كتب. محمد الدابولي

يبدو أن حبال الصبر السودانية على الاعتداءات الإثيوبية أوشكت على الذبول، فما كان مقبولا في الماضي أصبح الآن غير ذلك، فمؤخرا وبلهجة لم تعتادها أديس أبابا من الخرطوم، أفاد المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية العميد «عامر محمد الحسن» بأن الدماء السودانية الزكية التي سكبت مؤخرا ستشتعل وتتقد حتي يحرر كامل التراب السوداني.

جاءت التصريحات السابقة ردا على قيام ميليشيات إثيوبية (ميليشيات الشفتة) مسنودة من الجيش الإثيوبية بالتعدي على الأراضي السودانية في ولاية القضارف شرق البلاد يوم 28 مايو 2020، والاعتداء على المشاريع الزراعية في منطقة «بركة نورين» وقرية «الفرسان» والاشتباك مع القوة العسكرية المتواجدة في معسكر «بركة النورين» مما أدي إلي استشهاد قائد الفرقة العسكرية السودانية، وجرح العديد من الجنود والأفراد المدنيين، وأشار بيان الجيش إلى أن الميلشيات الإثيوبية المدعومة عسكريا من الجيش استخدمت الرشاشات ومدافع الأر بي جي، وبنادق القنص في تنفيذ هجومها الغادر.

لحظة كاشفة

كشف الهجوم الإثيوبي الأخير عن حقيقة النوايا الإثيوبية إزاء السودان، وفندت الصورة التي عكفت اللجان الإليكترونية الإثيوبية على رسمها خلال الشهور الماضية بأن أديس أبابا هي الداعم الوحيد لاستقرار السودان وأمنه، لذا يمكن اعتبار الهجوم الأخير بمثابة الضوء الكاشف لحقيقة التوجهات الإثيوبية إزاء السودان، فالسودان في المخيلة الإثيوبية ساحة للاستغلال والنهب على مدار السنين.

مر تاريخ الحدود السودانية الإثيوبية بعشرات الحالات التي حاولت فيها أديس أبابا التوغل في الأراضي السودانية وإحكام سيطرتها عليها، ففي عام 1889 وقعت «موقعة القلابات» بين الامبراطورية الإثيوبية بقيادة الإمبراطور «يوحنا الرابع» والقائد السوداني «الزكي طمل» وأسفرت المعركة التي جرت رحاها في «ولاية القضارف» بمقتل الامبراطور «يوحنا الرابع».

رغم هزيمة القلابات إلي أن التطلعات الإثيوبية في الاستيلاء على مناطق شرق السودان لم تتوقف، حيث أوضح الكاتب السوداني «فيصل عوض حسن» في مقاله «متى يستعيد السودان بني شنقول» أن لامبراطور «منيلك الثاني» الذي تولي الحكم بعد مقتل سابقه، انتهز فرصة انهيار الدولة المهدية عام 1896 لبسط سيطرته على مناطق شرق السودان مثل بني شنقول والقضارف والقلابات تحت دعوى تأمين طرق التجارة، وفي عام 1902 تم توقيع اتفاقية بين إثيوبيا وبريطانيا تضمن سيطرة منيلك الثاني على بني شنقول (موقع سد النهضة حاليا)، وتعود القضارف إلي السودان

توسع استيطاني

تجددت الأطماع الإثيوبية في منطقة القضارف السودانية مرة أخري بعد استقلال السودان، ففي عام 1957 دفعت مزاريعها للاستيلاء على الأراضي الواقة في منطقة الفشقة الحدودية، حتي بلغت مساحة الأراضي المستولى عليها حوالي 300 فدان تقريبا في ذلك الوقت.

وإزاء ضعف الدولة المركزية في السودان وظروف الحرب الأهلية المتواترة، شجعت أديس أبابا العديد من مزارعي الأمهرا على استغلال الأراضي السودانية والواقعة على نهري عطبرة وستيت، ويشار إلى أن إثيوبيا تستولي حاليا علي مساحة تقدر بعشرات الآلاف من أجود الأراضي الزراعية في شرق السودان.

لم تجد أثيوبيا أي مقاومة حقيقة لتوغلاتها في ولاية القضارف، حتى باتت تقتنع أن تدخلاتها في القضارف مسألة حق مكتسب، مما جعلها تتعامل باستعلاء شديد مع السودان، فيكفي أن يستعين مزارع إثيوبي بعنصر من جيش بلاده، لكي يتمكن من الاستيلاء على المزارع في شرق السودان.

اتضح ذلك في الموقف الأخير حين طلب ضباط من الجيش الإثيوبي من نظرائهم في السودان السماح لمزارعين إثيوبين بالزراعة داخل الأراضي السودانية، إلا أن الطلب قوبل بالرفض، مما أدي إلي اقدام ميليشيا إثيوبية مدعومة من الجيش بالهجوم على قوة الاستطلاع السودانية ردا علي رفض طلب الضباط والمزارعين.

