بقلم د. أماني الطويل

مساعد مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ورئيس البرنامج الأفريقي بالمركز

انتهت المائة يوم الأولى من ولاية الحكومة الانتقالية في السودان، وانتقل الثوار من مواكب واعتصامات الثوار إلى مقاعد الاستوزار، وبرزت إلى حد كبير طبيعة ووزن التحديات المطروحة على المستقبل السوداني، وهي التي يمكن تصنيفها -في هذه المرحلة- بنوعين من التحديات؛ الأول هو التحديات الوجودية، وهي التحديات المرتبطة بمعادلات القوة داخل الدولة السودانية، وتأثيرها على استقرار مؤسسة الدولة واستمرارها، أما القسم الثاني من التحديات فهو تحديات إعادة بناء الدولة على أُسُس الحكم الرشيد من اعتماد آليات الديمقراطية والحوكمة في كل المجالات.

في هذا السياق تبدو الأسئلة معلقة في فضاء المشهد السوداني حول مدى قدرة الحكومة الانتقالية على الاستمرار، وتدشين صيغ للاستقرار، خصوصًا وأن حكومة الثورة لم تستطع بعدُ أن ترفع من مستوى الحياة اليومية للمواطنين رغم محاولاتها الجادة، وهو الأمر الذي يجعل البعض يتوقع انقلابًا عسكريًّا، يمكن أن يلوح في الأفق كما صرح بعض الساسة، ويتخوف قطاع من النخب -وتحت مظلة جملة من الهواجس والمخاوف- من حقيقة الموقف الدولي والإقليمي من هذه الحكومة، وهل الأطراف الخارجية جادة بالفعل في دعم السودان؟

أولًا: التحديات الوجودية:

أ- حالة ومستقبل قوات الدعم السريع:

تشكل قوات الدعم السريع أزمة مركبة في هذه الفترة من حكم السودان، وتعبر عن توازنات حرجة للغاية؛ حيث أقدم الرئيس المخلوع عمر البشير على تكوين هذه القوات بهدفين متوازيين؛ الأول: هو مواجهة تمرد الحركات الدارفورية المسلحة ضد حكمه، خصوصًا بعد أن اتضح حجم مخاطر هذه الحركات، حين وصلت إلى مشارف أم درمان في مايو ٢٠٠٨ مستهدفةً قلب نظام الحكم، والثاني: هو حماية نظام البشير في الخرطوم من انقلاب القوات المسلحة عليه، في ضوء الاحتقان السياسي والشعبي ضد البشير الذي بدا جليًّا اعتبارًا من عام ٢٠١٣.

وقد أقدم البشير -لمواجهة هذه المخاطر على نظام حكمه- على تفريغ العاصمة السودانية تقريبًا من القوات النظامية التابعة للقوات المسلحة السودانية، وأصبحت قوات الدعم السريع هي المسيطرة على العاصمة، والقائمة على حماية نظام الحكم على الجبهتين في كل من العاصمة وبعض مناطق الصراع الداخلي المسلح، وفي القلب منها دارفور.

ومع اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر ٢٠١٨ قام محمد حمدان دقلو (حميدتي) -قائد قوات الدعم السريع- بنقل ولائه من البشير إلى الثورة في فترة مبكرة، حيث رفض التعامل العنيف مع الثوار في المواكب والتظاهرات، وعمليات اقتحام البيوت المسئول عنها جهاز الأمن الذي ربطت حميدتي بقائده عبدالله قوش علاقات تنافسية أثناء فترة حكم البشير، حيث دعم قوش الميليشيات المسلحة التابعة لنظام البشير، واعتبر أن إنهاء حكمه هو نهاية نظام الحركة الإسلامية في السودان، وساهم في أن يختفي حميدتي لفترة قبيل اعتصام القيادة العامة، وربما يكون مسؤولًا عن توريط قواته في فض الاعتصام في سيناريو لم تتضح أبعاده بعد، وهو رهن لجنة تحقيق حاليًا شكلها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك.

ولعل هذه التفاعلات الحرجة بين جميع أنواع القوى السودانية المالكة للسلاح هي ما تفسر استمرار ثورة السودان في الشوارع، لمدة خمسة شهور كاملة، حيث لجأت ميليشيات الإسلاميين إلى المواجهات المسلحة، والاغتيالات المنظمة ضد المتظاهرين، وصولًا إلى فض اعتصام القيادة العامة بالقوة المسلحة، والتورط في اغتصاب النساء.

