كتبت علياء عصام الدين

وقف مترقبًا على باب رئيس تحرير مجلة “المجلة”، هو طالب في قسم الفلسفة بكلية الآداب  ذو جسد نحيل وعينان تتوقدان ذكاء وطموحًا ويداه المرتعشتين وتوتره الظاهر على ملامحه، يحمل بيده مجلدًا دس به قصة قصيرة بعنوان ” ثمن الضعف” كان قد كتبها وذهب ليعرضها على رئيس تحرير المجلة “سلامة موسى”.

كان عمره آنذاك 21 عامًا، لم يكن هذا الشاب المحب للكتابة يعلم ما تخبئه له الأيام، فهو مجرد كاتب هاوي سرعان ما أصبح  أشهر كتاب الأدب في مصر وأفريقيا والعالم أجمع.

لقد أهدت مصر لأفريقيا والعالم أجمع “شيخ الروائيين” وكبيرهم، الذي كان وسيظل حالة متفردة غير قابلة للتكرار وموهبة فذه لن يغمرها النسيان.

ومن قلب محب مبتدئ يحبو في عالم نجيب الساحر وينوي استكمال الرحلة، جاءت هذه الكلمات لتحاول وصف إبداع فاق حدود التعبير، إبداع قادر على سلب العقول وآسر القلوب في عالم أشبه بذلك الذي يعايشه مدمني المخدرات، ليكون الإرث الذي تركه نجيب محفوظ لنا هو تلك الحالة من النشوى والسكر الأدبي اللامتناهي.

أكسير الخلود

عندما يذكر اسم نجيب محفوظلا تعود الذاكرة إلى الوراء ولا ترتبط بزمن محدد، بل تسبح في فضاء الإبداع، فلا تكاد تقف عند لحظة إبداعية إلا وتلتها أخرى أكثر إبداعًا وشمولًا وسحرًا.

كان الأدب الذي قدمه العبقري “نجيب محفوظ” أدبًا يصلح لكل زمان ومكان، هو ذلك الأدب الذي يمكن أن نطلق عليه مصطلح العابر للقارات.

ونجيب ابن حي الجمالية ولد في 11 من ديسمبر عام 1911 وتخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1934، وقد أضفى تخصصه الأكاديمي على أعماله الأدبية وروياته بعدًا فلسفيًا عميقًا، في فترة لاحقة حيث اتجه للأسلوب الرمزي في الكتابة.

كان أول عمل يُنشر لنجيب محفوظ في الصحف عام 1928، وقد قام بترجمة أول كتاب بعنوان ” مصر القديمة” وهو ما يزال طالبًا في الجامعة، ولعل هذا الكتاب كان اللبنة الأساسية التي دفعت العم نجيب إلى استلهام رواياته من التاريخ، فكانت دليلًا قاطعًا على ذكاءه ومهارته وموهبته الكبيرة، فجاء الشكل الروائي الذي قدمه لنا فريدًا من نوعه، لم يسبقه إليه أحد، فأمتعنا بـ”عبث الأقدار” و “رادوبيس” و”كفاح طيبة”، وسرعان ما ذاع سيطه وزاد تعلقه بالرواية حتى امتلكته فامتلكها.

لم تكن إبداعات نجيب محفوظ صالحة لكل زمان ومكان لأنها تحاكي واقعنا وتناقش مشاكله فقط، بل لكونها قادرة في كل مرة على الإتيان بجديد، فهي حالة نادرة خاصة “مسحورة” إن جاز لنا التعبير ومن الصعب أن نجد لها مثيل.

وعلى الرغم من اختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية واختلاف الأجيال والأذواق الأدبية ظلت أعمال نجيب محفوظ شاهدًا على موهبة أصيلة تنبض حياة جيلًا بعد جيل وكأنها حوت “أكسيرًا للخلود” وتعاويذ سحرية للديمومة وقابلية ومرونة للتأويل رغم اختلاف زمن الكتابة.

فضاء الإبداع

من بياع الفول للعربجي للموظف البسيط، كانت حارات مصر الضيقة فضاء الإبداع المفضل للعم نجيب  تلك الحارات الضيقة التي اتسعت مع وقع قلمه الرشيق وسحر وصفه الدقيق.

 يقول : “منذ مولدي في حي الحسين، و هذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدًا، أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائمًا بالحنين إليه لدرجة الألم والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي“.

ساهمت نشأة نجيب محفوظ  في أحياء القاهرة القديمة (الحارات) – لاسيما أنه انتقل من الجمالية للعباسية والحسين فالغورية-  في خلق جو أدبي خاص به ارتبط بطبيعة الحارة وأخلاق أهلها وروائحها وعاداتها وتقاليدها، وهي التفاصيل التي برع العم في التعبير عنها بعمق شديد في رواياته.

