كتبت – أماني ربيع

جزيرة صغيرة وسط زرقة المحيط الخلابة، تبدو وادعةً ووجهةً سياحيةً مثاليةً لمحبي الهدوء والعزلة، يبدو موقعها الجغرافي مميزًا فهي رابطٌ بين الشمال والجنوب وبوابةٌ على المحيط الأطلسي، وأقرب نقطة من أفريقيا إلى الأمريكيتين، ولحظها السيئ، وقعت ضحية للجغرافيا التي حملتها إلى المصير الأسود، حيث شهدت الجزيرة تجربة وحشية غير مسبوقة لا زالت تؤنب الضمير العالمي إلى الآن.

ورغم عزلة المكان فالجدران ثرثارة محملة بصرخات المعذبين ممن اقتلعتهم أيادي الوحشية من أكواخهم البسيطة وحياتهم الهادئة لترسلهم إلى المجهول، البيوت والشوارع والساحات تعيد سرد المأساة بطريقتها الخاصة.

 إنها جزيرة “جوريه” السنغالية محطة انطلاق المواطنين الأفارقة إلى مكان لن يصبحوا فيه مواطنين ولا بشرًا، سيصبحون “رقيقًا” بلا هُوية ولا حقوق ولا شيء على الإطلاق، وعلى صغر مساحة هذه الجزيرة الذي لا يتعدى 27 هكتارًا، فتاريخها المؤلم يترك على من يراها انطباعًا مُقبِضًا ودائمًا.

ذكريات وحشية

على بعد 3.5 كيلو متر قبالة سواحل داكار في السنغال تقع الجزيرة -التي شكّلت منذ القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر- المركز التجاري الرئيسي لتجارة الرقيق في الساحل الأفريقي الغربي، توالت سيطرة الدول المستعمرة عليها بدءًا من البرتغال وهولندا إلى إنجلترا وفرنسا، تبدو عمارة هذه الجزيرة متناقضة تناقض أحوال قاطنيها في تلك الحقبة التعيسة، فبين فخامة منازل تجار الرفيق تبدو جحور العبيد موحشةً ومظلمةً، ورمزًا لاستغلال البشر بعضهم بعضًا.

قَدَّرت الإحصائيات الذين نقلوا من هذه الجزيرة بنحو 60 مليون، تم شحنهم في ظروف غير آدمية إلى أوروبا والعالم الجديد واستطاعوا الوصول أحياء، لكن هناك ملايين من المنسيين الذين لقوا حتفهم، والمصابين والمرضى الذين أُلقي بهم إلى الماء وهم أحياء، واحتضنهم المحيط ليخلصهم من العذاب إلى الأبد.

كانت ” Gorée”جوري، مركزا استراتيجيًّا للنفوذ الاستعماري، بدءًا من وصول البرتغاليين عام 1444، تلاهم الهولنديون عام 1617 الذين غيروا اسمها من “سينيجامبيا” إلى ” Goede Reede” بمعنى الميناء الجيد والذي أصبح اسم الجزيرة إلى الآن، كان للجزيرة قيمة استراتيجية كبيرة جعلتها مطمعًا للعديد من القوى الاستعمارية، وفي عام 1677 احتلها الفرنسيون، ثم حدث نزاع عليها بين الفرنسيين والبريطانيين انتهى بموجب معاهدة إميان عام 1802، لتصبح ملكًا للفرنسيين حتى استقلال السنغال عام 1960.

منح موقع ” Gorée”جاذبية تجارية، فهي بوابة تصدير سلع غرب أفريقيا، مثل الفول السوداني وشمع النحل والحبوب إلى أوروبا والأمريكتين، ومع ذلك فإن أشهر سلعة كان يتم تصديرها عبر “Gorée” كانت: الرقيق.

كانت الجزيرة هي النقطة الأخيرة التي يتم نقل الرقيق من خلالها إلى أوروبا والأمريكتين، حيث تتم مقايضتهم بالبضائع ثم يتم ترحيلهم عبر باب” اللاعودة” الذي يقع في الجهة الخلفية لمنزل العبيد المطل على المحيط الأطلسي.

كان الأفارقة البائسون يتم حبسهم فيما يعرف بمنزل الرقيق “Maison Des Esclaves” الذي بُني عام 1776، يمكثون فيه قبل ترحيلهم، ضمت الجزيرة 28 منزلًا للعبيد اختفى معظمها وتحول إلى منازل خاصة ولم يبق إلا بيت واحد حافظ على الذكرى الوحشية.

