بقلم د. أيمن شبانة

مدير مركز البحوث الأفريقية بجامعة القاهرة

تُعرف جمهورية جنوب أفريقيا بأنها أمة الألوان المتعددة، أو أمة قوس قزح؛ حيث تضم خليطًا من الأجناس ذوي التكوين الإثني والعرقي المتباين، وقد خاضت الأغلبية السوداء فيها نضالًا طويلًا ضد سياسة الفصل العنصري الذي طبّقته الأقلية البيضاء منذ 1948، حتى آلَ الحكم للسود عام 1994، لتتحول بعدها البلاد إلى قبلة للمهاجرين.

لكن تزايد مشاعر كراهية الأجانب Xenophobiaبجنوب أفريقيا، والهجمات المتكررة ضدهم مؤخرًا أعادت للذاكرة موجات العنف الدامي ضد الأجانب منذ عام 1994، لدرجة جعلتها مشهدًا مألوفًا في المجتمع، بالرغم من التاريخ النضالي للأغلبية السوداء ضد السياسات العنصرية المقيتة، وهو ما يثير تساؤلات عديدةٍ بشأن دوافع الهجرة لجنوب أفريقيا، وأسباب كراهية الأجانب، ومظاهر العنف ضدهم، ودور الحكومة في مواجهة الظاهرة، التي حولت جنوب أفريقيا من جنة للمهاجرين إلى إحدى بؤر العنف بأفريقيا.

أولًا- دوافع الهجرة إلى جنوب أفريقيا:

يأتي أغلب المهاجرين إلى جنوب أفريقيا من دول جوارها الجغرافي والإقليمي، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد ارتبط تدفقهم إليها بانتشار الصراعات والحروب الأهلية، وتدشين الحرب ضد الإرهاب، والثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، وما ارتبط بها من أزمات سياسية وأمنية، فضلًا عن الأزمات الاقتصادية التي ضربت معظم دول العالم الثالث، مما حفز الشباب للهجرة إلى جنوب أفريقيا، قادمين إليها من الصومال وماولاي وموزمبيق، وباكستان وأفغانستان والعراق وسوريا واليمن، وليبيا ومصر وتونس والجزائر وغيرها.

جاء أغلب المهاجرين إلى بلاد الزولو بشكل غير شرعي، عبر رحلات شاقة، تكبدوا خلالها الأموال والصعاب، بالتعاون مع مهربي البشر وخفر السواحل الذين يسهلون تلك الممارسات عالية المخاطر، بالإضافة لملاك العقارات الذين يوفرون السكان للأجانب الذين كانوا يُمَنُّون أنفسهم بحياة كريمة آمنة، بعدما سمعوا كثيرًا عن جنوب أفريقيا، كدولة أفريقية بمواصفات أوروبية، تملك واحدًا من أكبر الاقتصادات بالقارة الأفريقية، وتتسم قطاعاتها الاقتصادية بالحيوية والتطور المستمر، مع وجود بنية أساسية جيدة نسبيًّا.

ظن المهاجرون أن دستور جنوب أفريقيا وقوانين الهجرة فيها سوف توفر لهم مظلة من الحماية والطمأنينة؛ لكونها تعترف بالتنوع، وتمجد قيم العدل والمساواة، والكرامة الإنسانية، وتمنح المضطهدين حق اللجوء السياسي. وتسمح للرعايا الأجانب بحرية الإقامة والعمل وتملك الأرض والعقارات، وهنا يسترجع الجميع الخطاب التاريخي للرئيس نيلسون مانديلا، الذي أكد أن بلاده مفتوحة للجميع، وأن الترحيب بالأجانب يعد نوعًا من رد الجميل للمساعدات السخية التي تلقاها حزب المؤتمر الوطني، خلال سنوات الكفاح ضد العنصرية، التي كان فيها محظورًا ومنفيًا.

انتشر المهاجرون في معظم مدن وقرى جنوب أفريقيا، وعملوا في كافة المهن والحرف، ونجح الكثير منهم في تثبيت أقدامه كمستثمرين ناجحين، للدرجة التي جعلتهم منافسين أقوياء لرجال الأعمال المحليين في المناطق الحضرية الكبرى بالعاصمة بريتوريا وجوهانسبرج وديربان، وكذا في مناطق الطبقة الوسطى والمجتمعات الفقيرة، كما انتظم المهاجرون في أطر اتحادية وروابط خاصة، توفر بشكل جماعي رأس المال اللازم لبدء المشروعات، مما منحهم القدرة على الاستثمار وتوليد الأرباح.

