حسام عيد – محلل اقتصادي

الأفريقي الأكثر تأثيرًا ونفوذًا في القارة السمراء لمرات عديدة ولأعوام متتالية، أكثر من معاصريه، صانع النهضة الشاملة، فهو من حوّل بلاده اليوم إلى “سنغافورة أفريقيا”، النموذج الذي يحتذى به في الاستقرار والطفرات التنموية المتدفقة، ليس داخل القارة السمراء فحسب، بل في العالم، فهو يرتكز على تنويع الاقتصاد، وتبني الابتكار، ودعم الإبداع، والتحول الرقمي.

إنه “بول كاجامي”، الرئيس القائد، فهو من استطاع أن يعبر ببلاده رواندا من الصراعات ورماد الحروب إلى التقدم والازدهار، بعد ربع قرن من المذبحة الجماعية التي أزهقت أرواح حوالي 15% من السكان، أصبحت رواندا أحد أسرع الاقتصادات نموًّا في شرق أفريقيا، بمتوسط معدل 7.3% سنويًّا منذ عام 2000، متجاوزًا دولًا مجاورة أكثر ثراء، وانخفض عدد أبنائها الذين يعيشون تحت خط الفقر من 77% عام 1994 إلى 39%، ونسبة الأمية من 50% إلى 25% في عام 2019؛ بحسب تقارير صادرة عن البنك الأفريقي للتنمية والبنك الدولي، كما أصبح دخل الفرد فيها يقارب الـ3 آلاف دولار، ودشنت الحكومة برنامج تأمين صحي وطني، ظن الخبراء الغربيون أنه مستحيل في بلدٍ أفريقي مُعدَم.

الأكثر تأثيرًا وإلهامًا بالعالم

ما من بلد في أفريقيا، إن لم يكن العالم، استطاع إنجاز التحوُّل الذي حققته رواندا في هذا الوقت القصير جدًّا. وهذا ما جعل بول كاجامي يحوز على اهتمام زعماء وقادة العالم، حيث وصفه بيل كلينتون الرئيس الأمريكي الأسبق، بأنه “أعظم قائد في العصر الحالي”، بينما اعتبره توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق، “القائد الملهم”.

على مدى العقد الماضي، لم تخل قوائم المجلات العالمية للشخصيات الأكثر تأثيرًا وإلهامًا بالعالم، من اسم الرئيس الرواندي “بول كاجامي”، ففي عام 2009 اختارته مجلة “تايم” الأمريكية من بين أكثر 100 شخصية مؤثرة بالعالم، وفي 2010 اختارته أيضًا مجلة بريطانية، وفي 2018 حصل على لقب أفضل شخصية أفريقية، بحسب تصنيفات مجلة “فوربس أفريكا”، كما وضعته مجلة “نيو أفريكان” بين أفضل 100 شخصية أفريقية، والأكثر نفوذًا بالقارة السمراء لعام 2019.

إن صعود رواندا من الإبادة الجماعية في عام 1994 قد دخل بالرئيس بول كاجامي، بالفعل، التاريخ كرمز ومثال على المرونة التي لا تقل عن المعجزات، فهو معروف بين شعبه برجل الفعل وليس الكلمات؛ لإيمانه بالنتائج وليس الوعود، إنه عملي وليس مثالي، لقد كان مدافعًا عنيفًا ليس عن الحقوق والتطلعات الرواندية فحسب، بل عن الحقوق والتطلعات الأفريقية في المحافل الدولية، وهو فخور بأنه أفريقي، وداعم قوي للعبقرية الأفريقية التي تقود لأعمال وإنجازات متدفقة.

فمنذ أن جاء إلى سدة الحكم في عام 2000، ارتفاع الاقتصاد متجاوزًا رماد تلك الفترة ليصبح واحدًا من بين الاقتصادات الأسرع نموًّا في العالم خلال العقدين الماضيين.

وأصبحت الدولة الوجهة السياحية الأولى بشرق أفريقيا، بإيرادات بلغت 438 مليون دولار في 2017. واليوم في 2020 يستحوذ قطاع السفر والسياحة على واحد من كل خمسة من الوظائف الجديدة التي تخلق وتوفر بجميع أنحاء العالم، ومن المتوقع أن يساهم في توفير 100 مليون وظيفة جديدة على مستوى العالم خلال السنوات العشر القادمة، وهو ما يمثل 421 مليون وظيفة بحلول عام 2029، بحسب إحصاءات وزارة السياحة الرواندية.

