حسام عيد – محلل اقتصادي

مع إفساح رئاسة جاكوب زوما المجال لأسلوب “السيطرة على الدولة”، شهد العقد الماضي مجموعة كبيرة من مؤسسات جنوب أفريقيا التي كانت ذات مصداقية في وقت من الأوقات تتهاوى وتفسد.

من خدمة الإيرادات إلى سلطة الادعاء ومرفق الطاقة الوطني، كانت المنظمات الأساسية مجهولة بسبب سوء الإدارة والتدخل السياسي والفساد مع تعطل الاقتصاد.

ومع ذلك، وبينما كان السياسيون يتطلعون بغيرة إلى استقلال بنك الاحتياط لجنوب أفريقيا SARB (البنك المركزي) -واحد من عدد قليل من البنوك العالمية المملوكة لمستثمرين من القطاع الخاص- بسمعة الحكم الذاتي والحصافة والإدارة السليمة للاقتصاد الكلي في عهد المحافظ ليسيتيا كانياجو، رغم مطالبات عديدة بضرورة تأميمه.

ومع استمرار الدولة في محاولات الانتعاش تحت رئاسة سيريل رامافوزا، أُعيد تعيين كانياجو -محافظ بنك الاحتياط منذ عام 2015- لولاية ثانية مدتها خمس سنوات في يوليو 2019، حاملًا معه خطة إصلاحات هيكلية لمعالجة تراكمات وتداعيات فساد السنوات التسع التي حكم خلالها “زوما” والتي يصفها الرئيس الحالي رامافوزا بـ”سنوات الضياع”، فمعها دخلت البلاد في مرحلة الانكماش الدوري، ولا تزال تسجل معدلات نمو متدنية، كما أن البنك الدولي خفض تقديرات النمو دون 1% (0.9%) في عام 2020 الجاري، وهذا ما دفع البنك المركزي إلى خفض معدلات الفائدة لأدنى مستوياتها في 4 سنوات لتصل إلى 6.25%؛ بآمال تحفيز الاقتصاد.

وكانت “آنا لوسيا كورونيل” -رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي لجنوب أفريقيا- قد صرحت بأن الإمكانات الاقتصادية التي لا يمكن إنكارها في جنوب أفريقيا تظل غير مستغلة في معظمها.

ويرجع النمو الاقتصادي الضعيف المستمر -في المقام الأول- إلى ركود الاستثمارات الخاصة والصادرات، وانخفاض الإنتاجية، بسبب بطء عملية الإصلاح لمعالجة القيود التنظيمية.

المعاناة من تراكمات الفساد

لطالما تطل جنوب أفريقيا في المؤسسات الاقتصادية الدولية بالتقارير الخاصة بحالات الفساد الصارخة وسوء الإدارة، وهذا ما يكشفه دومًا مؤشر شفافية الموازنة الدولية، وشهدت عليه حقبة الرئيس السابق جاكوب زوما، والتي رسخت الفساد في شركة جنوب أفريقيا للطيران وشركة إسكوم للطاقة وشركة بترو إس. إيه للنفط وبعض إدارات الدولة.

ويحاكم زوما بثماني عشرة تهمة تدور حول الاحتيال والابتزاز المالي وغسل الأموال، فيما يتصل بصفقة سلاح بملياري دولار مع شركة تاليس الدفاعية الفرنسية في عام 1999 عندما كان زوما نائبًا للرئيس.

ويتورط الرئيس السابق أيضًا في تسهيل وتمرير صفقة تعدين نفطية مشبوهة مع شركة “كابريكات” ومقرها في جزر فيرجين البريطانية.

تشجيع النمو عبر إصلاحات هيكلية

لكن في خطاب حالة الاتحاد -الذي ألقاه رئيس جنوب أفريقيا الحالي، أمام البرلمان يوم الخميس الموافق 13 فبراير 2020- شدد سيريل رامافوزا على الإصلاحات الهيكلية التي باتت تنتهجها حكومته؛ فهي اليوم تطمح إلى تنويع مصادرها في الحصول على الطاقة وترك اعتمادها على محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم، بالإضافة إلى خلق اقتصاد تنافسي، عبر خطط تحفيزية.

وقال الرئيس “رامافوزا”: إن حكومته ستصدر قريبًا خططًا للحصول على المزيد من الطاقة وزيادة القدرة على توليد الكهرباء خارج مرافق شركة الطاقة المتعثرة “إسكوم”، والحد من الإنفاق الحكومي.

وأقر “رامافوزا”، بأن النمو الاقتصادي قد تباطأ، مما أدى إلى تفاقم مستويات البطالة المرتفعة وزيادة المشقة لملايين المواطنين.

وكانت بيانات رسمية قد أظهرت استقرار معدل البطالة في جنوب أفريقيا قرب أعلى مستوياته في 11 عامًا خلال الربع الرابع من العام الماضي عند 29.1%، بفعل قطاعي التجارة والتصنيع؛ حيث فقد قطاع التجارة في جنوب أفريقيا 159 ألف وظيفة، كما انخفضت الوظائف في قطاع التصنيع بنحو 39 ألف وظيفة خلال الربع الرابع من 2019، مع تأثرها بأزمة انقطاع الكهرباء.

ويظل معدل البطالة في جنوب أفريقيا أعلى مستوى 20% على مدار عقدين متواصلين، بفعل ضعف النمو الاقتصادي.