في سلوك مشهود في كل من العراق وإيران حاليًا؛ حيث تجتمع الفصائل الإسلامية على عدم التخلي عن السلطة إلا بالدم. وفي ضوء ذلك كان لانحياز حميدتي وقوات الدعم السريع للثورة دور في إنهاء حكم البشير من ناحية وحماية الثورة من ميليشيات الإسلاميين المتنوعة من ناحية أخرى.

وقد امتلك حميدتي علاقات إقليمية هامة ومؤثرة في موازين القوى الداخلية بالسودان خصوصًا في ضوء مساهمة قواته في دعم التحالف العربي باليمن، كما أن يسيطر على مناجم الذهب بمنطقة جبل مرة بدارفور، وهو ما وفر للرجل قدرات ونفوذ اقتصادي إلى حد دعمه للبنك المركزي السوداني ماليًّا على فترات متفرقة.

وفي ضوء هذه الأدوار الحاسمة لحميدتي في دعم الثورة، ووزنه الإقليمي وملاءته المالية بدأ محمد حمدان دقلو يبلور متطلباته منها ويحدد طموحاته المستقبلية، ويحاول أن يحجم القوات المسلحة السودانية، فشرع في محاولة بلورة دعم شعبي له من القبائل السودانية، كما انخرط في محاولة تخفيف عبء مصاعب المعيشة على السودانيين فهو تارة يوزع مواد تموينية، وأخرى يساهم في دعم حركة المواصلات اليومية للناس.

وعلى الرغم مما يتمتع به حميدتي من مصادر للقوة والتأثير في المعادلة الداخلية، إلا أنه يواجه عددًا من التحديات في مواجهة الرجل داخليًّا وخارجيًّا. على المستوى الداخلي هناك عدم قبول له في دوائر النخب السياسية ودوائر الرأي العام السوداني لأدوار مستقبلية للرجل رغم عضويته في المجلس السيادي، خصوصًا في ضوء مؤهلاته العلمية المحدودة، والعسكرية المعدومة، فضلًا عن حيازته لعداء الإسلاميين الذين ما زالوا يمتلكون وسائل الإعلام السودانية، وذلك على خلفية دوره في إسقاط البشير. وفيما يتعلق بالمستوى الخارجي فإنه إقليميًّا من المتوقع تراجع نفوذه بعد سحبه لقواته من اليمن والتي تشهد ساحاتها تهدئة في محاولة للوصول إلى حلول سياسية، وأيضًا مع فقده للتمويلات المترتبة. أما على المستوى الدولي فإن عدم القبول به بسبب أدواره القتالية في دارفور والانتهاكات التي مارستها قواته لهو أمر تصرح به الإدارات الأوروبية والأمريكية.

وبطبيعة الحال، فإن التوازنات الحرجة المحيطة بحميدتي وطبيعة علاقاته بالقوات المسلحة السودانية حاليًا هي جزء من المهددات الراهنة للحكومة الانتقالية، ذلك أن أي صدام مع الرجل من جانب القوات المسلحة السودانية، أو القوى السياسية في ضوء الحساسيات والاحتكاكات الراهنة ستكون عواقبه وخيمة على السلم في البلاد، كما أن استبعاده كليًّا ستكون له انعكاسات على توازنات القوى داخل المعادلة السياسية الراهنة.

يبقى الرهان على محاولة احتواء حميدتي وقواته هو الخيار الأكثر أمنًا رغم ما قد يواجه هذا الخيار من رفض دولي، وهذا الاحتواء يعني إدماج قواته في الكليات العسكرية النظامية، تمهيدًا لتكون مؤهلة مؤسسيًّا للالتحاق بالقوات المسلحة السودانية، وربما السماح له بتكوين حزب سياسي مقابل أن تضع الدولة أيديها سلميا على مناجم الذهب التي تحت سيطرته لتدخل ضمن الموازنة العامة للدولة باعتبارها ملكية للشعب السوداني وحق له في موارده الطبيعية.

ب- التحدي الاقتصادي:

تشكل الضغوط الاقتصادية أهم التحديات الماثلة أمام الحكومة الانتقالية؛ ذلك أن مستويات تردي أحوال المعيشة اليومية للسودانيين غير مسبوقة، ذلك أن ٤٦٪ من السكان يعانون الفقر، كما أن 13٪ من السكان (5.7مليون نسمة) يعانون من العجز عن الحصول على احتياجاتهم الغذائية[1].