في الطابق الأرضي من المنزل كانت توجد عنابر الرجال حيث الرقيق من الذكور يلقون من 15 إلى 20 شخصًا في غرفة 2.6 متر في 2.6 متر، بالإضافة إلى عنبر للمتمردين بسقف لا يتجاوز 0.8 متر كوسيلة للتأديب، ويتم وضع النساء والأطفال في عنابر منفصلة، يجلس الجميع ظهورهم للحائط مقيدين بالسلاسل حول الرقبة والذراعين، يحررون مرة واحدة في اليوم للذهاب إلى الحمام، ينتظرون في تلك الغرفة الخانقة لـ3 أشهر، في ظروف غير صحية، حتى إنه ذكر أن وباءً كبيرًا اجتاح الجزيرة في القرن الثامن العشر بَدَأَ من هذه الغرف.

وبعد الانتظار يتم إخراج الرقيق من الزنازين للتجارة، يجردون من ملابسهم ويجمعون في الفناء وسط المنزل، ويقف المشترون مع التجار في الشرفة المطلة على البناء لمراقبة العبيد أثناء تفاوضهم على الأسعار.

البيع والشراء يتم بالمقايضة مع مختلف أنواع البضائع حسب الحجم وقدرة الجسم على التحمل، ولكل مجموعة عرقية سعر محدد، كان يتم فرزهم كالبضائع وليس كبشر، ووفقًا للمؤرخين فأغلى العبيد كانوا الذين ينتمون إلى اليوروبا من نيجيريا؛ لأنهم نشطون وأقوياء يصلحون للعمل في مزارع القطن، بعد ذلك يتم نقل العبيد المختارين عبر الممر إلى باب اللاعودة، الذي يقع في الجزء الخلفي من المنزل ويطل على المحيط الأطلسي، حيث رصيف مصنوع من خشب النخيل أمامه السفينة التي تنتظر اصطحاب الأفارقة عبر المحيط حيث لن يعودوا إلى أفريقيا أبدًا.

وأحيانًا كان يتم إحضار أسرة بأكملها إلى الجزيرة، يفصلون عن بعضهم في عنابر بيت العبيد، وعندما يأتي وقت الشحن يذهب الأب إلى أمريكا والأم إلى البرازيل والابن أو الابنة إلى جزر البحر الكاريبي.

وعلى الرغم من تصوير تجارة الرقيق باعتبارها جريمة قام بها الرجل الأبيض إلا أنها تمت بالفعل بموافقة الزعماء الأفارقة، واستفاد هؤلاء الزعماء وذووهم كثيرًا من هذه التجارة.

بوابة اللاعودة

واليوم أصبح كل زائري لـ”Gorée” لا يفوتون الفرصة لزيارة باب اللاعودة الموجود في المنزل الوحيد المتبقي من منازل الرقيق بتصميمه الأصلي وبابه الذي لا يزال مفتوحًا على المحيط؛ حيث انتقل الملايين على متن السفن إلى مصيرهم، كان أي شخص يعبر هذا الباب يعلم أنه لن يعود إلى أفريقيا أبدًا، كان بوابة العبودية إلى أمريكا وأوروبا، حتى محاولات الهروب كانت تبوء بالفشل فالمياه عميقة تعرض من يقفز لغرق محتم، ومليئة بأسماك القرش؛ لذا فالنجاة سباحة شبه مستحيلة.

وسهّلت مساحة الجزيرة الصغيرة السيطرة على من تم استرقاقهم، تقع الجزيرة على بعد 3 كيلومترات (ما يقرب من ميلين) قبالة الساحل السنغالي، وحجمها الصغير سهّل على التجار السيطرة على أسرهم. المياه المحيطة عميقة لدرجة أن أي محاولة للهروب من شأنها أن تضمن الموت غرقًا، وكان يتم ربطهم من أقدامهم بكرات معدنية بثقل 5 كجم، لذا فمن يقفز سيأخذه الثقل إلى الأعماق.

استمرت عملية شحن الرقيق من”Gorée” منذ أطلقها البرتغاليون عام 1536 حتى أوقفها الفرنسيون بعد 312 عامًا سنة 1848، وكانت تجارة رابحة وفيرة تقاتل عليها البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون والبريطانيون.

ألغت فرنسا العبودية مرتين: أول مرة بعد ثورة 1794 ثم مرة أخرى عام 1815، لكن لم تتوقف هذه الممارسة في مستعمراتها ولم تكن تجارة الرقيق حتى عام 1848 محظورة في السنغال.

في السنوات التي تلت ذلك، تحولت Gorée إلى التجارة الشرعية، حيث امتلأت منازل الرقيق بالفول السوداني والعاج، لكن تأسيس داكار عام 1857، أدى إلى انخفاض أهمية الجزيرة.

