كتب – محمد الدابولي

يشهد السودان منذ عام تقريبًا تحولاتٍ سياسيةً متسارعةً على خلفية أزمات اقتصادية طاحنة ناجمة عن تفشي الفساد في مكونات الدولة السودانية وفشل النظام السياسي السابق في معالجتها، الأمر الذي أدى إلى زيادة السخط الشعبي في الشارع السوداني والإطاحة برأس النظام السابق «عمر البشير» في 11 أبريل 2019.

منذ الإطاحة بنظام «البشير» دخلت الأطراف السودانية، المجلس العسكري الذي تولى السلطة عقب عزل البشير و«تحالف قوى الحرية والتغيير» التي قادت الثورة ضد البشير، في سياق مفاوضات وترتيبات سياسية لمرحلة ما بعد البشير أفضت في النهاية إلى التوقيع على اتفاق تقاسم السلطة في يوليو 2019، الذي وضع مسارات السياسة السودانية خلال السنوات الثلاثة القادمة؛ مثل تشكيل المجلس السيادي المشرف على إدارة المرحلة الانتقالية التي ستمتد إلى 39 شهرًا، وتشكيل الحكومة السودانية الجديدة بقيادة «عبد الله حمدوك» التي كُلفت بمهام متعددة أهمها التخلص من إرث النظام البائد الذي أرسى قواعده المؤتمر الوطني بقيادة عمر البشير، ومعالجة الخلل في الاقتصاد السوداني.

تحظى حكومة «عبد الله حمدوك» بتأييد قوي سواء من الشارع السياسي السوداني الذي يراها بمثابة طوق النجاة من الأزمة الاقتصادية الخانقة، أو المجتمع الدولي الذي بات ينظر إليها على أنها الوسيلة الوحيدة للتخلص من إرث النظام السابق الداعم للجماعات المتطرفة طوال العقود الثلاثة الماضية، حيث تسعى الخرطوم حاليًا إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب حسب الولايات المتحدة.

 وفي هذا السياق أكد وزير المالية السوداني «إبراهيم البدوي» أن بلاده تواصلت مع واشنطن لتنسيق مؤتمر مانحين للسودان من المقرر عقده في ديسمبر المقبل، وذلك لطمأنة المانحين الدوليين (صندوق النقد والبنك الدولي والدول الكبرى) للموقف السوداني، رغم أن السودان لا يزال ضمن القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب.

رغم التأييد الواسع الذي تحظى به العملية السياسية الحالية في السودان إلا أن هناك العديد من التحديات التي تعوق إتمام عملية التحول السياسي في البلاد، وتهدد بمستقبلٍ ومصيرٍ غامضٍ للعملية السياسية برمتها، وتتوزع تلك التحديات ما بين تحديات متعلقة ببقايا النظام السياسي البائد، وتحديات متعلقة بالأوضاع الاقتصادية، وتحديات أخرى متعلقة بالخلل البنيوي في الدولة السودانية، وهو ما سيتم استعراضه في النقاط التالية:

أولًا- تسليم البشير للجنائية والتهديد بحرب أهلية

في الرابع من نوفمبر الجاري أصدر «تحالف قوى الحرية والتغيير» بيانًا أؤكد فيه إمكانية تسليم الرئيس المعزول للمحكمة الجنائية الدولية في حال تبرئته من قبل القضاء السوداني، الأمر الذي دفع ما يسمى «قوات الدفاع الشعبي» إلى التهديد باستخدام القوة وتحويل البلاد إلى حريق شامل لن يسلم منه أحد، وجدير بالذكر أن قوات الدفاع الشعبي تم تأسيسها كقوات موازية للجيش عقب في 5 نوفمبر 1989 لحماية نظام البشير ويقدر تعداد أفرادها بعشرات الآلاف من الجنود، وشاركت تلك القوات في العديد من الحروب التي خاضها النظام البائد في الجنوب ودارفور وقمع المعارضين، وبعد عزل البشير أصدر المجلس العسكري في 17 أبريل 2019 قرارًا بنقل تبعية الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية للقوات المسلحة السودانية.