ونتيجة لتوقف الكثير من المنشآت الإنتاجية عن العمل في الفترة الأخيرة نتيجة للاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد، فقد زادت معدلات البطالة بشكل كبير كما شهدت البلاد حالة من الركود. ويقدر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ارتفاع البطالة في البلاد من 12% عام 2011 إلى 20% السنوات الأخيرة، بينما سجلت 27% عام 2018

وذلك في وقت تُجرى فيه المحاولات الراهنة من جانب أعداء الحكومة الانتقالية للتأثير سلبيًّا على احتياجات الشعب الرئيسية من وقود ومواصلات وغيره في محاولة لدفع الناس للتظاهر ضد هذه الحكومة ومن ثم إسقاطها قبل أن تتمكن من تفكيك النظام القديم بالكامل، وبالتالي يضمن الحرس القديم وجودًا سياسيًّا لهم عبر انتخابات مبكرة، وهي مصلحة قد تلتقي مع التكوينات الحزبية التاريخية التي تشعر بضخامة المنافسة مع أحزاب مدنية لا تستند على طوائف دينية صوفية.

وتبدو أيادي الحكومة الانتقالية مغلولة لمواجهة هذا التحدي الكبير، وذلك في ضوء عجزها عن الاستدانة من البنك الدولي لسد احتياجاتها العاجلة، والتي قدرها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بــ10 مليارات دولار[2]، وذلك نظرًا لعدم إقدام الإدارة الأمريكية على رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، كما أن رحلة رئيس الوزراء السوداني إلى الاتحاد الأوربي لم تسفر عن تقديم دعم ذي قيمة للاقتصاد السوداني؛ فهي أقل من مليار دولار، وذلك في وقت ينتظر فيه الجانب الخليجي أن تكون مساعداته في أطر دولية متفق عليها في مؤتمر للدول المانحة، وذلك بعد أن تم إهدار المليارات من المساعدات الخليجية في الإطار الثنائي من جانب نظام البشير.

وتبلغ الديون السودانية (54) مليار دولار منها (85%) متأخرات، وتضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة (15%)، ونادي باريس (37%) بجانب (36%) لأطراف أخرى، بجانب (14%) للقطاع الخاص[3].

وطبقًا لبيانات البنك الدولي -في تقريره المشترك مع وزارة المالية السودانية- فإن المتأخرات المستحقة للمؤسسة الدولية للتنمية بلغت (700) مليون دولار، بينما بلغت المستحقات لصندوق النقد الدولي ملياري دولار، وطبقاً للتقرير التقييمي للاستراتيجية المرحلية لخفض الفقر، فإن نسب الديون الخارجية بلغت (166%) من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بالحد البالغ 36%. وأكد التقرير التدهور في جميع المؤشرات بعد التراجع الكبير في إجمالي الناتج المحلي والإيرادات الحكومية[4].

ويبدو أمام الحكومة السودانية مهامٌّ جسامٌ لتجاوز التحديات الاقتصادية؛ منها إصلاح الخلل الهيكلي في النظام المصرفي، وهو أمر يتطلب تمويلًا نقديًّا سريعًا، لم تحصل الحكومة عليه بعدُ، كما تتطلب تطلعات رئيس الوزراء لتحويل الاقتصاد السوداني إلى اقتصاد منتج يتم تصنيع موارده الطبيعية يحتاج إلى تمويل استثماري كبير يتطلب تحقيق الاستقرار السياسي الشامل والمستمر.

ثانيًا: تحديات بناء الدولة

أ- ملف السلام:

ملف السلام في السودان هو ملف تاريخي سابق على الاستقلال؛ حيث برزت أول حرب بالجنوب في مدينة توريت عام ١٩٥٥، وتسببت في حرب أهلية ممتدة حتى عام ١٩٧٢، حيث عقد اتفاق سلام أديس أبابا، ولكن تم تقويضه بتمرد الزعيم الجنوبي التاريخي جون جارانج الذي بلور الحركة الشعبية لتحرير السودان، فامتدت الحرب الأهلية الجديدة حتى عام ٢٠٠٥ باتفاق نيفاشا، وهذا لم يمنع من تمرد الغرب على السلطة المركزية عام ٢٠٠٣ بسبب صراع على السلطة جرى بين البشير والترابي، انتهى بإزاحة الترابي عن مفاصل الدولة، كما أسفر اتفاق نيفاشا عن تمرد غير الملحقين به بعد استقلال جنوب السودان، فاستمر عبدالعزيز الحلو متمردًا في إقليم جبال النوبة، وأيضًا مالك عقار في ولاية النيل الأزرق، حيث انكسر تحالفهما قبل انهيار نظام البشير بعدة سنوات