لقد كانت “الحارة” مكانه الأول والأخير، والفضاء الأول لإبداعاته الأدبية، فهو المكان الذي تربى فيه ونشأ وترعرع وتعلم وأحب للمرة الأولى، فكان من البديهي أن تكون الحارة أولى حكاياته وتستمر معه حتى النهاية.

تمكن نجيب محفوظ من نقل تفاصيل حياة الطبقة المتوسطة في حارات القاهرة بدقة متناهية وصوَر انفعالاتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، و عبر عن طموحاتهم وآمالهم وعكس مشاكلهم وتوجساتهم ومواقفهم حيال قضاياهم المصيرية كما لو أنه دخل في نفوسهم بمكبر ليلتقط ما لايمكن وصفه أو الحديث عنه ويترجمه على الورق.

شغلت الأسرة المصرية البسيطة وعلاقة افرادها ببعضهم البعض فكر نجيب فانطلق يوصف عمق هذه العلاقات وتشابكها بشكل واقعي دقيق ثم انطلق ليحلل ما وراء الواقع فاتخذت رواياته طابعًا أكثر رمزية كما ظهر في ” أولاد حارتنا” و “الحرافيش”.

اختطفنا عالم نجيب محفوظ الروائي إلى داخل الحارة المصرية بسلاسة، فقدم لنا تاريخًا موثقًا لها وأخرج لنا أعمالًا إبداعية لاتنسى مثل “خان الخليلي” و”زقاق المدق” فضلًا عن الثلاثية العبقرية التي صورت أحداث ثورة 1919 والتي تعتبر شبه سيرة ذاتية لنجيب، حيث أنه شب في أجواءها وتأثر بجنازة سعد زغلول وشعر بمقيمة الوطنية وأثرها في وجدان الجماهير ، وتعرف على معاني العدالة الاجتماعية وعلاقتها بالحرية الفردية عنق قرب، وهي معاني صورها ببراعة في “بين القصرين”و”قصر الشوق” و “السكرية” حيث أرَخ فيهم للفترة ما بين 1917- 1944  من خلال جيلين أحدهما قام بالثورة والثاني جنى ثمارها.

سطع نجم نجيب محفوظ بعد الثلاثية والتي أكملها في عام 1952 وقام بنشرها بعد هذا التاريخ بأربعة أعوام لتكون بمثابة حائط صد يقاوم تغريب الهوية وطمس معالمها، وشاهد على النسيج الوطني وتكاتفه من أجل هدف الاستقلال والحرية وإكسير مقاوم للنسيان.

لقد أبدع نجيب في رواياته في وصف سعي النفس البشرية للخلاص وتمردها على الواقع، وتخبطها في رحلة الهروب من النفق المظلم وصعوبة اتخاذها للقرار السليم وسط عالم ملئ بالشهوات، كما برع في وصف مشاعر الذل والبؤس التي تصيب النفس البشرية بعد يأسها من الخلاص بعد اكتشافها لزيف الخلاص الخارجي و وإدراكها أن الخلاص الحقيقي ينبع من الداخل.

إخلاص ومثابرة

يقول توفيق الحكيم لقد جاءت الرواية ذاتها والتخصص فيها مع مجئ روائي شاب موهوب، كرس حياته للرواية وحدها، فلا شعر ولامسرحية ولاسيرة ولامشاركة من نوع آخر في أنواع الكتابة، إلا الرواية في حد ذاتها، هذا الشاب هو نجيب محفوظ، المخلص لفن الرواية، التي بدأت معه عهدًا جديدًا.

اختصر نجيب محفوظ 3 قرون من تطور الرواية في العالم في نصف قرن فقط، وراح يتجول بين مختلف أنواع الإنتاج الراوئي العالمي ليتخير له اتجاهًا ميزه عن غيره من الكُتاب، فأسس كيانًا روائيًا مستقلًا لا يمكن أن يحدد بسمات وعناصر، ولعل هذا التغير والتنوع الذي قدمه نجيب في مؤلفاته هو ما عكس عبقريته ككاتب، فعلى الرغم من هذا الاختلاف بين الكلاسيكية والتاريخية والواقعية والرمزية إلا أنك تستطيع أن تميز سطور نجيب محفوظ ببساطة شديدة منذ الوهلة الأولى ، فهي تنطلق فورًا لتلامس الوجدان وكأنه “صوت” متفرد لايمكن أن تخطئ فيه الأذن.

لقد تطلب هذا التفرد، مفردات توفرت كلها في العم نجيب، الموهبة الفذة، الوعي الاستثنائي، الجًلد والصبر، المثابرة على الكتابة، والإخلاص للرواية، فضلًا أنه ظهر في وقت شديد الخصوصية، كل ذلك ساهم في خلق العبقرية الأدبية التي لازالت حية وستظل لأجيال قادمة.