ثانيًا: أسباب كراهية الأجانب:

أثار النجاح الذي حققه المهاجرون السخط لدى مواطني جنوب أفريقيا، خاصة وسط الشرائح الاجتماعية الفقيرة والوسطى التي تعتبر الأجانب سببًا أساسيًّا لانتشار البطالة وضيق أسباب الحياة بالنسبة لهم، حيث يعاني 29% من المواطنين في سن العمل من البطالة، بواقع 6,7 مليون نسمة، وفقًا لتقديرات الحكومة في يوليو2019.

يربط المواطنون أيضًا بين الأجانب وتدهور القيم الاجتماعية بالبلاد، بدعوى ضلوع الأجانب في بيع المخدرات لأطفالهم وأعمال البغاء والتهريب، والتحايل لأجل الإقامة بالبلاد، سواء بتزوير المستندات، أو الزواج الصوري؛ لاكتساب حق المواطنة، والتخطيط لنهب الأراضي والمنازل، وذلك بتعمد الزواج من فتيات عاطلات عن العمل، تتجاوز أعمارهن ثمانية عشر عامًا، بما يؤهلهن للاستفادة من برنامج الحكومة لإعادة الإعمار والتنمية، بالحصول على مساكن منخفضة التكلفة، فيما يكابد الآلاف من المواطنين الفقر والجوع والمرض في أكواخ الصفيح والخشب والعشوائية.

ثالثًا: مظاهر العنف ضد الأجانب:

أضحت جنوب أفريقيا واحدة من أبرز الدول التي تنتشر فيها ظاهرة كراهية الأجانب؛ حيث تتعدد مظاهرة العنف ضدهم؛ لتشمل حرق المنازل والمحال التجارية، ونهب الممتلكات، والطعن، والقتل الجماعي وحرق الجثث، والعنف الجنسي ضد النساء اللاتي تشكلن 44٪ من إجمالي المهاجرين.

كانت أخطر موجات العنف تلك التي اندلعت في مايو 2008، انطلاقًا من بلدة ألكسندرا بمقاطعة الكاب الغربية، لتنتشر في جوهانسبرج، ومنها إلى جميع أنحاء البلاد، والتي راح ضحيتها 62 قتيلًا، ثم تكرر العنف بشكل متقطع منذ ذلك الحين، خاصة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، لدرجة أثارت السخط بين الأجانب، وشككتهم في قدرة حكومة بريتوريا على توفير الحماية اللازمة لهم.

وهنا يلاحظ أن أغلب أحداث العنف توجه ضد الأجانب الأفارقة، خاصة من ذوي البشرة السمراء، الذين ينظر إليهم باعتبارهم مصدرًا للمشكلات، فيما يتعامل المواطنون مع المهاجرين البيض، ذوي الأصول الأوروبية، على أنهم مستثمرون يوفرون فرص العمل ورؤوس الأموال.

وفي مواجهة الأحداث الأخيرة، اتجهت الدول التي ينتمي إليها المهاجرون؛ مثل نيجيريا وزامبيا وزيمبابوي وبوتسوانا للاحتجاج الرسمي، عبر استدعاء سفراء جنوب أفريقيا بها، كما أعلن رؤساء نيجيريا ورواندا ومالاوي والكونغو الديموقراطية مقاطعتهم لقمة المنتدى الاقتصادي العالمي حول أفريقيا بكيب تاون. وتم تعليق أنشطة الشركات والسلاسل التجارية التابعة لجنوب أفريقيا بتلك الدول، إثر تعرضها لهجمات انتقامية. كما توالت الإدانات من المنظمات الأفريقية، وعلى رأسها الاتحاد الأفريقي، وألغى اتحاد زامبيا لكرة القدم مباراة بلاده ضد جنوب أفريقيا التي كانت ستقام في لوساكا عاصمة زامبيا.