ويأتي تصعيد الميليشيات والجماعات المحسوبة على البشير والمؤتمر الوطني في ذلك الوقت نظرًا لعدد من العوامل من أهمها:

  • فتح ملف انقلاب البشير – الترابي عام 1989: فمؤخرًا أصدر النائب العام السوداني قرارًا بتشكيل لجنة للتحقيق في أحداث انقلاب 30 يونيو 1989 والذي أطاح بحكومة الصادق المهدي حينها، حيث نفذت الحركة الإسلامية السودانية بقيادة «حسن الترابي» انقلابًا عسكريًّا على الحكومة الديمقراطية السودانية بواسطة عدد من العسكريين المنتسبين للحركة ومنهم الرئيس المعزول عمر البشير.
  • تجميد حسابات رموز نظام البشير: اتخذ البك المركزي السوداني خلال الفترة الاخيرة (29 اكتوبر) قرارات هامة لمحاسبة رموز النظام البائد؛ منها تجميد حسابات 42 شركة و8 أسماء شركات مملوكة لعبد الله البشير شقيق المعزول، وأيضا تجميد 9 شركات و11 اسم عمل تابعين للقيادي في المؤتمر الوطني مأمون حميدة، كما تم تجميد عدد من الشركات والحسابات المملوكة لنافع علي نافع مساعد البشير.
  • إبعاد رموز البشير عن المناصب الحيوية: اتخذت وزارة العدل السودانية يوم الخميس 7 نوفمبر قرارًا بإقالة 27 مستشارًا من المحسوبين على نظام البشير ونقل 27 شخصًا آخرين من ذوي المناصب الرفيعة في الوزارة، وذلك من أجل إنهاء سيطرة المؤتمر الوطني على المحاكم السودانية.
  • حل أذرع المؤتمر الوطني: من ضمن القرارات التي أثارت حفيظة أنصار النظام البائد، (قوات الدفاع الشعبي) في السودان، قرار حل الشرطة الشعبية التي شكلها البشير لتكون ذراعًا للمؤتمر الوطني، وتكون كيانًا موازيًا لكيان الشرطة الرسمية، ومن المحتمل -خلال الأيام القليلة القادمة- صدور قرار بحل المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في السابق) على خلفية الاتهامات التي وجهت لقادته بالفساد وارتكاب العديد من الجرائم في حق الشعب السوداني، حيث أكدت شبكة العين الإخبارية أن اللجنة الثلاثية المكونة من المجلس السيادي وقوى الحرية والتغيير والحكومة السودانية سترفع توصياتها في المستقبل القريب بحل حزب المؤتمر الوطني.
  • إرباك حكومة “حمدوك”: تأتي سياسة التصعيد الأخيرة في إطار محاولة من أنصار البشير والمؤتمر الوطني لإرباك جهود الحكومة السودانية برئاسة عبد الله حمدوك الرامية إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وترتيب مؤتمر دولي لأصدقاء السودان من أجل تسهيل إضافة المنح والمساعدات الدولية للاقتصاد السوداني.

ثانيًا- تأزم الوضع الاقتصادي

كانت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في نهاية عام 2018 هي من أججت الحراك الشعبي السوداني الذي بدأ وتيرته في ديسمبر 2018، ورغم نجاح الثورة السودانية في تحقيق مقاصدها السياسية في عزل البشير واجتثاث المؤتمر الوطني من المؤسسات السودانية إلا أنها لم تنجح حتى الآن في تحقيق مقاصدها الاقتصادية، حيث ما زالت الأوضاع الاقتصادية متدهورة وهو ما عبر عنه مؤخرا إبراهيم البدري وزير المالية السوداني بأن بلاده تحتاج إلى خمسة مليارات دولار دعمًا للميزانية لتفادي انهيار اقتصادي وشيك، وأن الاحتياطي النقدي في البلاد يكفي فقط لتمويل واردات البلاد لعدة أسابيع قادمة، فيما أكد رئيس الوزراء في تصريحات سابقة بأن بلاده في حاجة إلى ثمان مليارات دولار لإنقاذ الاقتصاد السوداني.