١- أطراف عملية السلام:

يبدو المشهد السوداني معقدًا نسبيًّا فيما يتعلق بالأطراف المعنية بعملية السلام السودانية، وذلك لكثرة الانشقاقات في الحركات المسلحة من ناحية، وتعدد تحالفاتها ومواقفها السياسية من ناحية أخرى بحيث يجد المراقب من الخارج صعوبة في تحديد الأطراف وطبيعة ومواقفها، من هنا يكون من الضروري التعرض لرصد دقيق على جانب الحركات المسلحة، بينما الطرف الآخر سيكون الحكومة بطبيعة الحال.

طبقا للوثيقة الدستورية ومقولات رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، فإن السلام يقع على هرم انشغالات الحكومة السودانية، وقد تم تحديد فترة زمنية محددة لإحراز تقدم في هذا الملف، وبالفعل تم عقد اتفاق مبدئي بين كل المجلس السيادي والذي يملك صلاحيات رئيس الجمهورية، والجبهة الثورية في العاصمة الجنوب سودانية جوبا، وهذه الجبهة هي مكونة من ثلاث حركات رئيسية اثنتين منها دارفورية؛ هما حركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان برئاسة مني أركو ميناوي، بينما المكون الثالث هو الكوماندور مالك عقار المسيطر نسبيًّا على إقليم النيل الأزرق جنوب شرق السودان، هذا إلى جانب حركتي البجة وشرق السودان في شرق السودان، وحركة تحرير كوش في شمال السودان.

إلى جانب هذه الجبهة هناك عبدالعزيز الحلو -رئيس المجلس الانتقالي للحركة الشعبية شمال- والذي يسيطر على أجزاء من جبال النوبة في جنوب كردفان الواقعة في جنوب وسط دولة السودان الشمالي والذي كان ضمن تحالف مع عبدالعزيز الحلو وياسر عرمان فيما يسمى الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال.

وفي هذا السياق تم إبرام اتفاق إجرائي، اهتم بتحقيق خطوتين أساسيتين؛ هما إجراءات بناء الثقة بين الأطراف، ومنها إطلاق سراح كل المعتقلين أو المحكومين بأحكام سجن من عناصر الحركات الموقعة على الاتفاق المبدئي، وكذلك إلغاء قوائم الممنوعين من السفر، وفتح الممرات الآمنة للمساعدات الإنسانية لسكان المناطق التي تسيطر عليها الحركات المسلحة.

أما الخطوة الثانية فهي تأجيل تعيين ولاة الولايات في السودان في خطوة يمكن تفسيرها بأنها تعبد الطريق لقادة الحركات المسلحة[5]؛ ربما لأن يكونوا ولاة على مناطقهم، كعودة مالك عقار مثلًا على رأس ولاية النيل الأزرق، وكذلك عبدالعزيز الحلو في ولاية جنوب كردفان، وهي التي تنافس على توليها انتخابيًّا عام ٢٠١١، مع أحمد هارون ممثل نظام البشير، ولكنه خسر هذه الانتخابات التي وصفت بالمزورة.

أما الحركة التي لم توقع هذه الاتفاقية، كما لم توقع على إعلان الحرية والتغيير للثورة السودانية، هي حركة تحرير السودان الدارفورية، والتي يتزعمها عبدالواحد محمد نور قائد حركة تحرير السودان، والمستقر حاليًا في باريس، وهو الرجل الذي يرفض صيغة المجلس السيادي كونها مشتركة بين مدنيين وعسكريين، ويرى أن قوى الحرية والتغيير قد تم خداعها، وشاركت السلطة مع اللجنة الأمنية للرئيس المخلوع عمر البشير، وأن المركز أعاد إنتاج نفسه بالتحالف مستثنيًا قوى الهامش؛ أي: العنصر الزنجي من الشعب السوداني، وهي التي شاركت بفاعلية كبيرة في الثورة السودانية على مدى نصف العام تقريبًا.

