كتبت – أسماء حمدي

تحت وطأة الجوع والحرب والتطهير العرقي يترنح جنوب السودان ويتقلب على جمر حرب أهلية استمرت لسنوات بين القوات الموالية للحكومة والقوات الموالية للمعارضة، وسرعان ما تحولت هذه الحرب الأهلية إلى نزاع قبلي دموي.

وبدأ الصراع المسلح بين الرئيس سيلفا كير ونائبه رياك مشار في عام 2013، بسبب انزعاج قبيلة النوير من ازدياد نفوذ قبيلة الدينكا، ورغم توقيع اتفاق صلح في عام 2016 إلا أن النزاع تجدد بين القبيلتين، ما أدى إلى سقوط الآلاف بين قتيل وجريح ونزوح مئات الآلاف من المدنيين.

أخذت الحرب في طريقها الأخضر واليابس، وتحولت مدنها إلى مناطق للأشباح، بعد أن هجرها سكانها، جرّاء الاشتباكات، حيث تحول أكثر من 4 ملايين إلى نازحين ولاجئين في الدول المجاورة.

وتهدد المجاعة حياة ما يصل إلى 5.5 مليون شخص، ناهيك عن الأمراض ونقص الأدوية، ويحتاج برنامج الأغذية العالمي إلى 270 مليون دولار بشكل عاجل؛ لتوفير الغذاء لسكان جنوب السودان في النصف الأول من العام 2020 لتجنب كارثة إنسانية.

وفي خطوة مهمة في اتجاه السلام تمكنت الأطراف المتناحرة في جنوب السودان، في 22 من فبراير الماضي، من التوقيع على اتفاق لإنهاء القتال وتقاسم السلطة، حيث مثل هذا الاتفاق بريق أمل لطيّ سنوات الحرب التي تدور رحاها منذ سبع سنوات.

أسوأ أزمة إنسانية

في الحرب يظن الناس أن الرصاص والقذائف أكبر مصادر الخطر، لكن في جنوب السودان، قُتل كثيرون بالحرق أحياء في منازلهم، أو علقوا على الأشجار، أو دهسوا بعربات مدرعة، وتعرض آلاف آخرون للاغتصاب، والتشويه الجنسي، والتعذيب، والإخصاء، والتعري القسري، وتسببت الحرب في أسوأ أزمة إنسانية في أفريقيا منذ الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام 1994، بحسب صحيفة “التيلجراف”.

وإلى جانب العنف والاغتصاب وحركات النزوح، يكمن الخطر الأكبر الذي يتعرض له المدنيون في نقص الخدمات الصحيّة سواء بسبب العنف أو عدم تنميّة المناطق النائية الشاسعة التي تشكل معظم أنحاء البلاد.

وتوصف الصحيفة البلد المنهار بالـ”كليبتوقراطية” والتي تعني نظام “حكم اللصوص”، وهو نمط الحكومة الذي يراكم الثروة الشخصية والسلطة السياسية للمسؤولين الحكوميين والقلة الحاكمة، ولكنه أيضًا مكان مليء بالطموح الشبابي، حيث يبلغ متوسط ​​العمر 18 عامًا فقط.

وفي ضواحي مدينة “رنك”، وهي إحدى المدن الرئيسية التي تقع في شمال جنوب السودان بولاية أعالي النيل، تصطف عشرات الشابات الحوامل في عيادة طبية ينتظرن دورهن للفحص، وهي عيادة تديرها مجموعة من النساء المتطوعات اللائي يقدمن للنساء نصائح لفحوصات ما قبل الولادة والنظافة الصحية الجيدة في محاولة لخفض وفيات الأطفال أثناء الولادة.

وتشير الأرقام إلى أن معدل وفيات الأمهات في البلاد 789 حالة وفاة لكل 100.000 ولادة حية، وهو خامس أعلى معدل وفيات في العالم.

تقول “مكا” -30 عامًا وهي أم لسبعة أطفال، وحامل في شهرها السادس- “أريد أن أنجب 15 طفلًا، أنا أستبدل من فقدوا في الحرب”، إنها ليست غير عادية، فمتوسط عدد الأطفال لدى النساء في جنوب السودان يقترب من خمسة أطفال.