وتأزيما للأوضاع الاقتصادية أعلن الجهاد المركزي للإحصاء ارتفاع معدل التضخم في السودان لمستويات قياسية وصلت إلى 57% خلال شهر أكتوبر الماضي مقارنة بـ53% خلال شهر سبتمبر الماضي، ويعزو ارتفاع معدلات التضخم إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 61% وتعريفة ركوب المواصلات بنسبة 56%، وتحاول الحكومة إبقاء معدل التضخم خلال ميزانية العام الحالي في حدود 27%.

خطة النهوض

يسعى السودان -منذ تشكيل الحكومة الحالية- إلى وضع خطة للنهوض الاقتصادي في البلاد، وفي هذا السياق قدم كل من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ووزير المالية السوداني “البدري” ملامح خطة سودانية من شأنها حل الأزمة الاقتصادية الحالية خلال التسعة أشهر القادمة ومنع انهيار الاقتصاد السوداني تتلخص في الآتي:

  • زيادة رواتب موظفي القطاع العام: الحكومة السودانية إلى زيادة رواتب موظفي القطاع السوداني لمواجهة آثار التضخم وزيادة القوة الشرائية للمواطنين في البلاد.
  • تحويل الدعم العيني إلى نقدي: اوضح رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أن حكومته تناقش بشكل جدي في منح الفقراء والمهمشين إعانات مالية بجانب الدعم الموجه لبعض السلع الغذائية والوقود الذي أصابه التخفيض خلال الفترة الماضية، وأكد حمدوك أن خطته تهدف إلى بقاء دعم الخبز والوقود حتى يونيو 2020.
  • التنسيق مع المؤسسات المالية الدولية في تسوية الديون: تبلغ حجم الديون السودانية 60 مليار دولار لذا تسعى الحكومة السودانية خلال الفترة المقبلة بالتعاون مع صندوق النقد والبنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية على تسوية تلك الديون وعدم إرهاق الميزانية العامة السودانية بأعباء الديون خلال الفترة المقبلة.

تشير النقاط السابقة إلى أن الحكومة السودانية لم تتوصل إلى خطة ذاتية شاملة للإصلاح الاقتصادي السوداني حيث تربط الحكومة بين إمكانية نجاح خطتها وبين حجم الدعم الدولي المقدم لها من المؤسسات التمويلية العالمية.

 فالخطة التي وضعها «حمدوك» تعتمد بشكل أساسي على تمويل مرتقب سواء من بعض الدول العربية أو من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهم، وهو ما يضع مسار إصلاح الاقتصاد السوداني رهينة موقف الولايات المتحدة التي ما زالت تصنف السودان كدولة راعية للإرهاب يُحظر تقديم الدعم لها، لذا تأمل الحكومة السودانية في تجاوز الإدارة الأمريكية تلك المسألة لأجل الحصول على التمويل الدولي.

ثالثًا- إرجاء تشكيل المجلس التشريعي

سبق أن أعلن تحالف قوى الحرية والتغيير اعتزامه تشكيل المجلس التشريعي يوم 17 نوفمبر المقبل، وهو ما لاقى معارضة شديدة من قبل الجبهة الثورية السودانية (تضم 7 حركات مسلحة) باعتباره مخالفًا لاتفاق جوبا الذي عقد في سبتمبر 2019 بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية، حيث جاء إعلان جوبا بضرورة إرجاء المجلس التشريعي وتعيين حكام الولايات لحين عقد اتفاق سلام بين الحكومة والجبهة الثورية.

رغم اعتبار الكثيرين -ومنهم القيادي في الجبهة «ياسر عرمان»- أن إرجاء تشكيل المجلس التشريعي يعد حلًّا للازمة، إلا أنه يعد في ذات الوقت تعقيدًا للمشهد السوداني حيث من المحتمل ألا يتشكل المجلس التشريعي خلال المستقبل القريب في ظل انعدام الثقة بين الأطراف السودانية ورفض الجبهة الثورية الانخراط والاندماج بشكل كامل في العملية السياسية السودانية.