بناء عاصمة صديقة للبيئة بمقاييس عالمية

كيجالي، العاصمة الرواندية، أصبحت في حد ذاتها اليوم دراسة مذهلة لخبراء ووزراء التخطيط بمختلف أنحاء العالم، فلا توجد في الأفق حفرة واحدة، وكأنها مرسومة على تل جميل، حيث قام كاجامي بتطوير نموذج رواندا إلى حد كبير على غرار سنغافورة؛ ففي الواقع، أعدت شركة “سوربانا ‏جورنج” أكبر استشاري لتخطيط المدن على مستوى سنغافورة، المخطط الرئيسي لإعادة تطوير كيجالي كمدينة عالمية رفيعة المستوى.

وتحولت العاصمة كيجالي خلال السنوات الـ25 الماضية، وخاصة آخر عشر سنوات، إلى المدينة الأكثر جاذبية وحفاوة في أفريقيا، وذلك لأسباب شتى؛ من بينها الدور الذي لعبه الرئيس بول كاجامي، وبفعل تبني قوانين وسياسات جديدة، وأيضًا بفضل السكان الذين يعيشون في كيجالي بصورة أساسية.

وبرغم وجود الكثير من العوامل التي أدت إلى أن تنعم هذه المدينة ببنية تحتية قوية وبنمو مزدهر، فإن مسألة اعتياد السكان على التعاون والتآزر أو باختصار “خدمة المجتمع” -التي يُعبر عنها بمفردة “أومينغاندا” الكينية الرواندية- تبدو السبب الأكثر أهمية من سواه، كمبدأ حاكم ومُنظم للتعاملات في العاصمة الرواندية.

ففي الفترة ما بين الساعة الثامنة والحادية عشرة من يوم السبت الأخير في كل شهر، يتعين على كل أسرة رواندية أن تسهم بواحد على الأقل من أفرادها -يتراوح عمره ما بين 18 و65 عاما- لكي يقوم بأعمال التنظيف أو التصليح أو الصيانة خارج المنزل.

وتشكل خدمة المجتمع على هذه الشاكلة، جزءًا من الثقافة والتراث في رواندا، وقد أصبحت أمرًا يُشجع على القيام به بشكل رسمي منذ عام 1998، وسُن قانون بشأنها قبل عشر سنوات.

كما أنه منذ سنوات، يُحظر في مدينة كيجالي قانونًا استخدام الأكياس البلاستيكية، إلى حد أن رسالة صوتية تبث في الطائرات المتجهة إلى العاصمة، تطلب من الركاب تفقد أمتعتهم والتخلص من أي أكياس من هذا النوع، قبل مغادرة الطائرة.

والنتيجة هي مدينة متألقة، والأنظف رسميًّا في أفريقيا وتتنافس مع سنغافورة على لقب أنظف مدينة في العالم.

ولعل من يرى رواندا اليوم لا يصدق أن 26 عامًا فقط، مرت على تلك الأيام المئة التي شهدت فيها البلاد الحرب الأهلية الأكثر وحشية في القرن العشرين، حينما تواجهت مجموعتا الهوتو والتوتسي العرقيتان، ما أسفر عن مقتل نحو 800 ألف شخص.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأمان السائد في العاصمة الرواندية، جعلها تُصنّف من جانب السلطات الأمريكية، على أنها في المستوى الأول من الناحية الأمنية مثلها مثل مدينة فانكوفر الكندية.

صانع اقتصاد المعرفة والابتكار

وتحت شعار طموح بلا حدود “صنع في أفريقيا”، افتتح الرئيس بول كاجامي، أول مصنع لتصنيع الهواتف الذكية، كاملة، بالقارة السمراء، في أكتوبر 2019.

ونظرًا لسمعتها المتمثلة في عدم وجود فساد، هناك خط طويل متوقع في الاستثمارات الرقمية، والمضي قدمًا برواندا نحو التحول لمركز تكنولوجي إقليمي.

وفي العام ذاته، توجت البلاد نجاحها بإطلاق أول قمر اصطناعي في إطار مشروع متكامل لربط المدارس والمناطق الحضرية بالإنترنت المجاني، والانتقال لشبكات الكوابل الضوئية بتكلفة تجاوزت ملياري دولار، فالاستثمار في تكنولوجيا الفضاء جزء من مهمة كاجامي الكبرى التي تتمثل في سد الفجوة الرقمية من خلال توفير فرص رقمية متكافئة للمجتمعات الريفية والنائية.

وختامًا يمكن القول: إن الموارد في القارة البكر تظل مدفونة في مكان ما ليضفي عليها الآخرون القيمة، لتحويلها إلى كنوز تحوي ميزات تنافسية لا توجد في أي بقاع العالم، ما يجعل سكان ومستثمري المعمورة جميعًا يتهافتون على دول أفريقيا للاستفادة والإفادة.

رواندا اليوم دولة مشرقة للغاية ليس في التاريخ الحديث لأفريقيا فحسب، بل للعالم، فلا يوجد هناك سوى التميز، والتنافسية. إنها عقلية الفوز والتقدم التي ابتكرها بول كاجامي في جميع أنحاء رواندا.