نظرًا لشغله العديد من المهام الاستعمارية؛ فعلى سبيل المثال شارك في العديد من الحملات الاستعمارية البريطانية كمراسل حربي مثل الحملة على السودان عام 1898، وكذلك حرب البوير عام 1899، وفي تلك الحرب تم أسره من قبل قوات البوير في جنوب أفريقيا، ومن بعدها تولى منصب نائب وزير الدولة لشئون المستعمرات عام 1906، ومؤخرًا تمت إزالة صورة «تشرشل» من صور أبرز رؤساء الوزراء في بريطانيا في محرك البحث الشهير «جوجل»، إلا أن إدارة «جوجل» علقت بأن عملية الإزالة تمت بسبب عملية التحديث التلقائي للمحرك وليس لأي هدف آخر.

وعلى جانب آخر أزالت جامعة ليفربول اسم رئيس الوزراء البريطاني السابق «وليام جلادستون» من أحد مبانيها، وأشارت إدارة الجامعة إلى أن «جلادستون» كان من معارضي إلغاء نظام العبودية، نظرًا لأن عائلته كانت تمتلك مزارع كبيرة في منطقة البحر الكاريبي يعمل بها العبيد.

كما أن «جلادستون» يعد من أبرز مهندسي الاستعمار البريطاني في أفريقيا، ففي خلال فترات توليه منصب رئاسة الورزارة في بريطانيا تمكنت بريطانيا من تشكيل خريطتها الاستعمارية في أفريقيا، حيث تولى رئاسة وزراء بريطانيا أربع مرات متفرقة خلال الفترة الممتدة من عام 1868 وحتى عام 1894، ففي عهده تم احتلال مصر عام 1882 كما فُرضت الحماية البريطانية على بتسوانا في مارس 1885، كما تم تأسيس محمية أرض الصومال البريطانية عام 1884، كما أنه كان ضمن مهندسي مؤتمر برلين (1884- 1885) الذي نظم عملية الاستعمار الأوروبي للقارة الأفريقية.

وتجرى حاليًا العديد من المحاولات في بريطانيا إلى إزالة رموزها الاستعمارية من المنشآت العامة البريطانية، مثل المحاولات التي يجريها البعض لإزالة اسم «سيسل رودس» من كلية أوريل بجامعة أكسفورد حيث أحد أبرز رموز الاستعمار البريطاني في منطقة جنوب أفريقيا، حيث أسس مستعمرتي روديسيا الشمالية (زامبيا حاليًا) والجنوبية (زيمبابوي حاليًا).

وفي مدينة «أنتويرب» البلجيكية تمت ازالة تمثال يخص الملك البلجيكي «ليوبولد فيل الثاني» اعتراضًا على تاريخه الاستعماري في أفريقيا، وارتكابه العديد من الجرائم الاستعمارية في الكونغو خلال الفترة الممتدة من عامي 1876 عندما أسس رابطة الكونغو الدولية وحتى وفاته عام 1909.

تنشيط الذاكرة

ساهمت حادثة فلويد في تنشيط ذاكرة الأحداث العنصرية في أوروبا والولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال اندلعت تظاهرات في باريس والعديد من المدن الفرنسية تكريمًا لذكرى الفرنسي من أصول أفريقية «أداما تراوري» الذي وافته المنية جراء ظروف مشابهة لوفاة «فلويد»؛ فكلاهما تعرض لمعاملة عنيفة من عناصر الشرطة سواء الفرنسية أو الأمريكية، وفي الولايات المتحدة تم استدعاء العديد من الحوادث العنصرية التي شهدتها البلاد خلال العقود الماضية؛ مثل حادثة مقتل كل من تمير راس ومايكل براون عام 2014، وفريدي جراي عام 2015، وحادثة الأمريكي من أصول أفريقية فيلاندو عام 2016، وكذلك حالة رودني كينج الذي تعرض لاعتداء وحشي من قبل عناصر الشرطة في مارس 1991.

موقف أفريقيا الرسمي

جاءت المواقف الأفريقية الرسمية كالعادة منددة بالتعامل العنصري ضد ذوي البشرة السوداء في الولايات المتحدة والذين ترجع أصولهم إلى القارة الأفريقية، فعلى سبيل المثال انتقد الرئيس الغاني «نانا أكوفو أدو» التعامل الأمريكي مع السود، موضحًا أنه ليس من الصواب أن تكون أمريكا معقل الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين تمارس فيها العنصرية من قبل النظام السياسي، وعلى جانب آخر عبّر زعيم المعارضة الكيني «رايلا أودينجا» عن أمله في أن يكون الحكم على الأشخاص بناءً علي الشخصية وليس لون البشرة، كما أوضح أنه سيصلي من أجل العدالة والحرية لجميع البشر.

ماذا بعد؟

حادثة فلويد وما قبلها من حوادث مشابهة؛ مثل حادثة تراوري في فرنسا، تضعنا أمام قضيتين هامتين منفصلتين؛ أولهما: مسئولية الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وبلجيكا والبرتغال عن تاريخهم الاستعماري في أفريقيا، وثانيا: مسألة مواجهة العنصرية المتنامية في أوروبا وأمريكا ضد المواطنين من أصول أفريقية.

