كتب – محمد الدابولي

حظيت منطقة القرن الأفريقي بأهمية جيوستراتيجية عالمية، جعلها محط أنظار القوي العاليمة والدولية، وتكمن تلك الأهمية في إطلالها وتحكمها في أهم الممرات البحرية على مستوى العالم ألا وهو مضيق باب المندب الذي تمر منه نحو 13 % من حجم التجارة العالمي، لذا حرصت معظم الدول الكبرى والإقليمية على التواجد في تلك المنطقة لتعزيز مكاسبها السياسية والاقتصادية معززة تواجدها بالعديد من القواعد العسكرية خاصة في جيبوتي.

لم تعد مسألة التواجد ومد النفوذ في منطقة القرن الأفريقي حكرا علي الدول الكبري، ففي الفترة الأخيرة انبرت العديد من الدول الإقليمية لتعزيز تواجدها في القرن الأفريقي عموما وجيبوتي على وجه الخصوص، ومن أهم تلك الدول قطر وتركيا.

لعبت قطر وتركيا خلال العقدين الماضيين أدوارا توسعية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا معتمدين على العديد من الأدوات السياسية والاقتصادية، ومثلت جيبوتي محطة رئيسية في مسألة التوسع التركي ـ القطري خلال الفترة الأخيرة وهو ما سيتم مناقشته في هذا التقرير.

أولا . التغلغل التركي . في جيبوتي

قسمت تركيا نفوذها السياسي والأمني في منطقة القرن الأفريقي بين دولتي الصومال وجيبوتي، ففي الوقت الذي حظيت به الصومال بالدعم المادي والعسكري بإنشاء قاعدة عسكرية تركية في جنوب مدينة مقديشيو عام 2017، حظيت جيبوتي بالعديد من اتفاقيات التعاون التجاري، حيث تحاول أنقرة استغلال الموقع الجيوسياسي لجيبوتي في دعم التجارة والاستثمارات التركية في تلك المنطقة.

وضحت الرؤية التركية إزاء جيبوتي خلال فعاليات القمة الأفريقية التركية التي عقدت في مدينة اسطنبول عام 2008، حيث حرصت أنقرة على تدشين منتدي أعمال مشترك بينها وبين جيبوتـي ويعتبر الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» جيبوتي واحدة من البلدان الأفريقية الأكثر استقرارا وتحرز تقدما كبيرا في مسار التنمية.

وضع حجر الأساس لمسجد السلطان عبدالحميد الثاني في جيبوتي

في الحقيقة ينظر أردوغان إلى جيبوتي على أنها مركز أفريقي هام للصادات التركية فجيبوتي هي البوابة البحرية والتجارية  للعديد من الدول الأفريقية الحبيسة كإثيوبيا وأوغندا وروندا وبروندي،  وتأكيدا على أهمية جيبوتي في السياسة الخارجية التركية إزاء أفريقيا حرص «أوردوغان» على زيارة جيبوتي مرتين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة الأولي في يناير 2015 والثانية في أغسطس 2016ـ وفي المقابل قام الرئيس الجيبوتي «لإسماعيل عمر جيلة» بزيارة تركيا خلال الفترة من 19 -20 ديسمبر 2017.

تشير تقديرات وزارة الخارجية التركية إلي أن حجم الصادرات التركية لجيبوتي بلغ 95.77 مليون دولار أمريكي، فيما بلغت صادرات جيبوتي لتركيا 114 ألف دولار، فيما بلغ إجمالي حجم التجارة الثنائية بين البلدين حوالي 91،8 مليون دولار أمريكي في أول 11 شهرًا من عام 2017ـ كما بلغت حجم الاستثمارات التركية في جيبوتي حوالي 130 مليون دولار أغلبهاأعمال إنشائية.

ولتعزيز التعاون التجاري بين البلدين قامت تركيا في عام 2014 بإنشاء منطقة اقتصادية خاصة في جيبوتي علي مساحة 5 مليون متر مربع لتعزيز تواجدها الاقتصادي في المنطقة، وهو ما أدي لرفع عدد الشركات التركية العاملة في جيبوتي من شركتين عام 2012 إلي 18 شركة عام 2015، وتسعي أنقرة حاليا للحصول على امتياز تطوير ميناء جيبوتي.

أما فيما يخص العلاقات الثقافية بين البلدين فلاتزال في أدني صورها حتي الآن، فرغم منح تركيا العديد من المنح التعلايمية للدول الأفريقية خاصة الصومال، لم تحظي جيبوتي سوي 19 منحة دراسية خلال العام الجاري، وهو ما يوضح تركيز أنقرة بشكل كبير على التغلغل التغلغل الإقتصادي في جيبوتي. 

ثانيا . التغلغل القطري في جيبوتي

انتهجت قطر سياسة التدخل في الأزمات الأفريقية وتحقيق الوساطة بين الأطراف المتنازعة، حيث استغلت الأزمة الحدودية بين إريتريا وجيبوتي حول إقليم رأس دميرة المتنازع عليه بين الدولتين عام 2008 واستغلت قطر  وساطتها بين الدولتين في نشر قواتها العسكرية على الحدود بين البلدين، كما استضافت الدوحة قمة إريترية جيبوتية عام 2010، ويلاحظ  أن قطر هنا لم تعمل علي حل الخلاف الحدودي بين البلدين، حيث دأبت على استغلال الأزمة في تثبيت تواجدها العسكري في المنطقة.

