كتبت علياء عصام الدين

من قلب القارة الأكثر إلهامًا على الإطلاق، بتراثها الفريد وفنونها المتنوعة وتقاليدها وشعائرها المبهرة، انطلقت أولى كلمات الحكمة، فقد كان للسان الأفريقي النابض بكل مقومات الحياة السبقُ في خلق أثمن الحكم والأمثال، لاسيما تلك الممزوجة بالسخرية والتي تجعل من المثل ثقافةً شفاهيةً راسخةً في الذاكرة لا يمكن أن يمحوها غزو أو تسقطها حداثة.

اعتمد فن الحديث عند الأفارقة بشكل كبير على الأمثال؛ فلا يكاد يخلو جدل أو حديث عندهم من مثل يعكس علم المتحدث وخبرته، وغالبًا ما يتم الاكتفاء بذكر نصف المثل ليترك النصف الآخر للسامع ليكمله، الأمر الذي يعكس مدى أهمية المثل في الثقافة الأفريقية؛ إذ يعبر عن مدى حكمة هذه الشعوب وخبرتها وسعة خيالها.

الطبيعة منبع للحكمة

إن أردت أن تفهم أصل الكون وجوهر الطبيعة فما عليك إلا الرجوع إلى الأمثال الأفريقية، فقد استطاعت الأمثال والحكم الأفريقية أن تجد لها مكانًا راسخًا في الذاكرة البشرية وعكست جغرافيةَ القارة السمراء، واستطاعت أن ترسم ببراعة ملامح تجلياتها وأدق تفاصيلها.

من الطبيعة الأم انطلقت الأمثال، من قلب القارة السمراء، لتنهل من فيضها اللامتناهي بعضًا من الحكمة، متخذةً من عالم الحيوان رافدًا أساسيًّا لها ومجازًا سلسًا ومستحبًّا، غذًت به أفريقيا العالمَ أجمع بسلسلة مبدعة من الأمثال والحكم والمقولات المحببة والممتعة التي انتشرت وأصبحت متداولة جيلًا بعد جيل.

الحيوان مصدر للإلهام

يجمع بين الإنسان والحيوان في أفريقيا علاقة فريدة من نوعها؛ فالحيوانات كانت شريكة رئيسية للإنسان الأفريقي في حياته، واكتسبت قدسية خاصة لديه؛ حيث ترسخت في مسامات وعيه بوصفها أساسًا لكل فكرة ذات معنى ورسالة يراد إيصالها.

فالحيوانات على اختلافها تشاركه الأرض والغذاء منذ القدم، بفعل الارتباط الوجداني تارة والبيئي تارة أخرى، حتى أصبحت علاقة الإنسان الأفريقي بعالم الحيوان علاقة عضوية لا يمكن فصلها.

انطلق الأفريقي ينهل من معين عالم الحيوان الناضح بالتفاصيل؛ ليوظفها ويستحضرها بسلاسة على شكل صور وتشبيهات تشير إلى معانٍ حكيمة وملهمةٍ وذات مغزًى.

وعبر شخصنة الحيوانات واستغلال الطبيعة -بما فيها من غابات وصحارى وأنهار وبحار- أتقن الإنسان الأفريقي فن الكلام، وبرع في استخدامه بذكاء، لينقل به أفكاره وينشر من خلاله المعرفة ويسدي به نصيحة أو يطرح موعظة يوصل بها رسالة ما.

وحول استحضار الحيوان في الأمثال الأفريقية يقول رئيس قسم اللغات الأفريقية بجامعة “ياوندي” بالكاميرون “أدمويند بيلووا”: في ثقافاتنا اعتدنا الاعتماد على الحيوانات كمرجعية؛ فهي تقاسمنا حياتنا اليومية، فنحن نشخصها في أمثالنا لنرسم صورة أكثر وضوحًا يمكن تقريبها للإنسان”.

إن التعبير عن سلوكيات الإنسان -مثل الصبر والحسد والطمع والجبن- ووصف المشاعر كان أكثر سهولة بالنسبة للإنسان الأفريقي باللجوء إلى أقرب الأمثلة التي حوله وما تطرحه هذه البيئة بنماذجها اللانهائية من مساحات شاسعة، يمكن تشكيلها وتوليفها وفقًا لرؤيته وتصوراته.

في رحاب الأمثال الأفريقية

ومن بعض الأمثال الأفريقية التي اتخذت من الحيوانات مرجعًا لها (المثل الكيني) القائل: “لا يمكن أن تتعلق جميع القرود بالفرع نفسه”، و”من يزعج الدبابير عليه أن يجيد الركض” (مثل سنغالي)، “قبل أن تتهكم على التمساح اعبر النهر أولًا” (مثل كونغولي) “لا تتواصل مع كلب وأنت تحمل +صوتًا+ في يدك” (مثل سوداني) “إذا تبعك النحل فهذا لا يعني أنك أكلت عسلًا” (مثل غابوني).

ويقول المثل (الجنوب أفريقي): “حتى النملة يمكن أن تؤذي فيلًا”، ويقول (مثل إثيوبي): “الفيل لا يعرج إذا مشى على الأشواك”.

ونقرأ ايضًا: “صلاة الدجاج لا تؤثر على الصقور”، “الطريقة التي يُعبر بها الحمار عن امتنانه هي منح شخص ما مجموعة من الركلات”، “امشِ وحيدًا إن أردت أن تكون سريعًا، وامشِ مع فريق إن أردت أن تصل بعيدًا”، “الدجاجة التي تملك فراخًا لا تأكل الدود”، “عندما تتقاتل الفيلة يتضرر العشب”، “لا تنطلق في رحلة باستخدام حمار شخص آخر”.

“يبثّ الفهد الرعب حتى إن فقد أنيابه”، “من لدغ من الثعبان خاف من اليرقة” و”الرجل بلا امرأة كسلحفاة دون قوقعة”.

“الحقيقة مثل قصب السكر حتى لو قمت بمضغها لفترة طويلة ستظل حلوة”، “الكلمات مثل البيض عندما تفقس فإنها تصبح بأجنحة” ، “الناس كالنباتات في مهب الريح ينحنون وينهضون مرة أخرى”، “أولئك الذين يعرفون كيفية السباحة هم الذين يغرقون”.

السخرية أيضًا ظلت حاضرة بقوة في المثل الأفريقي، ومن الأمثلة على هذا المثل الإثيوبي القائل: “القرد الذي لا ينظر إلى مؤخرته يسخر من القردة الآخرين”، و”نقيق الضفادع لن يعيق الفيل عن الشرب”، كذلك المثل القائل: “جميع القطط تنبش في القمامة لكن المتهورة منها هي التي تسقط داخلها”.

ولم تغب الطبيعة أيضًا عن الأمثال الأفريقية، ومن أمثلتها: “إذا كانت الشجرة لا تعرف كيف ترقص فستعلمها الرياح” و”البحار الهادئة لا تصنع البحارة الماهرين” و”حتى لو لم يصح الديك ستشرق الشمس”، “في الغابة تتخاصم الأشجار بأغصانها، وتتعانق بجذورها”.

ويظل المثل في الثقافة الأفريقية هو السبيل للوصول إلى الحقيقة المفقودة، فهو حصان الكلمات، وزهرة اللغة، وسبيل الحكماء، ورغم التخوف من اندثار الأمثال في عدد من المناطق الأفريقية إلا أن طبيعة المثل الأفريقي التي ترتبط بالأصل والموروث الثقافي المقدس ساهمت -وستساهم- في أن يبقى حيًّا تتناقله الأجيال مشافهة جيلًا بعد جيل.