حسام عيد – محلل اقتصادي

إن تمويل المناخ، الموجه بشكل صحيح، لا يخفف من آثار تغير المناخ العالمي فحسب، بل يلعب أيضًا دورًا هامًّا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وما يدور ويحدث من تغيرات بمنطقة غازي في كينيا نموذجًا وشاهدًا حيًّا على ذلك.

ولكن لا تزال الدول الأغنى بالعالم لا تدفع نصيبها العادل من فاتورة المناخ، لحماية الشعوب والاقتصادات الأفريقية، من التداعيات المكلفة لاستثماراتهم المولدة للانبعاثات الكربونية بدول القارة السمراء.

“غازي” الكينية.. رائدة التنوع البيولوجي بالعالم

تقع قرية غازي، وهي قرية ريفية صغيرة في شبه جزيرة شاليChale Peninsula، واسمها مشتق من خليج غازي، على بعد خمسة وخمسين كيلومترًا جنوب العاصمة الساحلية مومباسا في كينيا.

ويعد خليج غازي موقعًا رئيسيًّا لرسو الأسماك في الساحل الشرقي لأفريقيا، حيث يساهم النظام البيئي وموجات المد والجزر الموسمية في خلق حياة بحرية غنية.

ومع ذلك، فإن غازي معروفة عالميًّا بتنوعها الحيوي في أشجار المنغروف “نباتات الأيكة الساحلية” أكثر من جاذبيتها بالأسماك أو السياحة.

الحفاظ على التنوع البيولوجي، وتحسين سبل العيش في المجتمع ومكافحة تغير المناخ هي السمات المميزة لهذه الرعية الريفية، الرائدة في العالم لنهج ذكي يقوده ويعتمد المجتمع المحلي لحفظ المنغروف.

ويقول جوسفات موامبا، مدير برنامج “معًا من أجل أشجار المنغروف”: “عندما تتحدث عن حماية أشجار المنغروف في أفريقيا، فإن خليج غازي يبرز”.

إن مبادرة ميكوكو باموجا Mikoko Pamoja والتي تعني باللغة السواحيلية “معًا من أجل أشجار المنغروف” هي أول مشروع في العالم لتمويل الحفاظ على أشجار المنغروف من خلال بيع أرصدة الكربون.

حيث يتم إرجاع العائدات من أعمال الحفاظ على Mikoko Pamoja مرة أخرى لصالح المجتمع الغازي بأكمله الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 10000 نسمة.

المياه النظيفة والكهرباء وتجديد المدارس وتوفير الكتب والمواد ودعم مجموعات الشباب والنساء، كلها تستفيد مباشرة من الدخل المتولد من موارد وأموال الكربون التي يتلقاها المجتمع كدعم وتحفيز له جراء حماية غابات المنغروف.

ائتمانات وأرصدة الكربون

ويهدف مشروع مبادرة Mikoko Pamoja “معًا من أجل أشجار المنغروف”، لحماية 107 هكتار من غابات المنغروف و10 هكتارات أخرى من أشجار القرم المعاد زرعها في خليج غازي.

ويقول علي شوفا، أحد أعضاء المبادرة: “منذ 2013 وعلى مدى العشرين عامًا القادمة، التزمنا كمجتمع لإنشاء بالوعة كربون رئيسية سنحققها من خلال الزراعة الجديدة، وكبح إزالة الغابات، ومنع المزيد من تدهور غابات المنغروف”.

وتعرف بالوعة الكربون بأنها خزان حيوي أو اصطناعي يقوم بتجميع ثاني أكسيد الكربون لفترة غير محددة، وتعمل كمضخات بيولوجية للمحيطات، وكذلك لعمليات المثيل الضوئي للنباتات والأحياء الأخرى.

في عام 2017، فازت هذه المبادرة المبتكرة التي يقودها المجتمع المحلي لمكافحة تغير المناخ بجائزة مبادرة خط الاستواء، والتي تم تقديمها في مقر الأمم المتحدة في نيويورك.

ومنذ عام 2013، تتلقى غازي 12 ألف دولار سنويًّا من بيع أرصدة الكربون.

واستخدمت غازي حتى الآن أموال الكربون الخاصة بها لتوفير المياه عبر الأنابيب لجميع القرويين بالمجتمع المحلي، وأيضًا قرية ماكونغيني المجاورة بالإضافة إلى تعزيز التعليم في المدارس المحلية.

ويقول موامبا: “يمكن للأنظمة البيئية البحرية استيعاب 10 أضعاف ما يمكن للأنظمة البيئية الأرضية من حيث عزل الكربون، أشجار القرم وحدها يمكن أن تمتص خمس مرات أكثر من أي غابة أرضية”.

غازي معترف بها بالكامل في إطار مشروع الأمم المتحدة لخفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها عبر مشروع مبادرة (REDD+).

وتسعى مبادرة  (REDD+) التي تبلغ قيمتها 291 مليون دولار أمريكي إلى منح الدول النامية حافزًا ماليًّا لحماية غاباتها وخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

ولم تكن أشجار المنغروف في السابق تظهر في مناقشات REDD+ حيث كان هناك ما وصف بأنه “نقص في منهجيات محاسبة الكربون”.

وتأهل مشروع غازي للحصول على شهادة Plan Vivo حيث يقع ضمن المثل العليا لمؤسسة Plan Vivo – وهي مؤسسة خيرية تؤكد صحة موازنة الكربون وأهداف التسليم. وهذا يشمل احتجاز الكربون على المدى الطويل، في إطار خطة فيفو، تحتاج المشاريع إلى الالتزام بأفضل الممارسات لحفظ الغابات، والتحريج، وتجنب إزالة الغابات ومشاركة المجتمع.