رابعًا: مسئولية حكومة جنوب أفريقيا:

تبذل السلطات بجنوب أفريقيا جهودًا كبيرة لأجل تقنين دخول المهاجرين لأراضيها. وتوفير الحماية والأمن للأجانب المقيمين بها فعليًّا؛ حيث أنشأت معسكرات احتجاز مؤقتة مجاورة للنقاط الحدودية، وذلك للتحفظ على الأشخاص الذين يعبرون الحدود بشكل غير مشروع، خاصة في مواسم الأعياد؛ وأهمها عيد الفصح وعيد الميلاد، ومثال ذلك معسكر لينديلا على الحدود بين جنوب أفريقيا وكل من موزمبيق وزيمبابوي.

كما توسعت الحكومة في إجراءات تحسين إدارة ومراقبة الحدود باستخدام التكنولوجيا الحديثة، وأنشأت مكاتب لفحص رغبات طالبي اللجوء السياسي، كما أكد رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا أنه لن يتسامح مع الفوضى والعنف ببلاده، خاصة أن أغلبية الأجانب يحترمون القانون، وبالتالي فمن حقهم العيش وإدارة شؤونهم في سلام، كما قررت المنظمات غير الحكومية بجنوب أفريقيا تشكيل جبهة موحدة لمكافحة أعمال العنف المناهضة للأجانب، وتنظيم مسيرة ضخمة في البلاد للتضامن مع ضحايا العنف.

لكن ذلك لم يمنع البعض من تحميل الحكومة جزءًا من المسئولية عن انتشار كراهية الأجانب؛ حيث يتبنى بعض مسئوليها سياسة شعبوية، تحض على رحيل الأجانب، حتى إن بعض أحداث العنف كانت تحدث مباشرة عقب إلقاء المسئولين لخطابات جماهيرية تحرض ضد الأجانب، ومنها خطاب ملك الزولو في مارس 2015، وخطاب عمدة جوهانسبرج عام 2017، كما أن الحكومة لا تزال تغض الطرف عن برامج إعلامية تبث روح الكراهية ضد الأجانب، كما قررت وزارة الشئون الداخلية إغلاق بعض مراكز استقبال اللاجئين.

والأخطر من ذلك هو عدم قدرة الحكومة على معالجة سلبيات النظام الرأسمالي المطبق بالبلاد، مما أدى لشيوع حالة من عدم المساواة العميقة، خاصة بالنسبة للشرائح الفقيرة. وهو ما ينفي الادعاء بأن الأجانب هم من يُثْقِلون كاهل الحكومة ويؤثرون سلبًا في مستوى الخدمات الاجتماعية؛ حيث لا يمثل الأجانب سوى 2,5 مليون نسمة من إجمالي 57,6 مليون نسمة عام 2018.

خامسًا- سياسات المواجهة:

على ضوء ما تقدم، فإن حكومة جنوب أفريقيا مطالبة بالتصدي الحازم لظاهرة كراهية الأجانب، وذلك بعدم التركيز على أعراض الظاهرة فحسب، ولكن أيضًا باتخاذ خطوات استباقية، تقضي على الفكر المتطرف المتعلق برفض الآخر، وتمحو إرث العنصرية الذي لا يزال كامنًا في أذهان المواطنين، رغم التخلي الرسمي عن السياسات العنصرية.

يستلزم ذلك تركيز أدوات الإعلام ودور العبادة ومؤسسات التعليم على تكريس مفاهيم قبول الآخر، والتعايش السلمي، وتوعية المواطنين بالمعطيات المرتبطة بوجود الأجانب، ودورهم في خدمة الاقتصاد الوطني، والأثر السلبي لخطاب الكراهية على معدلات الجريمة بالبلاد، وتدفق السياحة والاستثمارات الأجنبية إليها، والصورة القومية لجنوب أفريقيا التي تقدم نفسها للعالم باعتبارها درة الديموقراطية وقائدة النهضة الأفريقية.

من المهم أيضًا إدماج المهاجرين في المجتمع عبر تكوين روابط مشتركة تضم المواطنين والأجانب معًا، وتنظيم لقاءات دورية لتجسير الفجوة بينهما، وتقنين نظم المشاركات التجارية بين الطرفين، وتغليظ العقوبة على الجرائم ضد الأجانب، وتحجيم ثقافة الإفلات من العقاب بالنسبة للمتورطين فيها، ووضع سياسة لتعويض الأجانب المتضررين من العنف.