كتبت – أماني ربيع

في “Aleb Bookbinders Ale House” تجمع مجموعة من رجال قبائل الماسا في اليوم السابق لعودتهم إلى تنزانيا وكينيا لاحتساء الكابتشينو في زيارة استغرقت أسبوعين إلى أكسفورد، ورغم الطقس السيئ في بريطانيا في فبراير إلا أنهم كانوا راضين تمامًا عن رحلتهم؛ لأنهم أصبحوا أقرب إلى استعادة مقدساتهم التي احتفظ بها متحف “بيت ريفرز” في أكسفورد لسنوات.

المتاحف.. معارض للعنف الاستعماري

عادة، ما تميل القوى الاستعمارية إلى اتخاذ موقف دفاعي من طلبات الشعوب الخاضعة سابقًا للاستعمار التي تتعلق بالاعتذارات على الجرائم والانتهاكات، أو تلك الخاصة باستعادة أشياء سُرقت، يتساوى في هذا بريطانيا وفرنسا وغيرها، حيث تمنع القوانين في تلك البلاد المتاحف من التخلي عن مثل هذه الأشياء.

لكن في عام 2017، قال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون إنه يريد رؤية عودة القطع الأثرية المسروقة إلى أفريقيا في غضون خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين اكتسبت حركة “الاستعادة” قوة، خاصة وأن الجامعات ليست مقيدة بالتشريع الذي يربط المجموعات الوطنية، وبدأ عدد من الجامعات في إعادة الأشياء بالفعل.

يتصدر متحف “Pitt Rivers”، الذي يضم المجموعات الأثرية والأنثروبولوجية بأكسفورد طليعة، الجامعات التي بدأت في الأمر، حيث أعادت 28 قطعة، جميعها بقايا بشرية، وقال دان هيكس، أمين الآثار في المتحف، إن الحركة بحاجة لأن تكون أكثر سرعة في التنفيذ، لأن “المتاحف أصبحت مواقع للعنف الاستعماري”.

وبدلًا من التعامل مع الحكومات الوطنية، التي قد تضع عراقيل وسياسات صعبة في تنفيذ الأمر، يتعامل “Pitt Rivers” مباشرة مع الشعوب الأصلية، وجاءت زيارة أفراد من قبيلة الماساي، بعد أن زار سامويل نانجيرا، وهو أحد أفراد الماساي من تنزانيا، متحف “Pitt Rivers” خلال حضوره أحد المؤتمرات، وتساءل عن وصف بعض المعروضات في المتحف على أنه تم “جمعها”، وقال: ماذا يعني “جمع”؟ هذا يعني أنك وجدت شيئًا لم يتم التبرع به، وبالتالي لا تجوز سرقته.

وتحظى المصنوعات الفنية بأهمية  كبيرة بالنسبة للماساي، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنها تعتبر بمثابة استمرار لحياة الشخص الميت.

يقول آموس لوكا، أحد أعضاء وفد “الماساي”: “إذا مات شخص ما، فإننا نعامل القطع الأثرية بنفس القدر من الأهمية مثل الجثة الميتة، وإذا تم أخذ الشيء بعنف من شخص ما، فإن روحه لن تهدأ”.

نحن نعرف أسماءكم

وإذا كانت القطع الأثرية هامة، فالإنسان حتى لو كان مجرد بقايا عظام أيضًا هام، وكثير من الأفارقة تعرضوا للعنف خلال الحقبة الاستعمارية، سواء تم استرقاقهم وإرسالهم إلى أوروبا والأمريكتين، أو حتى من بقوا وتم استرقاقهم في بلادهم على أيدي جلادي الاستعماريين البيض.

في عام 2017، خلال جرد أرشيف جامعة كيب تاون ومراجعته، تمهيدًا لرقمنته، تعثرت الدكتورة فيكتوريا جيبون -أمينة متحف الجامعة- بمجموعة من البقايا البشرية، شكّت في طريقة حصول الجامعة عليها، وقالت: “كان هناك 11 هيكلًا عظميًّا بشريًّا تم الحصول عليها بطريقة غير أخلاقية”.

وأثبتت مجموعة من تحليلات الحمض النووي لعينات 9 من الهياكل أنها تعود لقبائل “سان” و”خوا”، ما يمهد الطريق إلى عودتهم، أخيرًا، إلى مسقط رأسهم في سيذرلاند.

ولم يتخيل عالم الآثار الألماني دكتور ستيفان شيفلز أن عمله سينقله إلى سيذرلاند ليتقابل مع 9 أفراد ماتوا منذ أكثر من قرنين، أو أن تحليلات الحمض النووي الخاصة به ستساعد على عودتهم إلى أحفادهم بعد فترة طويلة من وجود بقاياهم الهيكلية في كلية الطب بجامعة كيب تاون (UCT).

شارك شيفلز ومجموعته من قسم علم تاريخ الإنسان والآثار بمعهد ماكس بلانك (MPI)، في مشروع تموله عدة مؤسسات لتحديد المعلومات عن تاريخ هذه الرفات وإعادتها إلى موطنها.