٢- تحديات السلام وقضاياه:

على الرغم من زيارة رئيس الوزراء السوداني لمعسكرات النازحين بدارفور، واستقبال الرجل استقبالًا لم يحظ به الرئيس البشير، فمن غير المتوقع أن يكون التفاوض شأنًا سودانيًّا داخليًّا، ذلك أنه من المنتظر أن يشارك فيها الاتحاد الإفريقي، ومنظمة الإيجاد المعنية بالتنمية ومكافحة التصحر في دول شرق إفريقيا، وكذلك شركاء منظمة الإيجاد من المجتمع الدولي، وهي ترويكا مكونة من السويد والنرويج والولايات المتحدة الأمريكية.

ولعل هذه التركيبة الطويلة من الوسطاء والمسهلين يبررها تركيب وتعقيد قضايا السلام السودانية من ناحية، وطبيعة الالتزامات المالية المطلوب من الحكومة القيام بها كتعويضات مالية لأهالي دارفور عن الخسائر التي لحقت بهم على مدى أكثر من عقد، خصوصًا وأن سلام السودان واستقراره الداخلي مطروح منذ استقلال السودان عام ١٩٥٦، وكذلك اللجوء إلى تدويلها من جانب نظام البشير كآلية من آليات المراوغة، فضلًا عن أن ممارسات هذا النظام وما خلّفته من إبادة جماعية لفت أنظار العالم ودفعه للتدخل المباشر اعتبارًا من عام ٢٠٠٣.

وبطبيعة الحال لن تكون قضايا السلام السودانية مرتبطة بمجرد مصالحة سياسية أو حصول زعماء الحركات المسلحة على تمثيل سياسي، ولكنها سوف تمتد لتشمل إعادة هيكلة الدولة السودانية ذاتها، خصوصًا فيما يتعلق بالعلاقة الدستورية بين المركز والأطراف، ونصيب الأطراف من الثروة القومية.

في هذا السياق فرغم أن نظام الحكم في السودان نظريًّا هو نظام فيدرالي، إلا أن هذا النظام لم يتم الاتفاق عليه دستوريًّا أو تحدد مفاهيمه فبقي تنفيذ آلياته ضمن الإطار القانوني فقط، وهو ما جعل من السهولة بمكان للحاكم من المركز أن يغير القانون أو يخرج عليه، خصوصًا وهو يمتلك سلطة تسمية وعزل ولاة الأقاليم أو الولايات.

وطبقًا لهذه الخبرة السلبية فإن آليات أخرى للحكم الفيدرالي هي المطروحة في ذهنية الحركات المسلحة، وربما قادة المركز أيضًا، وذلك طبقا للنماذج العالمية؛ حيث إنه من المطلوب أن يقر هذا النظام دستوريًّا مع تحديد واضح لآلياته، وبهذا المعنى سيبقى حجم سلطة الأطراف هو المتفاوض عليه، حيث سيكون المركز في الأغلب مسؤولا عن العلاقات الخارجية والأجهزة الأمنية خصوصًا القوات المسلحة فقط، بينما يكون للأقاليم القدرة على الحفاظ على هويتها الذاتية، وتؤول إليها سلطات تشريعية وتنفيذية على المستوى المحلي متضمنة السلطات الأمنية، والأهم ما هو نصيب الإقليم في ثرواته؟ هل يحصل على غالبيتها أم مجرد نسبة بسيطة منها؟ وهو أمر سيكون بالغ الحساسية؛ وذلك لحاجة الدولة ككيانٍ إلى تمويل مشروعها في الإصلاح الاقتصادي الشامل، وأيضًا حاجة الأطراف إلى الحصول على جزء كبير من هذه الثروة ربما كتعويضات عن فترات المظالم، وأيضا لدعم أوزان الأقاليم في مواجهة المركز المتهم دائمًا بالاستيلاء على ثروات السودان التاريخية لنخبه السياسية في الوسط.