وفي عام 1872، أصبحت أول بلدية على الطراز الغربي في غرب أفريقيا، مع رئيس البلدية منتخب ومجلس بلدي، حيث منحتها فرنسا وضع البلدية، وفي عام 1929 تم ضمها إلى داكار وما زالت حتى يومنا هذا واحدة من 19 بلدية.

أدرجت الجزيرة كموقع تاريخي من قبل الإدارة الاستعمارية عام 1944، وتم إقرار تدابير حماية لمحتوياتها عام 1951، حيث تم حظر بناء أي أبنية جديدة للحفاظ على أصالة المكان وتاريخه، وهو الأمر الذي حافظ على مكونات الجزيرة الرئيسية سليمة تقريبًا إلى الآن، وتم إنشاء لجنة حماية عام 1979 للحفاظ على سلامة الممتلكات وترميمها، حتى أدرجها اليونيسكو ضمن التراث العالمي عام 1978.

كانت العبودية مجازة من قبل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي قسمت العالم في القرن الخامس عشر العالم لنصفين، منحت إسبانيا الحق في استعمار العالم الجديد بحثا عن الأرض والذهب، ومنح البابا نيكولاس الخامس البرتغال عام 1455 مرسومًا بابويًّا أعطاها احتكارًا للتجارة في غرب أفريقيا وتضمن الحقوق الممنوحة للبرتغال بموجب المرسوم الحق في غزو ونهب واستغلال الأشخاص في عبودية دائمة، كان هذا وراء أكبر هجرة قسرية في العالم.

وشكّل الأطفال نحو 26% من تجارة الرقيق، الذين كانوا ينقلون في ظروف غير آدمية يعانون من ارتفاع درجة الحرارة والعطش والجوع والعنف والعمل الإجباري، ونحو 15% من الرقيق على متن السفت يموتون قبل وصولهم إلى اليابسة.

كان الإتجار بالبشر عبر البحر المتوسط أمرًا شائعًا لكن الاستعباد لم يكن قائمًا على العرق، ووفرت تجارة الرقيق قوة سياسية ومكانة اجتماعية وثروة للكنيسة وللدول الأوروبية ومستعمرات العالم الجديد، كما سمح المال الذي جناه رجال الأعمال عن طريق تجارة الرقيق على مستوى العالم بتأمين مواقف سياسية وتحديد مصائر أممهم.

وفي عام 1662 صدر قانون فرجينيا الذي ينص على أن وضع الطفل يتبع وضع الأم، ما يعني أن النساء المستعبدات من أصل أفريقي أنجبن أجيالًا من الأطفال الذين يُنظر إليهم كسلع.

ورغم أن الأفارقة الذين تم جلبهم إلى الأمريكتين يمثلون مناطق ومجموعات إثنية مختلفة، ووصلوا خالي الوفاض من أي شيء يملكونه، إلا أنهم حملوا معهم ذكريات أحبائهم ومجتمعاتهم والقيم الأخلاقية والبصيرة الفكرية والمواهب الفنية والممارسات الثقافية والمعتقدات الدينية والمهارات المختلفة، وساهمت هذه الذكريات في خلق ممارسات جديدة تتخللها ممارسات قديمة داخل بيئتهم الجديدة.

تحول “باب اللاعودة” لدى مواطني الشتات الأفريقي إلى باب العودة إلى الماضي كانت بوابة للتواصل مع التراث والتاريخ الخاص بهم.

وحين يزور غريب الجزيرة، لا تستغرب إن وجدت البعض يطلبون منه الصمت والإنصات بتمعن ليسمع أنين من تم استعبادهم، يقولون: إن الأصوات لا تعلو إلا في الفجر، حيث كان يتم ترحيل الآلاف عبر البحر عندما تعلو الأمواج التي ابتلعت الملايين في طريق السفر الطويل، ينساق الزائر وراء الحكاية خاصة وأن الطاقة في بيت العبيد لا توصف، كما يؤكد الكثيرون، يقولون إنه شعور لن تعرفه حتى تكون واقفًا في نفس المكان بالضبط الذي وقف فيه الآلاف، وربما الملايين من الرقيق، كل هذا يجعل الأصوات ترن في أذن الزائر بينما هي منبعثة من داخله.

البعض يشكك في حقيقة الأرقام ويعتبر أنها يشوبها بعض المبالغة، وأن مشاركة الجزيرة في تجارة الرقيق كانت بسيطة، وربما لم تكن جزءا من هذه التجارة على الإطلاق، خاصة أن هناك مناطق أخرى مثل جنوب أفريقيا كانت أيضًا محطة لنقل الرقيق إلى الأمريكيتين.