وأشار رئيس جنوب أفريقيا إلى خطط لإعادة هيكلة شركة “إسكوم” والتي توفر أكثر من 90% من الكهرباء في البلاد.

واضطرت “إسكوم” إلى فرض عدة جولات من انقطاع الكهرباء الشديد في العام الماضي، وهو ما أثر على النمو الاقتصادي في البلاد.

ومع تدفق الخطط التحفيزية في مفاصل الاقتصاد، والتي قادت الناتج المحلي الإجمالي إلى الارتفاع بنسبة 3.1% في الربع الثاني من العام المالي الحالي 2019 – 2020 والمنتهي في ديسمبر الماضي، أكد محافظ البنك المركزي ليسيتيا كانياجو -البالغ من العمر 53 عامًا- أنه يمكن فعل الكثير ويجب القيام به لتشجيع النمو.

في الماضي، لم يكن يعلم صانعو السياسات المالية والنقدية ما هي الإصلاحات الهيكلية التي يجب القيام بها في جنوب أفريقيا، والخروج من إشكاليات وأزمات النمو الدوري؛ الأمر الذي هوى بثقة الشركات في جنوب أفريقيا لأدنى مستوى في 34 عامًا، مع تصاعد مخاطر خفض إضافي للتصنيف الائتماني للبلاد بعد تعديل وكالة موديز نظرتها لمستقبل الاستثمار في جنوب أفريقيا من مستقر إلى سلبي.

ولتجنب أي تخفيض آخر لتصنيفات ديون جنوب أفريقيا السيادية، شددت وكالة موديز على ضرورة تسريع الإصلاحات الهيكلية، لا سيما بالنسبة إلى الشركات المملوكة للدولة ذات الأداء الضعيف.

ضمانات لحماية الخاسرين

فيما رفع بنك الاحتياط  SARB توقعاته لمعدل النمو الاقتصادي من 0.6% في 2019 إلى 2% في 2021، وفي محاولة لتسريع الأمور أصدرت الخزانة الوطنية وثيقة مناقشة من 77 صفحة تقدم تدابير مألوفة في الغالب لتعزيز النمو إلى 4% وخلق مليون وظيفة جديدة.

تم رفض هذه الخطة المثيرة للجدل، والتي صدرت في أغسطس 2019، من قبل البعض -بما في ذلك شركاء التحالف من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم- لكن كانياجو، الذي حرص على عدم إدراج نفسه في المناقشات السياسية، رحب بها لتركيزها على عملية الإصلاح.

وفي وقت كانت ترجئ فيه “الإصلاحات الصعبة” تخوفًا من تقليص للوظائف على نطاق واسع، في ضوء طرح مخطط لتسريح العمال في شركة “إسكوم” وغيرها من الشركات الفاشلة المملوكة للدولة، إلا أن محافظ البنك المركزي رأى ضرورة تنفيذ أي برنامج إصلاح مع توافر ضمانات لحماية الخاسرين.

فالسبب الرئيسي وراء الإصلاحات في الخمس سنوات الماضية، هو عدم الاعتناء بالخاسرين. لذلك هناك حاجة ملحة إلى عوامل مخففة بحيث يمكن استيعاب الخاسرين بطريقة أو بأخرى حتى يتمكنوا من الانتقال.

وأكد كانياجو أن ما لا يمكن القيام به في برنامج الإصلاح الهيكلي هو محاولة حماية الوظائف، ولكن يمكن حماية الأشخاص.

تحقيق استقرار الأسعار

إلى جانب دفاعه عن الإصلاح الهيكلي، لم يكن كانياجو خجولًا في شرح حدود السياسة النقدية باعتبارها الحل الشامل للتحديات الاقتصادية الراسخة لجنوب أفريقيا.

ففي أحدث بيان أصدرته لجنة السياسة النقدية في يوليو الماضي، أصر محافظ بنك الاحتياط (المركزي) على أن الأداء الاقتصادي الضعيف “لا يمكن حله عن طريق السياسة النقدية وحدها”، مشيرًا إلى الحاجة إلى “سياسات الاقتصاد الكلي الحكيمة” والإصلاحات الهيكلية “لزيادة النمو المحتمل وتخفيض هيكل التكلفة للاقتصاد”.

وفي الواقع، يرى بنك الاحتياط لجنوب أفريقيا SARB؛ أن هدفه الأساسي هو تحقيق استقرار الأسعار، والوصول إلى معدل التضخم المستهدف عند 4.4% خلال 2020.

وخلال الاضطرابات الاقتصادية في السنوات الأخيرة، يعمل البنك جاهدًا لتحقيق أهدافه السياسية في حماية قيمة العملة لصالح النمو الاقتصادي المتوازن والمستدام.

وتعد استقلالية بنك الاحتياط حصنًا أساسيًّا في جنوب أفريقيا ضد التيسيرات الكمية غير المقيدة، وكذلك للحفاظ على ثقة المستثمرين.

وختامًا يمكن القول: رغم كون جنوب أفريقيا الوجهة الأولى والأفضل في الاستثمارات المالية والمصرفية بالقارة السمراء إلا أن اقتصادها يفتقر إلى الإصلاح الهيكلي؛ فكافة القطاعات في حاجة ملحة لإصلاحات عاجلة؛ تجنبًا للرياح المعاكسة، فمع تباطؤ نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض خلق فرص العمل، قد تدفع الزيادة في عدد السكان في سن العمل إلى تفاقم البطالة والفقر وعدم المساواة في الدخل.