ج- الموقف من فلول نظام البشير

١- المشهد التاريخي:

تطور مهم تشهده الساحة السودانية حاليًا في ضوء الإقدام على القبض على رمزين إسلاميين كبيرين؛ هما علي الحاج الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي وهو رفيق الترابي وخليفته وإبراهيم السنوسي رئيس مجلس شورى ذات الحزب، وذلك ليس لإفساد الحياة السياسية أو ضلوعهم نسبيا في التخطيط لتمرد دارفور بعد مفاصلة البشير والترابي، أو مناصرة الرئيس البشير المخلوع، ولكن التهمة هي الانقلاب على النظام الدستوري عام ١٩٨٩، وتكييف الاتهام بهذا الشكل يؤشر بشكل واضح إلى استمرار الصراع التاريخي بين فصائل اليسار السوداني وبين الإسلاميين، والذي شهدت فصول منه أروقة البرلمان السوداني مرتين في خمسينات وستينيات القرن الماضي، وإن كانت المرة الثانية قد أسفرت عن حل الحزب وطرد أعضائه من البرلمان، حيث وقعت الحوادث الأولى في سبتمبر ١٩٥٦ وذلك بتحريض من جبهة الميثاق التابعة للإخوان المسلمين، وجرت الثانية عام ١٩٦٥ بدعم مباشر من حسن الترابي، وفي كلا الحدثين كان الاتهام أن الشيوعيين أنهم ملاحدة وكفار.

وبطبيعة الحال مثل هذا التطور ربما يقود إلى دخول الحكومة الانتقالية في صراعات كان يمكن أن تكون في غنى عنها لو تم تكييف الاتهامات تحت مظلة الفساد السياسي والمالي، وهو كثير، والأدلة عليه متعددة، وربما هذا ما يدفع رموزًا من النخبة السياسية السودانية من أصحاب الخبرة والتاريخ المشهود بضرورة إيجاد صيغ للتعايش السياسي مع بعض الفئات من الإسلاميين الذين لم يثبت عليهم فساد مالي أو سياسي.

وربما يكون من الضروري هنا أن نمايز ما بين أربعة مستويات من الفعل والحركة للإسلاميين السودانيين؛ الأول: هو لتنظيم الجبهة القومية الإسلامية ونخبه السياسية، وخطابات هؤلاء المعلنة، أصبحت حذرة بعد النجاح في الإطاحة بالبشير.

 أما المستوى الثاني فهو التنظيم السري للجبهة، والذي مارس أعمالًا عنيفة تصل إلى درجة الاغتيال الممنهج، وهو التنظيم الذي أعلن عن وجوده وجاهزيته علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية لفترة غير قليلة والمحبوس حاليًا.

أما المستوى الثالث فهو حزب المؤتمر الشعبي الذي تزعمه الترابي حتى عام ٢٠١٦، وحركة الإصلاح التي يتزعمها غازي صلاح الدين أحد تلاميذ الترابي الذي خرج عن طاعته في مذكرة العشرة ضده عام ١٩٩٩، والذي خرج عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم عام ٢٠١٣ على خلفية سقوط ٢٠٠ قتيل في الاحتجاجات الشعبية ضد النظام وقتذاك.

وفيما يخص الجماعات السلفية فإنها تحوز على ١٠% تقريبًا من الخريطة الدينية للسودان والتيارات التي تكفر الحكام والمجتمع منهم، وهي محصورة في مناطق قليلة ومتباعدة مثل منطقة (أبو قوتة) في ولاية الجزيرة، ومنطقة (الفاو) شرق السودان، وبعض الجيوب الصغيرة في الدمازين ومنطقة كوستي، بالإضافة إلى تواجد في العاصمة[6]. وإلى وقت قريب، كانت السلفية السودانية محصورة في جماعة أنصار السنة المحمدية إلى أن أتت موجة ما يعرف بالأفغان العرب، وتوافدت هذه المجموعات، ومن بينهم أسامة بن لادن، للاستقرار في السودان في بداية التسعينيات مع انتهاج البشير ما يعرف بسياسة الباب المفتوح.

وبطبيعة الحال لا يعني هذا التمايز بين المستويات الأربعة من الإسلاميين السودانيين غياب حالات من التفاعل بينهم تساهم في بلورة موقف كل فريق إزاء الآخر، وإزاء المعادلة السياسية المتحركة في السودان راهنًا.