من توالي الأحداث يتضح لنا أن القضية الثانية هي من احتلت الصدارة في أوروبا وأمريكا لأسباب عديدة؛ منها بروز القوى السياسية والاقتصادية للسود، سواء في المجتمعات الأوروبية أو الأمريكية، فخلال العقدين الأخيرين باتت مسألة الحصول على تصويت السود في الانتخابات أمرا مهما للعديد من الأحزاب السياسية في أوروبا وأمريكا، فعلى سبيل المثال ينتهج الحزب الديمقراطي الأمريكي سياسات من شأنها استقطاب أصوات السود في الولايات المتحدة.

ومؤخرًا حرص الحزب الديمقراطي على استغلال حادثة فلويد من أجل اكتساب شعبية كبيرة في أوساط السود، قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في نوفمبر 2020، حيث شارك أعضاء الحزب في العديد من المسيرات الاحتجاجية التي جرت مؤخرًا، وخلال إحدى جلسات مجلس النواب مؤخرًا حرص نواب الحزب الديمقراطي على إبراز تضامنهم مع السود من خلال إقدام النواب على الجثو لمدة ثماني دقائق وست وأربعين ثانية، وهي الفترة التي جثم فيها الشرطي على رقبة فلويد. كما ارتدى النواب وشاح كينتي الذي يعود إلى ثقافة جماعة الأشانتي في غانا في إشارة إلى الفخر بالأصل الأفريقي.

ولمكافحة العنصرية في تلك البلاد تم اتخاذ العديد من الإجراءات وسَنِّ العشرات من القوانين التي تكافح العنصرية، فعلى سبيل المثال ينظر مجلس النواب الأمريكي تشريعًا لإصلاح جهاز الشرطة الفيدرالية، وتسهيل مقاضاة الضباط المتورطين في الأحداث العنصرية.

ويتضح من النقطة السابقة أن مسألة مكافة العنصرية في أمريكا خضعت لأمرين في غاية الأهمية؛ هما كفاح ونضال السود للأخذ حقوقهم الطبيعية والسياسية، وبرز في هذا الاتجاه العديد من القيادات التاريخية مثل مارتن لوثر كينج، وثانيًا الاستقطاب السياسي لأصوات السود في الانتخابات، وهو ما يسعى إليه الحزب الديمقراطي في أمريكا وبعض الأحزاب اليسارية في فرنسا.

القضية الغائبة

بات من الواضح أن قضية مسئولية الدول الأوروبية الاستعمارية عن ظاهرة تجارة الرقيق عبر الأطلنطي خلال الفترة من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر والتي من تداعياتها مسألة العنصرية الحالية في أمريكا، وكذلك مسئولية تلك الدول عن الفترة الاستعمارية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين هي القضية الغائبة في الأوساط السياسية الأوروبية والأمريكية، فما تزال تلك الدول تمانع وترفض الاعتراف بجرائمها الاستعمارية والعنصرية خلال القرون الماضية.

ويرجع الإنكار الغربي إلى العديد من الاعتبارات السياسية والأخلاقية والاقتصادية، منها أن تلك الدول ما زالت تروج لنموذجها الأخلاقي والسياسي على أنه النموذج الأمثل الذي ينبغي الاقتداء به، كما أنه في حال الاعتراف بتلك الجرائم سيتبعه تعويضات مهولة، ستكون تلك الدول ملزمة بها تجاه الدول الأفريقية.

ومما يبلور حالة الإنكار التاريخي للجرائم الاستعمارية والاقتصار فقط على الجرائم العنصرية موقف بلجيكا التي ما زالت تحاول التملص من إرثها الاستعماري وجرائمها في الكونغو ومنطقة البحيرات العظمى، إلا أنها في ذات الوقت تحاول مكافحة العنصرية في البلاد، نظرًا لكونها تمس السلامة الاجتماعية والسياسية في بلجيكا، فعلى سبيل المثال أعلنت الحكومة البلجيكية في إبريل 2019 عن اعتذارها وأسفها لطائفة الملونين في بلجيكا، وهم مجموعة من الأطفال (يبلغ تعدادهم 20 ألفًا ولدوا لآباء بلجيكيين وأمهات كونغوليات) سبق أن اختطفتهم السلطات البلجيكية من أمهاتهم في عام 1960 أثناء تصفية الاستعمار البلجيكي في الكونغو ورواندا وبروندي، ورحّلتهم إلى بلجيكا دون أي حقوق أبرزها حرمانهم من اكتساب حق الجنسية البلجيكية.

وأخيرًا.. يمكن القول: إن اجراءات مكافحة العنصرية في الدول الغربية تنبع من محاولة حكومات تلك الدول تهدئة الأوضاع الداخلية في تلك الدول، بعد أن أصبح العنصر الأفريقي جزءًا لا يتجزأ من الكيان السياسي والاجتماعي لتلك الدول، أما القضية التاريخية الكبرى المتعلقة بالمسئولية عن تجارة الرقيق والاستعمار فما تزال تلك الدول تحاول التملص من تلك المسئولية التاريخية؛ لذا يجب على الدول الأفريقية والساسة الأفارقة بلورة قضية تجارة الرق والاستعمار، ومطالبة الدول الغربية بتحمل مسئوليتهم التاريخية إزاء تلك القضية.