لم يكن نجيب محفوظ يولي اهتمامًا لأي شئ في حياته عدا الكتابة، الكتابة دون هدف، الكتابة لمجرد الكتابه، فكانت شغفه الأول، فلم يكن يهتم بمن سيقرأ  أعماله ولا كيف سينشر ها، ولم تشغله الجوائز، يقول “لم أكن أهتم بالنشر ولا بالجوائز، وكنت ماشي مثل وابور الزلط“.

كان لنجيب محفوظ طقوسًا صارمة، لاسيما في الكتابة عكست هذه الطقوس جديته وإخلاصه، فكان على سبيل المثال يقضي الصيف كله في الإسكندرية والشتاء في القاهرة، وكان ينتهي من عمله في الـ2ظهرًا ويعود لمنزله ليتناول الغذاء ثم يأخذ قيلولته ويستيقظ في الـ4عصرًا ليكتب لمدة ثلاث ساعات، ثم يتناول عشاءه ويعاود الكتابة والقراءة، وكانت إذا جاءت الساعة الثانية عشرة مساءً ترك كل شئ من يديه مهما كان إلحاح الأفكار عليه.

اتسم يوم نجيب بالتنظيم الشديد فكان لايكتب رواياته إلا على مكتبه في المنزل، بيد أنه كتب أغلب  سيناريوهات الأفلام على المقهى.

ولشدة انضباطه ودقته وصف نجيب بأنه “الرجل الساعة” فكان موظفوا صحيفة الأهرام حسب قولهم يضبطون ساعاتهم على موعد وصوله، فطيلة عمله في الصحيفة كان يذهب من منزله للمقر مشيًا على الأقدام، قاطعًا ما يقرب من 5 كيلومتر يوميًا، وكان ياخذ قسطًا من الراحة في منتصف المسافة بمقهى “علي بابا” المطل على ميدان التحرير، ثم يواصل المشي حتى يصل مبنى الأهرام في تمام التاسعة صباحًا.

يقول “دخلت الأدب وأنا في نيتي أن أعمل لآخر نفس، نجحت سأستمر، فشلت سأستمر” هكذا كان إخلاصه ومثابرته فضلًا عن موهبته غير العادية أساسًا لخلود أعماله حتى يومنا هذا.

المبهج المسالم

على الرغم من دقة نجيب وانضباطه واجتهاده في العمل والكتابة، كان شخصية مبهجة مبتسمة وصاحب نكتة لم تفارق الضحكة فمه، كان يحب جلسات الأصدقاء والدردشة على المقاهي وكان مسالمًا لا يحب الصراعات والجدالات العقيمة، لم ينتقد أو يهاجم أحد في أعماله الأدبية.

نجيب لم يكن يومًا رجل معارك، تحاشى الحديث في السياسة، وتجنبها قد المستطاع،  لقد كانت معركته الأولى والأخيرة مع الورق والكتابة لا مع السلطة،  وكان ذلك من وحي إيمانه بأن رواياته وما تحويه من تفاصيل قادرة على ضبط بوصلة القراء وخلق وعي وجداني قادر على التمييز بين الحق والباطل.

فتح انتصار نجيب للعلم والعدالة في إطار رؤية صوفية في رواية “أولاد حارتنا” النار عليه، حيث اعترضت مؤسسة الأزهر على الرواية وأوقفت نشرها في مصر، وبعد مرور 47 عامًا تم نشر الرواية بمقدمة للدكتور محمد كمال أبو المجد المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي أثار لغطًا شديدًا في الأوساط الأدبية والثقافية في كون نجيب محفوظ قد خان النص الذي كتبه بوصفه قد كرس سلطة غير شرعية للوصاية على الإدب والإبداع.

بيد أن العم كان مسالمًا محنكًا أبى المتاجرة بمنع نشر روايته ولم يُشهر بالسلطة والمؤسسة الدينية حتى بعد تعرضه لمحاولة اغتيال في 14 أكتوبر عام 1994 على يد متشددين اتهموه بازدراء الأديان والخروج عن مبادئ الشريعة الإسلامية.

لقد كان رهان العم نجيب على الزمن رهانًا كبيرًا، فقد عرف جيدًا أن لكل لحظة تاريخية قانونها الخاص ويجب على الكاتب الواعي احترام تلك اللحظة، صمتًا أو بوحًا، عزوفًا أو كتابة، فهو يعلم أن الصمت هو الملاذ الأكثر شجاعة عندما يتسم المشهد بالضبابية.

وإن كانت “آفة حارتنا النسيان”، إلا أن العم  قد حفر اسمه على جدران التاريخ ليظل أهم روائي عرفته مصر وإفريقيا والعالم العربي دون منازع.