٢- الإسلاميون والثورة السودانية:

مارس الجهاز السري للجبهة القومية الإسلامية العنف ضد الحراك الثوري السوداني في محاولة لتطويقه، حيث تحرك للجبهة للاعتداء على المتظاهرين في المواكب المختلفة اعتبارًا من مطلع العام الحالي، وذلك في سيارات بدون أرقام ومارسوا اغتيالات منهجية ضد بعض الشباب من اليسار خصوصًا، كما اعتدوا على المعتصمين في محيط القيادة العامة للجيش السوداني اعتبارًا من ليلة ٧ إبريل، منطلقين من بناء تحت التأسيس يسمى مدينة البشير الطبية، وحتى سقوط البشير في ١١ إبريل. 

 ولقد برز دور الجهاز العسكري السري بشكل واضح في وأد الهبّة الشعبية في سبتمبر من العام 2013 رفضًا لقرارات رفع الدعم عن المحروقات، فتصدى الجهاز السري للمتظاهرين وأطلق عليهم الرصاص الحي، ما أدى إلى مقتل أكثر من 200 سوداني[7].

وإذا كان جهاز الاستخبارات العسكرية السودانية -بعد نجاح الحراك الثوري- قد نجح في إلقاء القبض على عدد كبير من عناصر هذا الجهاز، والكشف عن أوكاره وأماكن تخزين أسلحته فإن أطياف الإسلاميين السياسية ما زالت فاعلة على الساحة السودانية، خصوصا وأنها تملك مفاصل الدولة على المستويين الاقتصادي والبيروقراطي.

وفي محاولة لتفكيك مشهد الإسلام السياسي في السودان لا يمكن إنكار أن القواعد الشبابية للإسلاميين السودانيين، في حزب المؤتمر الشعبي الذي تزعمه د. حسن الترابي حتى عام ٢٠١٦ قد شاركوا في الحراك الثوري وانخرطوا في المواكب الجماهيرية وقت قمع النظام لها بدليل سقوط شهداء لهم في هذه الأحداث، خصوصًا وأن هذه القواعد الحزبية كانت تطالب بفكّ التحالف مع حزب المؤتمر الوطني قبل ثورة السودانيين، ورغم ذلك لم ينخرط كل من حزب المؤتمر الشعبي أو حركة الإصلاح في إعلان تحالف الحرية والتغيير الذي تم في ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ بطبيعة الموقف الشعبي العام والمعادي لكل ما هو مرتدٍ عباءة الإسلام السياسي.

٣- الإسلاميون والمستقبل:

بلورت الجبهة القومية الإسلامية وحلفاؤها في دوائر الحكم ودوائر الحزب الحاكم موقفًا بأن يكون وزنهم في المعادلات مؤثرًا، حتى يستطيعوا أن يكونوا جزءًا من المستقبل، وذلك حمايةً لمصالح الجبهة الإسلامية السياسية والاقتصادية، وحينما فشلوا في فضّ الاعتصام طرحوا الفريق عوض ابن عوف وزير دفاع البشير ليعلن تنحي البشير ويترأس مجلسًا عسكريًّا مؤقتًا، ولكنهم فشلوا أيضًا في هذه الخطوة، التي لم تدم أكثر من ٢٤ ساعة، حيث صعد الفريق عبدالفتاح البرهان ليقود المشهد حتى تكوين المجلس السيادي في أغسطس الماضي.

ولكن هذا الفشل المؤقت ربما لم يمنعهم بعد ذلك من الضغط على المجلس العسكري للارتداد عن اتفاقاته الأولى مع تحالف الحرية والتغيير قبل فض اعتصام القيادة العامة في يونيو الماضي، وذلك بشأن هياكل الفترة الانتقالية ونسبة تحالف الحرية والتغيير في المجلس التشريعي المنوط به تغيير النظام السياسي السوداني، حيث تراجع المجلس العسكري عن نسبة الـــ٦٧٪ المتفق عليها.