– Plan Vivo هي مؤسسة خيرية اسكتلندية مسجلة أنشأت مجموعة من المتطلبات لصغار الملاك والمجتمعات الراغبة في إدارة أراضيهم بشكل أكثر استدامة. وطورت Plan Vivo معيار Plan Vivo، وهو إطار عمل لخطط المدفوعات مقابل خدمات النظام البيئي (PES) لصغار المزارعين والمجتمعات الريفية التي تعتمد على الموارد الطبيعية لكسب العيش.

وعلى الرغم من تواضعه، فقد ساعد النقد الكربوني في دفع المجتمع الغازي إلى آفاق جديدة ويوضح كيف يدعم تمويل المناخ المجتمعات المحلية للتكيف مع آثار تغير المناخ والتخفيف من حدتها وتحقيق التنمية المستدامة.

المساومة على تمويل المناخ

ومع ذلك، فإن نجاح مشاريع مثل غازي يخفي المساومة الجادة والعاطفية والمثيرة للانقسام التي تتم على مليارات الدولارات تحت عنوان “تمويل المناخ”.

في حين أن الحد من انبعاثات الكربون يشكل الركيزة الأساسية في عمليات المفاوضات، فإن دور محادثات تغير المناخ هو تمويل المناخ للتكيف والتخفيف بين الدول المتقدمة الغنية من جانب والاقتصادات الناشئة، مع الدول النامية، على الجانب الآخر.

إن اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1994، توجه الحوار المناخي العالمي وتعرّف تمويل المناخ على أنه “تمويل محلي أو وطني أو عبر وطني ومستمد من مصادر التمويل العامة والخاصة والبديلة التي تسعى إلى دعم إجراءات التخفيف والتكيف التي ستعالج تغير المناخ”.

في حين تسود المواطنة والاحترام المتبادل لأعلى مستوى في المفاوضات، هناك انقسام حاد بين الدول الغنية المتقدمة والدول النامية التي ألهمت إلى حد كبير ظهور الكتل الجديدة وإعادة تعريف الدبلوماسية العالمية.

ففي خضم مواجهة تحديات مماثلة والسعي لتحقيق المصالح المشتركة، نشأت كتل مختلفة شكّلها تغير المناخ. وتشمل تحالف الدول الجزرية الصغيرة (AOSIS) الذي يتكون من الدول الساحلية والجزرية المنخفضة التي تواجه نقاط ضعف بيئية مماثلة.

ويقول الدكتور سام أوغالا، كبير الأخصائيين المناخيين لأفريقيا -بحسب منظمة المجتمع المدني الدولية “شبكة سوليداريداد Solidaridad Network”- “إن انعدام الثقة بين الأطراف هو العامل الرئيسي في إثارة الخلافات في تمويل المناخ”. “كما أنها تتضمن الافتقار إلى الشفافية بالإضافة إلى مشكلة الحساب المزدوج لما يسمى الموارد المالية المناخية المقدمة والمتلقية من البلدان المتقدمة والنامية على التوالي”.

إشكالية عاطفية

فهل سيستمر الاتجاه نفسه المتمثل في التقليل من شأن تمويل المناخ للدول النامية التي عانت منها في الماضي؟!

تقول ميتيكا مويندا -التي ترأس اللوبي الجامع للمجتمع المدني، تحالف عدالة المناخ الأفريقي (PACJA)، ومقره في العاصمة الكينية، نيروبي- “لا يزال تمويل تغير المناخ السمة الأكثر عاطفية في عملية مفاوضات المناخ الدولية”.

وأوضحت: “بينما يتفق الجميع على أن تريليونات الدولارات مطلوبة لمواجهة تغير المناخ، لم يتم جمع سوى القليل من التمويل ليتماشى مع إلحاح أزمة المناخ. مع احتلال تغير المناخ مكان الصدارة في التفاعلات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية العالمية، أصبح من الواضح للغاية أن أولئك الذين يتحملون المسؤولية الأكبر عن معالجته، والدول الغنية المسؤولة عن أزمة المناخ، قد نقلوا عبء العمل المناخي بشكل متزايد إلى الضحايا من أفعالهم”.

وختاما، يمكن القول: إن التدفقات المالية المتعلقة بالمناخ في أفريقيا ارتفعت منذ عام 2000 إلى مستوى حالي يتجاوز 15 مليار دولار في السنة.

لكن تعهد الدول المتقدمة بتوجيه نحو 10.3 مليار دولار لتمويل صندوق المناخ الأخضر (GCF) لم يتم الوفاء به بعد حيث تم دفع 5.2 مليار دولار فقط للصندوق.

فحتى منتصف عام 2019، كان الصندوق يدعم حوالي 111 مشروعًا في جميع أنحاء العالم، ولم تتلق البلدان الأفريقية سوى 2.3 مليار دولار من الصندوق.

لذلك، أعلن البنك الأفريقي للتنمية، وهو بطل رئيسي لتمويل المناخ، أنه سيعمل منذ عام 2020 على زيادة التمويل لمشاريع التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره في جميع أنحاء القارة.

وصرح رئيس البنك القاري، إيكونومي اديسينا، بأنه يتعين على الجهات المالية في أفريقيا أن تعمل معًا بشكل خلاق لتعبئة الموارد المالية العالمية على نطاق يمكن أن يدعم الابتكار المحلي ويحفز التنمية التي تتسم بالمرونة وقلة الكربون في القارة. لذلك يجب أن يتحول تمويل المناخ إلى عامل تحفيز رئيسي لاستدامة التنمية في أفريقيا.