دفع التلكؤ القطري في تحقيق الوساطة وإنهاء النزاع الإريتري الجيبوتي إلي قيام جيبوتي يوم 7 يونيو 2017 بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي في الدوحة تضامنا مع الدول العربية التي قررت مقاطعة النظام القطري لدعم العديد من الجماعات الإرهابية في المنطقةـ وبناء على هذا القرار قامت الدوحة بسحب قواتها المتمركزة في جيبوتي وإبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة بإنهاء وساطتها في النزاع بين جيبوتي وإريتريا في محاولة لتأديب النظام الجيبوتي على موقفه من المقاطعة العربية.

حرب الموانئ

رغم التوترات السياسية التي شهدتها العلاقات الجيبوتية القطرية في يونيو 2017 إلا أنه سرعان ما عادت تلك العلاقات مرة أخري لطبيعتها في ربيع 2018، ويعد ميناء «دوراليه» هو كلمة السر في عودة العلاقات الجيبوتية القطرية، حيث دفعت الدوحة الحكومة الجيبوتية إلي إلغاء التعاقد مع شركة موانئ دبي التي نجحت أخيرًا في استصدار حكم من محكمة لندن للتحكيم الدولي يقضي بمنع شركة «بورت جيبوتي إس إيه» من فسخ التعاقد مع شركة موانئ دبي لإدارة ميناء «دوراليه»؛ ما أدى إلى قيام جيبوتي بتأميم محطة دورالية للحاويات للحيلولة دون عودة موانئ دبي إليها مرة أخرى، ولم تخف قطر رغبتها المحمومة في الحصول على حقوق تطوير ميناء «دوراليه» الجيبوتي.

المساعدات الإنسانية

مساعدات قطرية لجيبوتي

لم تهمل الدوحة استغلال المساعدات الإنسانية من أجل تحقيق تمددها وتثبيت وجودها في منطقة القرن الأفريقي حيث تعد الصومال وجيبوتي أكثر دولتان حصولا على المساعدات القطرية على الترتيب، حيث عملت الدوحة على ضخ 1.8 مليون دولار في جيبوتي تحت ستار مساعدات إنسانيةـ كما عملت منظمة «قطر الخيرية» المصنفة إرهابيا من قيبل دول التحالف الرباعي العربي على ضخ 2 مليون دولار في جيبوتي عام 2015 و5 مليون دولار في عام 2016، ولعب الموقع الجيوسياسي الجيبوتي دورا كبيرا في خريطة المساعدات القطريةـ حيث اعتبرت كمركز تجميع لوجستي للمساعدات القطرية التي يتم توجيها إلي الصومال واليمن.

ثالثا . التغلغل الإخواني في جيبوتي

لم تشهد الحياة السياسية في جيبوتي تطورا ملحوظا منذ استقلالها عام 1977 وحتي اليوم حيث لم يتعاقب على حكم البلاد سوى رئيسين هما «حسن جوليد» و«إسماعيل عمر جيله»، انعكس الجمود السياسي في البلاد علي التنظيمات السياسية في البلاد وبالأخص فرع جماعة الإخوانـ التي لم يكن لها أية نشاط سياسي يذكر.

وفي مرحلة ما بعد احتجاجات 2011 قام فرع جماعة الإخوان بدخول العملية السياسية والانزواء تحت راية المعارضة السياسية والجمع بين العمل الدعوي والخيري والعمل السياسي، أي أن فرع إخوان جيبوتي يسير على خطي أفرع جماعة الإخوان في بقية الدول حيث توظيف الأعمال الدعوية والخيرية في خدمة الأهداف السياسية.

رابعا . تأثيرات التغلغل القطري التركي في جيبوتي على المصالح المصرية

مما لاشك فيه أن أحد أهم الدوافع الوجود التركي القطري في جيبوتي هو التأثير علي المصالح الاستراتيجية المصرية المتمثلة في حرية المرور والملاحة في البحر الأحمر  وتأمين حصة مصر من مياه نهر النيل وهو ما سيتم توضيح كالتالي:

  • أمن الملاحة في البحر الأحمر: يشكل أمن الملاحة في البحر الأحمر أهمية استراتيجية بالنسبة لمصر حيث يمر  فيه حوالي 13 % من حجم التجارة العالمية مرورا من مدخله الجنوبي «مضيق باب المندب» ومدخله الشمالي «قناة السويس» التي تسهم عائدتها بتسبة كبيرة في الاقتصاد الوطني المصري، لذا أي تهديد للملاحة في جنوب البحر الأحمر سيعمل على شلل مرور قوافل التجاة والحاويات في قناة السويس.
  • مياه النيل: لمصر مصلحة استراتيجية أخري في تلك المنطقة متمثلة في رغبة مصر في تأمين حصتها من مياه نهر النيل، ودأبت الدول المعادية لتوجهات السياسة المصرية خلال القترة الأخيرة للتأثير على سلوكيات دول حوض النيل خاصة إثوبيا من أجل الإضرار بحصة مصر من مياه النيل، لذا قد تلجأ بعض الدول كتركيا وقطر لتثيبيت وجودهما فيها لأجل حث إثيوبيا على الإضرار بالمصالح المصرية مستغلية قوة العلاقات الإثيوبية الجيبوتية حيث تعد جيبوتي هي المنفذ البحري الأول لإثيوبيا.