تم الحصول على هذه الهياكل العظمية بشكل غير أخلاقي في العشرينات من القرن الماضي من خلال سي جي كوتيز -طالب الطب بجامعة كيب تاون- الذي حصل عليها من مزرعة ” Kruisrivier” قرب سيذرلاند، وتم تسجيل كوتيز للدراسة في الجامعة خلال فترة التبرع ما بين 1925 و1931.

وتشير السجلات إلى أن هؤلاء الأشخاص قد ألقي القبض عليهم وأجبروا على العمل بالسخرة في مزرعة “Kruisrivier”، وتم دفن سبعة منهم في مقبرة المزرعة.

وركزت التحاليل العلمية على الأفراد التسعة من سيذرلاند الذين أتوا من مزرعة واحدة بهدف إعادتهم ودفنهم بالقرب من أقاربهم في محاولة لمنحهم الراحة.

عملية تحليل الرفاة اعتمدت على البيولوجيا البشرية وعلم الآثار والتاريخ، وتم استخدام تقنيات المسح المقطعي، وتحليل النظائر المستقرة في جامعة كيب تاون، وتحليل الحمض النووي في معهد ماكس بلانك، وإعادة بناء الوجه في جامعة ليفربول في بريطانيا.

وكانت مهمة العالم شيفلز، تحليل الحمض النووي للأفراد التسعة، وقال: “تبحث مجموعتي في MPI تاريخ الرفات عبر علم الوراثة وتطور أساليب حسابية لنمذجة وتحليل البيانات الجينية القديمة والحديثة”.

وأضاف: “تم إجراء جميع التحليلات لهذا المشروع من قبل طالب الدكتوراه، يوشا جريتزنجر، وكان دورنا هو تحليل الرفات البشرية وبخاصة أسنان المتوفى من أجل الحمض النووي القديم الموجود في أسنانهم بعد أكثر من 100 عام من وفاتهم”.

وأوضح: “أردنا استخدام الحمض النووي لتحديد الجنس الوراثي لكل منهما، ومعرفة ما إذا كان أي منها يرتبط ببعضهما البعض، مثل الآباء والأمهات والأطفال، أو الأشقاء، أردنا أيضًا معرفة ما إذا كان أصل هؤلاء الأفراد مطابقًا لأشخاص آخرين من جنوب أفريقيا اليوم، أو أي مجموعة أفريقية أخرى لدينا في قاعدة بياناتنا المرجعية”.

العدالة تتحقق أخيرا

إن العمل مع رفات عمرها قديم مثل هذه يمثل تحديًا، وقال شيفلز: “إن التحدي المتمثل في الحمض النووي القديم هو أن حفظه عادة ما يتم بشكل رديء، وأن أي آثار للحمض المتبقي تكون معرضة للتلوث من الحمض النووي المتواجد بمرافق المختبر، لذا جميع من يتعاملون مع الرفات يرتدون قفازات وأقنعة الوجه وبدلات الجسم بالكامل، لتقليل أي تلوث قد يكون صادرًا منا”.

يقول شيفلز: “على عكس أي مشروع آخر يتضمن فحص الحمض النووي لرفات قديمة، والذي يتعامل غالبًا مع أفراد ما قبل التاريخ، في هذا المشروع كنا نعرف الكثير عن المتوفين، عرفنا أسماءهم، وعرفنا أن أي نتائج وجدناها سيكون لها تأثير مختلف على هذه العائلات أكثر من تأثيرنا العلمي المعتاد، وقابلنا أحفاد المتوفى وعائلاتهم، في البداية كان العمل عن بُعد باستخدام مؤتمرات الفيديو لمقابلة الأحفاد وعائلاتهم”.

وأعرب الأحفاد، عن سرورهم بلمّ شمل العائلة مع الأسلاف بعد كل هذه السنوات، ويرون أن هذا المشروع على رفات أشخاص ماتوا في ظروف غير إنسانية، يحقق نوعًا من العدالة.

وقال ميتاس -أحد أحفاد عائلات الرفات- إنه من المحزن تذكر الماضي بالحصول على هذه المعلومات الواقعية القاسية، مؤكدًا أن النتائج تكشف قسوة الاستعمار، ونظامًا لفصل العنصري الوحشي.

ووفقًا للبروفيسورة لوريتا فيريس -نائبة نائب رئيس الجامعة- كانت عملية صعبة وعاطفية، واعتذرت نيابة عن الجامعة عن عملية الشراء غير الأخلاقية التي حدثت قبل 100 عام.

وقالت فيريس إنها كانت رحلة شفاء، “تتمنى أن تُعيد الكرامة للبقايا البشرية”.

وأوضحت الدكتورة فيكتوريا جيبون، أن هؤلاء الأفراد التسعة يقدمون بعض اللمحات عن حياة سكان قبيلتي سان وخوي في سيذرلاند في أواخر القرن التاسع عشر.

بينما اعتبرت إيليا ماهولولا -المتحدث الرسمي باسم جامعة كيب تاون- أن تلك الدراسة العلمية، هي عملية شاملة لم يسبق لها مثيل في أي مكان في العالم ويمكن أن تكون سابقة على المستوى الدولي، وقد تشكل ثورة في وضع سياسات وتشريعات وطنية بشأن إعادة رفات البشر”.