تقول “إم” -البالغة من العمر 23 عامًا ، وهي أم لطفلين- “أريد أن يكون لديّ 10 أطفال، إذا مات البعض يصبح لديّ ما يكفي من الأطفال، فهم من سيعتنون بنا في المستقبل ومن دونهم نصبح لا شيء”.

على بعد أمتار قليلة من عيادة النساء، ينشغل الأطباء في محاولة مساعدة الأطفال الصغار الذين تم إحضار العديد منهم على بُعد ساعات فقط من الموت على البقاء على قيد الحياة، ففي جميع أنحاء البلاد  يموت 99 من الأطفال دون سن الخامسة لكل 1000 ولادة، مقارنة بأربعة أطفال فقط في المملكة المتحدة، وفي رينك يبلغ معدل سوء التغذية الحاد في الأطفال 32%.

يقول جيمي فريزر، الطبيب الذي يدير الوحدة: “الملاريا أو الإسهال أو الالتهاب الرئوي هي أكثر الأمراض التي تصيب الأطفال، لكنهم يعانون من سوء التغذية لدرجة أنهم معرضون للخطر والموت”.

داخل العيادة البعيدة التي نُقِل إليها “رنك”، كان إبراهيم  البالغ من العمر عامين، يعاني فقدان الوزن ولديه جميع علامات طفل على شفا الهاوية، تتورم قدمه وبطنه، وفمه أبيض ويعاني مرض القلاع، وتبدو والدته الجالسة على سرير مجاور قلقة على صحة ابنها.

 يقول فريزر: “يمكن أن يكون الفطام المفاجئ للأطفال مشكلة”، حيث يتوقف الكثيرون عن الرضاعة الطبيعية عندما يصبحن حاملات، يعتقدون أنهم بحاجة إلى حفظ الحليب للطفل التالي”.

في الطرف الآخر من الغرفة، كانت “أكول”، وهي فتاة صغيرة عمرها ثمانية أشهر فقط، أسوأ بكثير، كانت والدتها نايانا منهكة من محاولة وقف موجة من القيء والإسهال، ويظهر الخوف في عينيها بوضوح.

تقول ناتالي بيج، كبيرة مستشاري الصحة في العيادة: “بعد اتفاق السلام، أود أن أرى الوحدة في جنوب السودان، فمن الممكن أن تكمل الفتيات تعليمهن بدلًا من وفاتهن أثناء الولادة، فربما ستعيش “أكول” لترى أن هذا الحلم يصبح حقيقة”.

خطأ قاتل

عندما حصل جنوب السودان على استقلاله عن الشمال في عام 2011، ارتكب شعبه الخطأ القاتل في افتراض أنه مع الاستقلال تأتي الحرية، فبينما تبنت الحكومة الجديدة الديمقراطية الواعدة، إلا أنها تبنت أسلوب القمع في الشمال وبدأت في تقسيم الثروة الضئيلة التي كانت تتمتع بها البلاد.

وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن الدخول الحقيقية في جنوب السودان اليوم تقل بنحو 70% عن عام 2011، وعلى الرغم من الاستيلاء على حوالي 75% من احتياطي النفط القديم في السودان، لا تزال الغالبية العظمى من السكان تعتمد على زراعة الكفاف وتجمع الفحم للحصول على الوقود.

يقول ماثيو هولينغوورث، مدير برنامج الأغذية العالمي في جنوب السودان: “كل العوامل مهيأة لحدوث مجاعة عام 2020 ما لم نتخذ إجراء فوريًّا لتوسيع توزيع الغذاء في المناطق المتضررة من الفيضانات وغيرها من المناطق المتأثرة بفقدان الغذاء”.

ويضيف: “نحتاج إلى توزيع الطعام مسبقًا في جميع أنحاء البلاد خلال الشهرين أو الثلاثة أشهر المقبلة”، لافتًا إلى أن الوصول إلى الكثير من المناطق النائية سيكون مستحيلًا بعد حلول موسم الأمطار.

وأشار بيان برنامج الأغذية العالمي إلى أن الفيضانات التي اجتاحت البلاد في الأشهر الماضية، تدفع بجنوب السودان إلى حافة الهاوية.