محج عالمي

الجزيرة اليوم أصبحت “محجًّا” عالميًّا ورمزًا للاستغلال البشري وهي الآن تابعة للعاصمة داكار، يعيش فيها نحو 1300 شخص، 80% منهم مسلمون والباقي مسيحيون، والعمدة مسيحي، الجزيرة هادئة إلى درجة لا تصدق، وتنتشر أزهار البوجانفيليا المزهرة على جدران المنازل، لا توجد جريمة، والجميع يمشي على قدميه، فلا توجد سيارات حيث منعت السلطات السنغالية السيارات في الجزيرة حفاظًا على أماكنها التاريخية في ظل صغر حجمها، ويتم الاستعانة بالحمير التي تجر العربات.

ورغم الماضي المظلم فسكان “Goree” يعيشون حياة طبيعية ويتسمون بتسامحهم وانفتاحهم، ويقال: إن الذين يزورون “Goree” يتصرفون كما لو كانوا حجاجًا في مكان مقدس، ومعظم الزوار لا يقضون الليل في الجزيرة لأنه لا يوجد سوى فندق واحد فقط.

وحسب روايات السكان المحليين هدمت غالبية المنازل التي يحتجز فيها الرقيق وتم الإبقاء على منزل واحد تحول إلى ما يشبه المتحف الصغير، يتشكل من عنابر احتجاز، وغرفة خاصة بالأطفال، وتوجد فيه أسلحة وقيود للأيدي والأرجل ووسائل تعذيب بدائية.

وأمام هذا البيت ينتصب تمثال “حرية الرقيق” الذي يمثل فتاة أفريقية تعانق فتى أفريقيًّا يكسر قيوده ويرفع رأسه نحو السماء القيود، والتمثال من نحت الفنان جوادولوبو من جزر المارتينيك عام 2002، تحت التمثال توجد طبلة كبيرة، وهي رمز للطبول التي كان يتم الضرب عليها لاجتذاب الأفارقة من مخابئهم في الغابات فيتم اختطافهم وحملهم إلى الموت أو الاستعباد.

أثناء زيارته إلى “Goree” عام 1981، قال ميشيل روكار، رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق: “ليس من السهل على رجل أبيض، بكل صدق، زيارة منزل العبيد والشعور بالراحة”.

وزار البابا يوحنا بولس الثاني الجزيرة عام 1992 وطلب الصفح، نظرًا لأن كثير من المؤرخين تحدثوا عن دور المبشرين الكاثوليك وتورطهم في تجارة الرقيق.

كما زارها رئيس جنوب أفريقيا السابق نيلسون مانديلا عام 1991، قبل 3 سنوات من انتخابه رئيسًا، وكذلك فعل عدة رؤساء أمريكيون منهم جورج بوش وبيل كلينتون وأوباما الذي زارها مع زوجته عام 2013، وألقى خطابًا مؤثرًا حول حقوق الإنسان.

ورغم تاريخ العبودية تستخدم “Goree” كمثال للتصالح، وكطريقة لوضع الماضي في الماضي تحولت معظم بيوت العبيد إلى مؤسسات مختلفة، فمثلا كلية الطب بالجزيرة هي منزلًا سابقًا للعبيد، كذلك في الجزء الشمالي من الجزيرة توجد مدرسة ثانوية للإناث. تستضيف أفضل 200 تلميذة يتم اختيارهن في جميع أنحاء السنغال ومعظمهن يتقدمن إلى جامعات مرموقة مثل أكسفورد وهارفارد.

وعلى الجزيرة أيضًا واحدة من المؤسسات التعليمية الرائدة هي مدرسة ويليام بونتي التي تأسست عام 1903، التي تخرج منها كوادر في مختلف المجالات من معلمين وأطباء ساهموا في تغيير وجه أفريقيا، ويطلق عليها مدرسة القادة حيث خرج منها عدد من الرؤساء الأفارقة، مثل الرئيس الراحل لساحل العاج فليكس هوفوت بوني، وموديبو كيتا أول رئيس لجمهورية مالي، وحماني جوري أول رئيس لجمهورية النيجر، ومامادو جاه زعيم الاستقلال لجمهورية السنغال إضافة إلى الرئيس السنغالي عبدالله واد.

وفي كل عام، يأتي أحفاد الرقيق المحررين من جزر الكاريبي إلى “Goree” للاحتفال بتحررهم من العبودية أمام النصب التذكاري.

تبعد الجزيرة عن العاصمة نحو 15 دقيقة بالعبارة، التي تتحرك بين الجزيرة وداكار نحو 6 مرات في اليوم.

لقرون ظلت جزيرة “Gorée” رمزًا للموت والاستغلال البشري، لكنها الآن، ورغم ذلك، مكان أيضًا يمكن العثور فيه على الهدوء والسلام والمصالحة.