تصعيد سوداني

في الماضي كانت الخروقات تتم دون تحرك قوي من الخرطوم، إلا أنه مؤخرا بات السودان ممثلا في المجلس السيادي وقواته المسلحة أشد حزما إزاء الانتهاكات التي تتعرض لها ولاية القضارف، ففي إبريل الماضي ونتيجة توغل بعض وحدات الجيش الإثيوبي في منطقة الفشقة قام الجيش بإعادة انتشار لقواته في المنطقة الحدودية، فيما قام رئيس المجلس السيادي «عبد الفتاح البرهان» ورئيس أركان الجيش «محمد عثمان حسين» بزيارة مدينة دوكة الحدودية التي تعرضت للانتهاك الإثيوبي.

ومؤخرا أكد المتحدث العسكري السوداني أن كل الخيارات باتت مفتوحة إذا استمرت إثيوبيا في انتهاكاتها ضد الأراضي السودانية، وفي نفس الوقت ألمح إلي ضرورة إكمال العملية التفاوضية بين البلدين حول ترسيم الحدود.

ارتباك إثيوبي

أصابت التحركات السودانية الأخيرة بالحفاظ على حقوقه في ولاية القضارف ومنطقة الفشقة ارتباكا واضحا في إثيوبيا، تجلي ذلك في التفسيرات والتحليلات الإثيوبية التي تناولت تلك المسألة، فبدلا من معالجة المشكلة من جذورها، روجت منصات إثيوبية لنظرية المؤامرة، وأن رد الفعل السوداني الأخير ما هو إلي جزء من المؤامرة الكبرى التي تحيكها مصر ضد إثيوبيا.

تسيطر فكرة المؤامرة المصرية علي المخيال السياسي الإثيوبي، فعادة ما يتم اتهام القاهرة بالوقوف وراء أية أزمات سياسية أو اقتصادية تشهدها البلاد، فعلي سبيل المثال اتهمت صفحة Ethiopiana-Arabic  ــــــــــ وهي من الصفحات الإثيوبية الشهيرة والموجهة للجمهور العربي ـــــــــــــــ القاهرة بتسخير الإعلام العربي ضد إثيوبيا وتضخيم الأحداث الأخيرة على أنها خلافات حدودية بين إثيوبيا والسودان.

من الأمور العبثية والدالة على ارتباك إثيوبيا هو حجم الانتقادات التي وجهتلـ«قناة الجزيرة القطرية» بتضخيم الأمور وإسكات الصوت الإثيوبي بما يتماشى مع الرؤية المصرية، فالجميع يعلم ويدرك سياسة «الجزيرة» معادية للتوجهات المصرية، الأمر الذي دفع القاهرة إلي مقاطعة السياسة القطرية، كما لم تسلم تغطيتي قناتي «العربية» و«سكاي نيوز» للأحداث الأخيرة، حيث تم اتهام القناتين بمحاولة خلق حالة حرب بين السودان وإثيوبيا، وحاليا تتهم معظم منصات التواصل الإثيوبية القاهرة بمحاولة تأجيج الصراع بين أديس أبابا والخرطوم، للتأثير على الموقف السوداني من مفاوضات سد النهضة.

شق الصف السوداني

تحاول الكتابات الإثيوبية الأخيرة شق الصف السياسي السوداني إلي قسمين أحدهما مدني والأخر العسكري، وذلك من خلال اتهام القيادة العسكرية السودانية استغلال الحوداث  على الحدود من أجل إظهاء الجانب المدني في المجلس السيادي وكذلك الحكومة السودانية بالضعف وعدم الاكتراث بالمصالح القومية السودانية.

إلا أن تلك المحاولة باءت بالفشل حين استعدت وزارة الخارجية السودانية يوم 30 مايو 2020 القائم بالأعمال الإثيوبي وإبلاغه باحتجاج السودان الرسمي على توغل الميليشيات الإثيوبية داخل الأراضي السودانية مما أدي إلى استشهاد أحد أفراد الجيش السوداني وإصابة آخرين.

وأخيرا.. نقول بأن الاعتداءات الإثيوبية الأخيرة تأتي في سياق محاولات مستميتة من الجانب الإثيوبي لابتلاع ولاية القضارف التي لم تغب عن الأطماع التوسعية الإثيوبية، حيث ترغب أديس أبابا في التوسع الديمغرافي على حساب السودان وإرضاء قومية الأمهرا التي باتت في الشهور الأخيرة قنبلة موقوتة في السياسة الإثيوبية، لذا يلجأ حاليا الجيش الإثيوبي إلي مساندة ميليشيات الشفتا في عملياتها الإرهابية ضد السودان.

وعلي الجانب الأخر  لم تعد السودان تحتمل الانتهاكات المستمرة لحدودها مع إثيوبيا، فطبقا للمثل العربي «بلغ السيل الزبى» حيث تعالت أصوات المزارعيين السودانيين منددين بالاعتداءات المستمرة على قوتهم اليومي مطالبين حكومتهم بالقيام بمهامها الدستورية والوطنية في حماية المواطنيين السودانيين من أية اعتداءات تطال حياتهم وأقواتهم.