ولكن ثلاثة متغيرات ساهمت في إضعاف موقف الإسلاميين في المشهد السياسي؛ اثنان منهما داخليان، والثالث إقليمي مدعوم دوليًّا؛ المتغيران المحليان هما طبيعة مساهمتهم في فضّ اعتصام القيادة العامة، وحدود اتفاقهم مع قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو حميدتي في هذه العملية، وهو أمر سيكون محل تحقيقات في الفترة القادمة، أما المتغير المحلي الثاني فهو طبيعة مساهمة عناصرهم في القوات المسلحة السودانية في تدبير انقلابات ضد المجلس العسكري، وهو ما أعلن عنه المجلس العسكري مرتين، وترتب عليه تغيير وإطاحة بقيادات في مؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية، حيث شكلت المحاولة الثانية في يوليو الماضي نقلة كيفية في علاقة الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي والنخب الإسلامية من كافة الأطياف، وذلك بعد أن أعلنت القوات المسلحة السودانية كشفها محاولة انقلابية، شارك فيها رئيس الأركان المشتركة الفريق أول ركن هاشم عبدالمطلب أحمد، وعدد من ضباط القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني برتب رفيعة، وهو ما ترتب عليه اعتقال عدد من القيادات الإسلامية، وبينهم أمين حسن عمر، وسيد الخطيب القياديان بحزب المؤتمر الوطني، وكذلك علي كرتي وزير الخارجية الأسبق، والزبير محمد الحسن الأمين العام لتنظيم الحركة الإسلامية.

أما على المستوى الإقليمي فقد شكل فضّ اعتصام القيادة العامة مع ما أحاط به من عمليات قتل واغتصاب مدخلًا مناسبًا لتحرك كل من الاتحاد الإفريقي وإثيوبيا لرأب صدع عميق بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير، وهو الصدع الذي أسفر عن توقف التفاوض بين الطرفين وهدد بانفلات الموقف في السودان، البلد صاحب الموقع الجيوسياسي المؤثر على أمن ثلاث دوائر في المنظومة الإقليمية؛ منها حوض النيل والبحر الأحمر والساحل والصحراء، وهو ما يعني تضررًا غير مسموح به في الإقليم.

وفي ضوء تصاعد التوتر بين مكونات إعلان الحرية والتغيير وبين الإسلاميين فربما يكون من المتوقع حلّ تنظيم الجبهة القومية الإسلامية في محاولة لتحجيم قدراتهم في اللعب على التوازنات الداخلية بين المكون العسكري والمكون المدني في المجلس السيادي، وأيضًا الضغط على الحكومة الانتقالية، أو محاولة تعويقها كما هو جارٍ الآن بالخرطوم.

إجمالًا، فإن الحفاظ على الاستقرار في السودان وتحسن مستوى الأحوال المعيشية هو مسئولية إقليمية ودولية قد يستطيع القيام بها مؤتمر أصدقاء السودان، الذي يراهن عليه الجميع، ذلك أن فشل هذه الصيغة ربما يكون غير مسموح بها في ضوء الأثمان المتوقعة لعدم استقرار السودان وانعكاساتها على الأمن الإقليمي كليًّا، والأمن الدولي جزئيًّا.


[1]– عمرو خليل التحديات الاقتصادية أمام الحكومة الانتقالية، المركز العربي للأبحاث، متاح على:

www.http;\\acrseg.org

[2]

www.http:\\Abdalaa Hamdouk available on :Exclusive: Sudan needs up to $10 billion in aid to rebuild economy, new PM says – Reuters

[3]– بيان للبنك الدولي متاح على:

https://alsudanalyoum.com/sudan-news/economy/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%8A%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%B9%D9%86-%D8%AD%D8%AC%D9%85-%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF/

[4]– المرجع السابق

[5]– نص الاتفاق متاح على:

https://www.google.com.eg/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=18&cad=rja&uact=8&ved=2ahUKEwiZ3qWejYDmAhVoShUIHbcrA0cQFjARegQIBBAB&url=https%3A%2F%2Fwww.altaghyeer.info%2Far%2F2019%2F09%2F26%2F%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AB%25D9%2588%25D8%25B1%25D9%258A%25D8%25A9-%25D8%25AA%25D9%2583%25D9%2585%25D9%2584-%25D8%25A7%25D8%25B3%25D8%25AA%25D8%25B9%25D8%25AF%25D8%25A7%25D8%25AF%25D9%2587%25D8%25A7-%25D9%2584%25D9%2584%25D8%25AA%25D9%2581%25D8%25A7%25D9%2588%25D8%25B6-%25D9%2586%25D8%25B5-%25D8%25A7%25D9%2584%2F&usg=AOvVaw0o9z6gnwAUD9otYY2bSs6x

[6]– التيارات السلفية في السودان، ورقة سياسيات، مركز التقدم العربي، متاحة على:

[7]– تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن بشأن النزاع المسلح في السودان، متاح على:

https://undocs.org/pdf?symbol=ar/S/2017/191